شعراء الألفية الثالثة| مروان مخُّول : ذاكرة وطن

شعراء الألفية الثالثة| مروان مخُّول : ذاكرة وطن
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

مروان مخول ، شاعر فلسطيني من مواليد " المبقيعة" من قرى الجليل (1979)

بجدارة تنتمي تجربته الشعرية المتميزة إلى الألفية الثالثة ، ويقدم تجربة تنتمي إلى القصيدة الفلسطينية التي تجاوزت بدورها قصيدة النكبة إلى آفاق إنسانية وجمالية أوسع من مجرد حصرها في قضية واحدة ، كأن الشاعر الفلسطيني محكوم بقيود جمالية تضيق عليه لتتسع لغيره ، صدر للشاعر ديوانان:

  • د. مصطفى الضبع

    مروان مخول ، شاعر فلسطيني من مواليد ” المبقيعة” من قرى الجليل (1979)

    بجدارة تنتمي تجربته الشعرية المتميزة إلى الألفية الثالثة ، ويقدم تجربة تنتمي إلى القصيدة الفلسطينية التي تجاوزت بدورها قصيدة النكبة إلى آفاق إنسانية وجمالية أوسع من مجرد حصرها في قضية واحدة ، كأن الشاعر الفلسطيني محكوم بقيود جمالية تضيق عليه لتتسع لغيره ، صدر للشاعر ديوانان:

  • أرض الباسيفلورا الحزينة – منشورات الجمل – بيروت 2011.([1])
  • أبيات نسيتها القصائد معي– منشورات الجمل – بيروت 2013.

والديوانان يمثلان تجربة من التحدي الذي كان على الشاعر قبوله ليقدم نفسه مفسحا لنفسه مكانا في الذاكرة الشعرية العربية التي اتسعت من قبل لمجموعة كبيرة من الشعراء الفلسطينيين في مقدمتهم : محمود درويش وسميح القاسم ، ومضيفا للخارطة الشعرية الفلسطينية أولا والعربية ثانيا ، ومعتمدا على تراث شعري كبير ، تراث تتعدد دوائره في دائرته الأقرب التراث الفلسطيني بكل حضوره ، وفي الدائرة الأوسع التراث العربي بكل سطوته ، الشاعر يستحضر الأبعد لأنه يعيش الأقرب ، ، يستحضر الأبعد مسقطا إياه على لحظته الحاضرة ، فالتراث العربي تأخذ مفرداته طابع المفردة الاصطلاحية فكلما تباعد الزمن بين اللحظة التاريخية وعمقها الزمني استوت في الأذهان تفاصيل ما تطرحه على متلقيها ، فالمتنبي والبحتري ومن قبلهم عنترة ، وزهير والأعشى وغيرهم اتخذوا جميعا طابع المفردة مستقرة الدلالة أو بعبارة أخرى تلك الجينات المستقرة في سياق التلقي ، و الشاعر حين يستحضرها يعتمدها – غالبا – بما تفرضه من دلالات ، محتفظا لها بكامل حقها في التغيير عبر إنتاج دلالات أخرى جديدة ، وفي الأقرب يكون للمدينة بتاريخها وشعرائها من أبناء وطنه حضورهم الدال وخاصة محمود درويش وسميح القاسم بوصفها مساحة للتراث القريب المتعين من قبل الشاعر الذي يعمد إلى محاورة هذا التراث بوصفه الصوت الند لا بوصفه الصوت الأقل لأنه المتأخر زمنيا ، الشاعر هنا يستحضر التراث البعيد ويعيش القريب الممتزج بالاثنين معا .

 

شعرية الصورة

يعتمد الشاعر على الصورة في كثافتها وفي قدرتها على اختزال الكثير متمتعة بحبكتها ، وفارضة نظامها اللغوي الفريد ، القادر على شحنها بالكثير مما يعد علامات شعرية تطرح نفسها على متلقيها :

بعد أن سقط الوطن في البئر

صار علينا بعد ستين عاما

أن نرفع الحبل قليلا ، ثم نتركه يسقط ثانية

فقط هكذا ، يتدرب الأمل على الصبر” ([2])

كغيرها من الصور تحمل هذه الصورة المقطعية صلاحية التمثيل لشعرية الشاعر وقضاياه الممثلة بدرها لرؤيته للعالم ، وتعبيره عما يتفاعل معه :

  • الزمن : ما حدث سابقا و لا دخل للذات في حدوثه أو تمثل فعلا خارجا عن الإرادة ، فعل ينتمي لأجيال سابقة، يحددها الشاعر بقرابة الجيلين (60 عاما بالتحديد ) .
  • مكان الحدث : البئر بوصفه المساحة الممثلة لما هو أدنى من المستوى العادي المألوف ، البئر المحفور عمدا من قبل السابقين .
  • الفعل الإنساني المقاوم : رد الفعل المستكين بعد ستين عاما من الفعل ، رد الفعل هنا تمثله الحركة المتوالية غير المجدية وقد تحولت إلى نمط : رفع الحبل وتركه ، نتيجة لمجموعة الأفعال المتدرجة / المتوالية / المتكررة : سقط – صار – نرفع – نتركه – يتدرب ، فإذا كان الحبل وسيلة التواصل مع الوطن الذي صار أسفل من مستوى الساعين لإنقاذه .
  • خلاصة التجربة : تدريب الأمل على الصبر ، وهنا تكمن المفارقة التي تجعل من الأمل عاجزا في حاجة إلى من يعلمه الصبر، كما أن النتيجة لا تتحقق للفاعلين من بني البشر وإنما تتحقق لغيرهم (الأمل ) الذي كان من المنطقي أن يساعد صاحبه غير أنه يساعد نفسه على فعل لا يعين أصحاب المأساة .

التشبيه

لأن بلاغة النص ليست هدفا في ذاتها ، وإنما هي بمثابة وسيلة بلاغية للاتصال تحقق ما يستهدفه الخطاب ، وتبث في النص (وله ) جمالياته المتراتبة في طبقات لا تتأتى إلا لمن يتعمق في استكشاف هذه الطبقات .

يعتمد الكاتب التشبيه بوصفه واحدا من وسائل بلاغة الاتصال :

وطني فتاة مغتصبة

           *******

قال لي جدي ، فلسطين فعل ماض ناقص

قال أبي ، بل هي فعل مضارع

أقول وقد ناحت بقربي طيارة : جدي معه حق

وأبي كذلك ” ([3])

تتشكل قصيدة ” النهر ” من سبع صور ، أربع منها تقوم على التشبيه :

  • النهر واد /حامل أكثر من طاقته
  • النهر سيف إن ثار
  • النهر رجل عنيف يتحداني دوما
  • “النهر شاعر بخيل لا يلقي بقصائده الجميلة إلا للبحر “([4])

تتوالى المقاطع التصويرية للنهر متجاوزة معرفة المتلقي خارج القصيدة ، راصدة محاولة دالة لتعديد الصور عبر تعديد المشبه به المتعدد (واد – سيف – رجل – شاعر ) موسعا من أفق التلقي ، وجاعلا من المشبه به علامة تمهيدية لبث الفعل التالي للمشبه به بوصفه معبرا للفعل ، وهو ما يتجلى في الترسيمة المتكررة الكاشفة عن قانون المنتج الشعري كما في المثال التالي:

المشبه (النهر )+ المشبه به(شاعر) + الفعل (لا يلقي بقصائده إلا إلى البحر)

وهو ما يجعل من المشبه به علامة ليست مقصودة لذاتها ، وإنما هي مقصودة لغيرها ، تمنح المتلقي علامة مختزلة لصفات مؤهلة ، كما تمنحه قدرا من الحيوية عبر توجيهه إلى مسارات متعددة تتبلور في دوائر متداخلة تحيط بالمتلقي مؤطرة حدود حركته ، معتمدة على وظيفة المشبه به المزدوجة : استدعاء المفردات ، وتوجيه المتلقي إليها دون أن يعني المشبه به نفسه بقدر ما يعني به هذه الحركة الحيوية الممثلة في التوجيه .

 

الشمس

تكاد الشمس تكون علامة شعرية لها خصوصيتها في الشعر الفلسطيني خاصة والأدب الفلسطيني عامة ، وتتجلى واضحة في الشعر والرواية ، يمكنك مقاربتها عند جميع الشعراء ، مما يجعلها بمثابة البصمة الشعرية للقصيدة الفلسطينية ، تلك القصيدة التي تمثل بدورها الهوية الفلسطينية حيث الشعر هوية الجماعة عبر الفرد ، أو تلك التي تعبر الجماعة عنها من خلال فرد واحد يكون عليه أن يطرحها للتعبير عن جماعته :

  • في ديوانه الأول تتواتر المفردة ،منتجة نظامها الدلالي:
  • ها لنا غد أمام أمس مفعم بالشمس ” ([5]) منطلقا من الوظيفة التقليدية للشمس ، بث الأمل عبر فاعلية الضوء والدفء.
  • “” فجلست على مقعد تنظر إلى السماء ، فتشم الشمس في أولها ، بل وآخرة خريج المدرسة أعلاه” ([6])، موظفا تراسل الحواس حين تدرك الشمس بحاسة الشم .
  • كم من الوقت مر على الصبا / ليلقي الشمس طالعة / من بدايات الغروب“([7])، تشكيلا لصورة مجازية لها قوة المواجهة مع الأقوى في مروره بصورة لها طابع العبث.
  • تزاول عملك بما أوتيت من شحنات الشمس السالبة فتبدو كأبيك ” ([8])، محولها إلى طاقة مضادة عبر الجينات الوراثية .
  • عندما يصطبح الجبل الشرقي على الشمس ، ويشكرها البحر لغروبها الرمادي ، ثمة ثلج ما ..يبكي ” ([9]) طرحا لمعنى التوافق بين الموجودات .
  • وفي الديوان الثاني تتكرر المفردة ثماني مرات ، تضيف إلى سابقتها منها :
  • ولا أحدٌ يكذّبني إذا أشرَقْتِ بالفستانِ شمسًا، عند منتصف المساء” ([10]) طارحها عبر استعارة تحرك متلقيها بين طرفيها المتباعدين.
  • جليٌّ كلُّ ما قد مرَّ بالصّبحِ

ومع هذا الضّحى أعمى

لأنّ الشّمسَ شمسانِ،

أمَلُّ الوقتَ حتّى اللّيلُ يأتيَني بخمراتٍ

تُعيدُ الوعيَ «للسَّهّيرِ» زيديني

فقد أصحو إذا أسكر” ([11]) مطورا وظيفة الشمس بإدخالها في علاقة فلسفية من شانها تفسير جانب من الوجود المرئي.

  • لغروبِ شمسٍ، أكتفي بشروقها الآتي فلا يتبدَّلُ المعنى سوى للمقْصِدِ الأسمى وأعلى من سقوطي أنّني أقوى على حزني وأرقى من رؤايْشكرًا” ([12]).
  • أعمل من بزوغِ الشّمس يا صاحبي حتّى بزوغها مرّة أخرى كأنّي يا صاحبي كأنّي…!

تحيّاتي أيّها الحمار!“([13])

وعلى مدار التجربة تعمل الشمس – بوصفها عنصرا كاشفا- ، على إدراك الوجود عبر دوائر تبدأ من الذات إلى الكون الواسع حيث الحقائق واضحة وضوح الشمس التي تنتقل من كونها عنصرا من عناصر الطبيعة إلى كونها عنصرا من عناصر القصيدة .

شعرية المدينة

شعرية الأمكنة لا تعني رصد مستواها الاقتصادي أو الجغرافي والسياسي ، إنها مزيج من كل ذلك يتجلى فيما يمكن الاصطلاح عليه بالمستوى النفسي للمكان ، ذلك المستوى الذي لا يتكشف إلا من خلال محلل نفسي (الشاعر) له خبرته بالمكان ، تلك التي تجعله قادرا على توظيفه استكشافا لجوانبه العميقة ، تلك الجوانب التي لايراها سواها ، ولا تتكشف له إلا من خلال بصمة خاصة للمدينة تكشفها زاوية رؤيته التي تتكشف عبر عدد من العلامات التي تمنح ديوان الشاعر الأول طابعه المكاني :

  • الديوان ينقسم إلى قسمين : الغرفة الأولى وتتضمن سبع عشرة قصيدة ، أربع منها تحمل إشارات مكانية : صورة آل غزة – 62 شارع الاستقلال ، حيفا – الجولان ..تفاحة سمراء – كنيسة مارفلان . الغرفة الثانية وتضم اثنتي عشرة قصيدة ، تسع منها تحمل إشارات مكانية : في قطار تل أبيب – أرض الباسيفلورا الحزينة – ألو بيت حانون – عروس الجليل – القدس – النهر – الحافلة 44 – نافذة إلى النافذة – عن أسبوع في القاهرة ، فيما تتضمن القصائد إشارات مكانية غير مباشرة .

ولا يبتعد الديون الثاني للشاعر عن النسق المكاني نفسه ، حيث تنقسم القصائد إلى قسمين أساسيين :أولهما : صيغة مكانية لها طابعها المجازي “من جعبة الحب ” وتضم ست قصائد ، واحدة منها تتضمن علامة مكانية (القصيدة المعنونة بعنوان القسم نفسه ) ، وثانيهما ” عاش البلد / مات البلد ” ويتضمن تسع قصائد ، قصيدتان منها تتضمنان إشارة مكانية : عاش البلد ، مات البلد – عربي في مطار بن جوريون ، فيما تتضمن القصائد إشارات مكانية غير مباشرة .

الشاعر لا يكتب عن الأمكنة من حيث هي نظام للحياة ، وإنما يكتب بها من حيث هي نظام جمالي يستهدف تحقيق خطابه بكل مايحويه من مفردات البلاغة ، وبكل ما يبثه الشاعر من مقومات جمالية تجعلها أقرب للتعبير عن وعي القصيدة بعالمها وبرؤيتها تلك المتضامنة مع رؤية شاعرها لتكون بمثابة المتحدث الرسمي عنه .

المكان المحدد ، والمعروف بمرجعيته الواقعية في القصائد يتشكل وفق دائرتين : دائرة الداخل ، فلسطين ومساحة حركة القصيدة وشاعرها من خلال تفاصيلها ، وهي دائرة تبني نفسها على وعيها بمحيطها الاجتماعي ، ودائرة الخارج ، المدن العربية والعالمية التي تشكل في قصيدته مساحة أقل محتفظة بقيمتها الدلالية .

في النوع الأول تتصدر مدينة القدس منتجة سياقا فلسطينيا خالصا :

” أريد من القدس ……في القدس أشياء أحلى / إن لي في المدينة فتاة ليست من طينتي “([14])

لا يقف الشاعر عند المدينة بوصفها دليلا على أزمة سياسية ، وهو التناول التقليدي الذي حصر فيه البعض الأدب الفلسطيني عامة وكأن الشاعر الفلسطيني يتخلى عن أزمته إذا ما انشغل بما يخص التجربة الإنسانية ، لذا تأتي المدينة جملة شعرية دالة ليس على نفسها بقدر ما تدل على حالة إنسانها ذلك المتجول في تفاصيلها الأهم .

وفي النوع الثاني تتصدر : القاهرة ، تلك التي يقدم الشاعر عنها تقريره الشعري ، حيث يطرح المدينة رأسا :

في القاهرة ، وبعد أن مل أشجارها الحزينة ، يسقط ورق الخريف في الأرصفة ليروح عن نفسه ، أو ربما ليمشي بين أهلها ، يتعلم من خطاهم إيقاع الضحية في الخلاص“([15])

هكذا يقدم الشاعر تقريره الشعري عن المدينة وأهلها وتفاصيل جغرافيتها ، وتاريخها والتركيب الديمجرافي النفسي لسكانها :” المصريون خليط مثير من طيبة مبالغ فيها ، ومن سرور يدافع عن حقه في عاطفات الزمان ، لذا تراهم وهم يفاخرون بكثير من القليل المكابر ، ربما لأنهم وحدهم من يحاولون النوم هربا من نوبة برد تعصف في أمعاء القدر الحساسة ” ([16])

ويظل الشاعر بوصفه راصدا للمدينة على مسافة ما من المشهد ، معتمدا على ضمير الغائب دون أن يعلن عن ذاته حتى منتصف المشهد تقريبا ، حيث يعلن عن نفسه واضعها في عمق الأحداث وفي بؤرة المشهد :

هنا بالذات ، لايسعك سوى أن تشفق على الليل ، الذي وحده يعرف سر هذا الهياج المهشم كوجه شعبولا وسلفستر ستالوني .

وحدك ..أو وحدي أنا ، على قارعة الزيارة ، أشفق على الليل المجروحة ظلمته ، من نور فندق أجنبي على ضفاف النيل ” ([17])

متنقلا بين ذاتين عبر ضميرين : الأنا (المتكلم) والمخاطب موسعا من دائرة التأثير تأثير المدينة على زائرها ، ومعبرا عن سطوة ، ذلك الزائر الراصد لمدينة عبر صورة بصرية تجمع بين المتضادين : النور والظلام ، مشفقا على ليلها الذي يجرحه نور فندق (أجنبي ) على ضفاف النيل ، مشعرا المتلقي أن ضفاف النيل (كلها ) يحتلها فندق يفرض سطوته عبر نوره الممتد على مساحة المكان ، فيما يكون الزائر وحيدا ، والوحدة هنا ليست وحدة المكان بقدر ماهي وحدة الرؤية فالمدينة ينشغل أهلها عنها :” تهيج الجموع فرحا من غير سبب ، سوى فوزهم في دوري ألعاب الأمم الأفريقية ، الذي ينسيك فقدان فرح باطني أهم ” ([18]) أو إنهم :” يزاولون الفقر ببراعة متقنة ” ([19]) ، يجعل الشاعر لتقريره الشعري عن المدينة مستويين أو وجهين نابضين : النقد أو المديح ، تماما كوجهي المدينة نفسها وتصرفات ناسها ، لك أن ترى المديح في تعاطفه مع المدينة وإشفاقه على صورتها ، ولك أن ترى النقد في تلك الاستكانة التي تعانيها مجموعة من المواطنين الذين يمارسون الفقر ببراعة متقنة دون محاولة تغيير الصورة ، هنا تلتقي صورتان : صورة نهارية تموج بالحركة البشرية في ممارسة الفقر والتسول ، وصورة ليلية يجرحها نور غريب ليس نابعا من أهل المدينة أو بيوتها ، على الرغم من أنهم يحبون بلا سبب تماما كأمه :” أهل هذي المدينة يشبهون أمي التي علمتني عواطفها أن أحب بلاسبب ، سوى حاجتي إلى حبيب يدربني ، على تربية المشاعر في القلب ” ([20]) تلك المشاعر التي يربيها أهل المدينة فقط لمجرد التربية دون أن يكون لها أثرها على الأرض أو تحققها في الصورة شديدة التأثير ، فالذين عليهم أن يشكلوا وعي الجماهير أو يربوا هذا الوعي لا يرون الواقع منفصلين عنه في الأعلى :” من هذه السفن البطيئة ، أرجوك ارفعي ناظريك إلى طابق تاسع من عماراتك المحيطة بميدان طلعت حرب ، وري أدباءك السكارى ، يشتمون نظاما افتراضيا لا شخوص فيه ولا أسماء ، يدخنون أفيونا ويكتبون شعرا عن جوع بغداد البعيد .. مثل دمشق ” ([21])

لا يطرح الشاعر العلامات المكانية مجانا ، ولكنها تتعاضد جميعها لتشكيل الدلالة النصية وتحققها :

  • السفن البطيئة علامة على حركة زمنية لا تختلف عن حركة التطور ، فالسفن كسولة ، والكسل سمة ذاتية داخلية النزعة خارجية التأثير .
  • طلعت حرب يؤكد صورة الفقر بمعناه الاقتصادي ، ذلك الفقر المغاير لما كان عليه اقتصاد وطن قام عليه طلعت حرب بوصفه الشخصية الاقتصادية الأهم في تاريخ مصر الحديث .
  • الأدباء في انفصالهم عن واقعهم واتصالهم بما هو بعيد ، يسقطون آراءهم على المدن البعيدة او على الآخر البعيد .
  • طابق تاسع غير محدد كاشفا عن تعدد الحالة أولا ، ومساحة التضاد مع السفن ثانيا (الحركة والثبات ) (البطء والكسل ) وهو ما يشي بحالة من الموات تصيب مدينة لها تاريخها ولها سكانها ولها أدباؤها .

وفي نهاية التقرير الشعري الحاسم في دلالته يطرح الشاعر صوتا يليق بمدينة هذا حالها ” لا الواقع منفرد يدهشني . ولا الخيال . إنما لي أن أحب واقعي خياليا قليلا . كي أصدق ما يقوله لي الأمل ” هذا ما يهذي به حالم ما ، مشى في منامه على غفلة من أبوية البلد ” ([22])

هو صوت يليق بمنتج التقرير على لسانه أو على لسان أحد أبناء المدينة نفسها ، حالم يغافل أبوية بلده ليعلن عن مبادئه في حياة يراها تليق به .

ينتهي أمر الشاعر في تقريره بخطاب ينفرد بصيغة الأمر الوحيدة في القصيدة :” اركب يا كل من ليس من مصر متن عنقاء الرماد ثم ارتفع . وأشكر ربك الشخصي وقل : رغم حبي الشديد لمن في القاهرة ولكن حمدا للصدفة أنني سائح ، على سفر بعد ساعة ” ([23]) قد يحمل الخطاب تهديدا للتخلي عن مدينة لا تملك من الوعي ما يجعلها قادرة على تجاوز مشكلاتها ولا النهوض بإنسانية أبنائها فتتكرر الأيام والأحداث ،”في كل غد يقلد في السليقة أمسه الوحش ” ([24])

مروان مخول شاعر عربي يحول الحياة إلى شعر ، كل شيئ صالح لأن يدخل القصيدة فقط يمر على خيال شاعر يدرك تماما كيف تتأهب التفاصيل للدخول إلى مملكة النص دونما مشكلات الدخول وتعقيدات الحدود الفاصلة بين الشعر والحياة والكون الواسع ، ولندرك معه أن القصيدة الفلسطينية لم تحتكرها الأزمة وإنما هي احتكرت الأزمة لتقول كلمتها محافظة على ذاكرة المقاومة بطريقتها الخاصة ، ووفق معاييرها الاستراتيجية لمنحنا قدرة على مكاشفة وعي الشاعر حين يستوعب اللحظة وحين يجعل من القصيدة ذاكرة ثقافته الحية.

…………………

هوامش وإحالات

[1] – باسيفلورا (passiflora ) نبات مثمر ، يسمى فاكهة العاطفة .           

[2]مروان مخول : أرض الباسيفلورا الحزينة – منشورات الجمل – بيروت 2011، ص 86.

[3]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 86.

[4]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 88- 89.

[5]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 60.

[6]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 69.

[7]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 76.

[8]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 102.

[9]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 115.

[10]مروان مخول : أبيات نسيتها القصائد معي – منشورات الجمل – بيروت 2013 ، ص 22.

[11]أبيات نسيتها القصائد معي ص 30.

[12]أبيات نسيتها القصائد معي ص 52.

[13] – السابق نفسه .

[14]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 81.

[15]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 116.

[16]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 116.

[17]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 117.

[18]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 117.

[19] أرض الباسيفلورا الحزينة ص 117.

[20]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 118.

[21]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 118.

[22]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 118.

[23]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 118.

[24]أرض الباسيفلورا الحزينة ص 117.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)