شعراء الألفية الثالثة: إبراهيم الخالدي

موقع الكتابة الثقافي writers 53
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د.مصطفى الضبع

تقوم خارطة الشعر العربي على آلاف الأسماء من الشعراء، ويتسم كل عصر بسماته الخاصة، كما تتشكل شعرية كل جيل وفق محددات فنية ومعرفية مؤثرة، وفي المقابل تتعدد الدراسات والمقالات المقاربة لهذا الكم من التجارب الشعرية، غير أن خارطة الشعر العربي في مجملها ليست محددة الملامح عبر وضعها في سياق واحد أو في صورة واحدة تحدد جوانب خفية فيها وتلملم شتاتها من خلال عدد من الدراسات الممتدة القائمة على منهج محدد للوقوف على الخارطة الشعرية العربية في مرحلة تختفي فيها الكثير من جوانب المشهد بفعل الدراسات المتناثرة على مساحة الوطن العربي، يتناثر الإبداع بفعل عوامل جغرافية واجتماعية وسياسية مختلفة ولكن يكون على النقد أن يجمع هذا الشتات المتناثر لتقديم مشهد يحمل تفاصيل صورة لابد من اكتناز تفاصيلها للوقوف على عصر بأكمله تتعدد أصواته للدرجة التي قد يفقد فيها المتلقي العادي على مقاربة التفاصيل التي تتعاضد لتشكيل المشهد، وهو ما تسعى هذه الصفحات ـ مجتهدة ـ إليه لرسم مشهد شعري يكشف عن الخطوط المتقاطعة والشعريات متعددة الوجوه.

وإذا كانت الصورة الواضحة المعالم في الوطن العربي تتبلور في عدد من التفاصيل، في مقدمتها:

  • أصوات شعرية متعددة.
  • مقالات ودراسات متعددة تنشر في دوريات أكثر تعددا.
  • وقوف المجلات المتخصصة على مساحات اعتادها النقاد أحيانا.
  • افتقاد المؤسسة الثقافية للمشروع الذي من شأنه الكشف عن المساحة الأكمل للخارطة الشعرية العربية.
  • لقد كشفت المجلات المعنية بالشعر العربي سابقا (أبولو – شعر- الآداب ) عن جيل تشكلت ملامحه في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ولكن المساحات التالية لم توضع في سياق قادر على الكشف عن أطراف المشهد وتفاصيله ، مما يجعل الفرصة متاحة للوقوف على المشهد بصورة منظمة تكشف عن أسماء تلعب دورا مؤثرا في تشكيل المشهد من أمثال : إبراهيم الخالدي – عبد المحسن الطبطبائي-عواطف الحوطي – غريد البوح – منصور العازمي (الكويت )، أحمد بخيت – السماح عبد الله الأنور إيهاب البشبيشي – مؤمن أحمد – عبد الحكم العلامي – شيرين العدوي – شريف الشافعي – حسن شهاب الدين – جيهان بركات – تقى المرسي (مصر) ، تميم البرغوثي، مروان مخول (فلسطين )، حازم التميمي – عمر عناز- ورود الموسوي (العراق )، كريم معتوق – حسن النجار (الإمارات )، محمد المغربي – خالد الرميضي – رجا القحطاني (الكويت)، سوزان عليوان (لبنان)، عبد الرحيم حسن حمزة ( السودان)، محمد ولد الطالب – محمد باب ولد حامد – ليلى شغالي (موريتانيا) ،محمد إبراهيم يعقوب (السعودية )، محمد تركي حجازي – ميسون أبو بكر – مها العتوم (الأردن )، محمد مرهون (البحرين )، ناصر لوحيش(الجزائر).

وهي قائمة ليست نهائية وليست هي القائمة الجامعة للمشهد الشعري الراهن، وإنما هي تمثيلات لمشهد شديد الخصوبة ، مشهد مشتت التفاصيل ربما تضم احتفالية عربية بعض عناصره ، وقد تتوقف عند بعض نتاجهم دراسة تقف على قضية يتماس فيها بعض القصائد ، وقد تجمع دراسة ما بطريقة ما بعض هؤلاء ولكن يظل المشهد جزرا معزولة باقتدار ، لا يجمعها سوى أعمال ببليوجرافية تجمع شتات المشهد تتلوها دراسات تقف وفق منهج علمي صارم على جوانب المشهد بعناية العلم ووفق ذائقة النقد.

القائمة السابقة تمثل قائمة أولية لقراءة المشهد، دون الوقوف عليها تماما ، وإنما ينضاف إليها الكثيرون ممن لا يتسع المقام هنا لذكرهم، وتجتهد محاولتنا هذه للوقوف عليه وفق قراءة تنحو منهجا تعريفيا بالتجربة الشعرية عبر نماذجها المتحققة .

إبراهيم الخالدي

ثلاثة دواوين تمثل مساحة تجربة الشاعر الكويتي إبراهيم الخالدي (من مواليد الكويت 1971)، وتمنح متلقيه مساحات تشكل أفق العالم الشعري ومنطلقات التجربة التي تتأسس على رؤية صاحبها للشعر في نهاية الألفية الثانية وبداية الثالثة :

  • دعوة عشق للأنثى الأخيرة – الكويت 1994.
  • عاد من حيث جاء – الكويت 1997.
  • احتمالات المعنى – الكويت 2005.

يتصدر الدواوين ثلاثة عناوين تتدرج من جملة نحوية مكتملة إلى جملة مختزلة مرورا بما يتوسط بين الجملتين ، فإذا كانت “دعوة عشق للأنثى الأخيرة ” جملة تحتمل التشكل من مبتدأ (دعوة عشق ) + خبر (شبه الجملة : للأنثى الأخيرة ) مما يجعلها جملة مكتملة نحويا مكتملة دلاليا عبر إحالتها إلى الديوان الذي يكون بمثابة الخبر للعنوان (المبتدأ) ، فإن صيغة الجملة الفعلية “عاد من حيث جاء” تقيم الاحتمال نفسه عبر إحالة الفعل إلى غائب نحويا (تطرحه القراءة دون تحديد )، حاضر نصيا ولكنه حضور على مستوى النص يحيل بدوره إلى حضور على مستوى اللحظة التاريخية فالتركيب يمثل مطلع القصيدة الخامسة من الديوان ، والفعل فيه يحيل إلى العنوان (الفتى الهاشمي):

“عاد من حيث جاء

الفتى الهاشمي النقي الرداء

كان في مصر والشام والنهروان “([i])

مما يجعل العنوان والمطلع و الفعل تتعاضد جميعها لتشكيل سردية تأخذ متلقيها عبر مساحة التشويق التي يطرحها العنوان ذلك الذي يظل صيغة عامة مغيبة عند قراءة عنوان الديوان ويظل المتلقي باحثا عن معناها أو متشوقا لما تطرحه حتى تتكرر الصيغة في مطلع القصيدة ليتجدد حضور الشفرة التي تأخذ في كشف ما تطرحه على متلقيها من دلالات في حضورها الأول (عنوان الديوان )وحضورها الثاني (مطلع القصيدة ) وبينهما عنوان القصيدة الذي يمثل عنصرا يسهم مع الحضورين في تشكيل الصورة المتلقاة.

وفي الديوان الثالث تأخذ الصيغة طابعها الإيجازي الواضح ، حيث تقوم على مفردتين تشكلان سبيكة من المضاف والمضاف إليه (احتمالات المعنى ) وهي صيغة تحيل إلى دلالتين:

  • دلالة الاحتمالات التي أقامها الشاعر عبر ديوانيه السابقين .
  • دلالة الاحتمالات التي يطرحها العنوان في علاقته بقصائد الديوان ، وخاصة القصيدة التي تحمل العنوان نفسه ويضع لها الشاعر عنوانا فرعيا (بحث في ثنايا شطر المتنبي)، حيث يعمد الشاعر إلى تشكيل نصه ، معتمدا التناص([ii]) مع الشطر الأول من بيت المتنبي الشهير:

فَالخَيلُ وَاللَيلُ وَالبَيداءُ تَعرِفُني       وَالسَيفُ وَالرُمحُ وَالقِرطاسُ وَالقَلَمُ

ومقيما نصه وفق حوارية مع النص تتأسس على شطر واحد يشطره بدوره إلى شطرين يكرر الأول (الخيل والليل) ثلاث مرات، في كل مرة يتدخل الشاعر بنمط مختلف للتعليق على أو الإخبار عن (الخيل والليل) بوصفهما مبتدأ، وهي طريقة مغايرة للشكل القديم للمعارضة أو التخميس أو النقائض ([iii]) فالشاعر هنا يعتمد طريقة “مقلوب التخميس ” فإذا كان التخميس يقوم على تقديم الشاعر مقولاته على مقولات الشاعر السابق دون تجاوز نظامها الشعري ومحافظا على الوزن بوصفه القالب الأساسي ، فالشاعر هنا يبدأ بالشاعر السابق معيدا قراءة نصه بلغة مغايرة يستقل فيها بإيقاعه الخاص عازفا على أوتاره الخاصة :

(الخيل والليل )

  1. خيط : من الآباء تربطه الظنون ، وتحتويه العنعنات ، ويقتفيه الداخلون إلى الحمى .
  2. خيط : من الهوس المقوى والشواهد والنقوش وقبرات المائدة .
  3. خيط : من الأسماء ، والمدن المباعة ” ([iv])

مكررا الخبر (خيط ) وجملة الصفة التابعة له مما يضعنا أمام تركيب متكرر يقوم على بناء ثلاثي (المبتدأ + الخبر + الصفة ) والبناء ينتظمه منهج الغياب والحضور : ذكر المبتدأ مرة وتغييبه مرتين وذكر الخبر مكررا بلفظه ثلاث مرات ، وتنويع جملة الصفة في دلالتها على أن تنوع الصفة يحيل على تعدد دلالة الخبر بكل ما يطرحه من معان دالة .

وفق ثلاثة أنواع من الجمل يمكن مقاربة تجربة الشاعر :

الجملة النحوية : جملة تعتمد على قوانين النحو ولا تخالفها وهي الصيغة الأصغر في تشكيل الجملة ، تتأكد سلامتها أولا وقدرتها ثانيا على تقديم الجملة التالية لها حيث لا يقوم التلقي الصحيح إلا معتمدا على جملة صحيحة لغويا .

الجملة البلاغية : الجملة التي تتشكل بلاغيا وقد تقوم على الجملة النحوية الواحدة أو تتشكل من مجموعة من الجمل النحوية ، وتلك جملة يمكن من خلالها مقاربة مساحات التشكيل البلاغي على مستوى النص الشعري أولا وعلى مساحة أعمال الشاعر جميعها ثانيا .

الجملة النصية : الجملة القائمة على جامع النص وفيها تتعدد القراءة حسب التعديل والتبديل في تعدد السياقات داخل النص الواحد فعناصر الجملة النحوية قد يتم تعديل سياقاتها داخل النص بحيث توضع الجملة الواحدة في أكثر من سياق مما يعدد المعاني والدلالات حسب تعدد السياقات وفي قصيدة “احتمالات المعنى ” يمكن لعناصر الجملة النحوية الخروج من دائرتها النحوية إلى دائرتها النصية اعتمادا على تقسيم المقاطع الثلاثة حسب العنصر الأكثر دورانا في السياق المقطعي ، فالمقطع الأول تغلب فيه بنية الاسم على الفعل مما يجعله مهادا لزمن غير محدد وخلفية زمنية ليست محددة الملامح لعدم ارتباطها بفعل يحدد زمنها أو يعطيها من زمنه الخاص ، والمقطع الثاني يغلب عليه دوران الفعل ويمكن تقسيم الفعل إلى نوعين حسب الفاعل :

  • نوع مسند للفاعل المخاطب وهي ثلاثة أفعال (تألف – تنتقي – فتفهم )، والأفعال هنا ممتدة التأثير في فاعليتها ، تقيم بدورها سردية عبر ترتيبها الدال فالألفة ومحاولتها تؤسس لقدرة الإنسان على الانتقاء (فتنتقي ورق الرسائل والطوابع / والصناديق التي تجتر ألوانا يقوسها المطر ) وهو ما يعني إمكانية التواصل مع العالم مما يوسع من دائرة الفهم أو يؤكده ، وفعل الفهم المترتب على الفعلين السابقين ممتد التأثير :

فتفهم البذخ المقامر

اشتهاءات الفتى

شبق النوافير / المطارق / همهمات الفتى

مسطرة القلق ” ([v]).

حيث الفعل الواحد (تفهم ) تتعدد مفعولاته (البذخ – شبق –المطارق – همهمات- مسطرة)، وهي محاولة من أفعال الذات أن يكون لها قوتها المناهضة أو المكافئة أفعال العالم

  • نوع مسند لقوى أخرى (تركتك-رحلت – تنزف – تلوح – يسلوك – تحذفك – ينثرك – تجتر ألوانا – يقوسها).

حيث يكون حضور الذات في كثير منها محصورا في كونه مفعولا به مما يجعل من أفعال النوع الثاني دليلا على غلبة هذه القوى في مقابل ضعف الشاعر المنحصر في أفعاله الثلاثة .

التكرار

يحيل التكرار إلى جملة بلاغية غير أنه يشكل نطاقا أساسيا في تشكيل الجملة النصية ، حيث تكراره في حد ذاته يمثل ظاهرة نصية تكشف عن آليات اشتغاله عبر أعمال الشاعر ، وخاصة في ديوانه الثالث يعد التكرار التقنية الأكثر تجليا ،كما يمثل ظاهرة فنية في تسع قصائد يضمها الديوان ، وهو ما يعضد بالأساس فكرة احتمالية المعنى ، فالتكرار وإن كان لفظيا فإنه لا يعني تكرار المعاني وإنما تراكمها أولا ، وقدرتها على إنتاج الجديد من الدلالات على مدار الظواهر الفنية للتكرار المطروحة عبر ديوان الشاعر بوصفه نموذجنا لاكتشاف الظاهرة .

يطرح التكرار نفسه منذ القصيدة الثانية في الديوان ” آخر الزمان ” التي يقسمها الشاعر ثلاثة مقاطع مشهدية مكررا في كل مشهد تعبيرين مفصليين “يجئ زمان ” ، ” فإن أدركتك الليالي”، طارحا على متلقيه رؤية استشرافية لمستقبله تحمله فيما تحمله دلالة التحذير والتبصير، فهو لا يكتفي بالكشف عن الأمور وخطورتها وإنما يطرح كيفية التعامل معها :

  • (1) يجئ زمان …

تضيع من الناس أسماؤهم ويكسر ناموس أحلامهم

وتنفرط الأرض كالمسبحة

فإن أدركتك الليالي :

فلا ترتضي بالمفالي العشيبة حد الهوان

وألق بنفسك في المذبحة ” ([vi])

والمشهد يطرح أول ما يطرح أسئلته عن أحداث يختزلها الشاعر في نتائجها فالمتلقي يتساءل عن أسباب حدوث الأفعال المتوالية (تضيع – يكسر- تنفرط ) تلك التي يكتفي بنتائجها وهي تتضام لتشكل مشهدا لزمن آت يعلن الشاعر عن حتميته بالفعل الاستهلالي (يجئ زمان ) ولأن المستقبل في العربية غير محدد بالقرب أو البعد فإن تنبيه الشاعر يكون مفتوحا مما يعمل على تقوية التنبيه

  • (2) يجئ زمان …

تراود فيه القصيدة عن نفسها

ويضاجعها السابلة

فإن أدركتك الليالي :

فلا تصطفي فخذيها

وبادل بليل التواطؤ عذرية ذاهلة “

  • (3) يجئ زمان …

يذوب الصديق على وهن من يديك

ويمنحك الطعنة القاتلة

فإن أدركتك الليالي

فدعه يوارك بين جناحيه ..

..ابتسم !

إنها سنة الأولين

وأول درب إلى الغاشية !”

في قصيدته “التجربة الأخيرة ” تتكرر الجملة الاستهلالية التي تطرح نفسها بوصفها جملة مفتاحية لقراءة العالم ، القصيدة المهداة إلى شهداء الانتفاضة الفلسطينية :

” جرب رصاصك حين تصطدم الحروف بخوذة الجندي كي تصغي لك الدنيا وتنتبه العقول ” ([vii])، بعدها تتكرر جملة ” جرب رصاصك ” ست مرات تكون بمثابة العلمة اللغوية التي يقوم عليها عدد من الدلالات فهي :

  • الكلمة المفتاحية التي يستعيدها المتلقي على رأس كل صورة لتكون فاتحة الصورة في امتدادها .
  • المنطلق البصري الذي يقوم على تكرار العلامة اللغوية تلك التي يدركها المتلقي بصريا أولا قبل إدراكها معنويا ، خاصة وأن المفردة “رصاص” تتكرر مرتين خلاف تكرارها في التركيب السابق .

وفي سياق الجملة النصية يعتمد الشاعر عددا من الطرائق المتعددة ، منها :

  • استدعاء الشخصيات التراثية : كما أن قصيدة الشاعر تتواصل مع تراثها الأول (عبر الشكل العمودي أولا وإيقاعات القصيدة المتنوعة ثانيا ) ، يعمل الشاعر على أن يتواصل مع تراثه العربي الحي عبر منافذ وقنوات متعددة للتواصل في مقدمتها تلك الشخصيات التراثية التي يقيم الشاعر تواصله معها عبر تقنية الاستدعاء التي تتصدر ديوان الشاعر الثاني بإهدائه الديوان :” إلى طرفة بن العبد … والذين نحبهم ” ([viii]) وتتوالى بعدها الشخصيات الحقيقية والاعتبارية : المماليك –القبائل المضرية – جرير وجميعها تحيل إلى قطب زمني سابق (الماضي ) في انتمائه إلى الزمن العربي تحديدا مما يجعل متلقيها متحركا بين علامتين زمنيتين افتراضيتين تتجسدان رويدا تبعا لأحداث يطرحها المشهد النصي .
  • القصيدة العمودية – التفعيلة : تعبر تجربة الشاعر عن نفسها معتمدة طرائق عدة هي الأشكال الشعرية التي عرفها شعراء العربية عبر تاريخها الطويل : الشكل العمودي –التفعيلة – الشعر الحر ، وهو ما يمنح نصوص الشاعر بداية مساحة من حرية الحركة وحيوية التلقي القائم على التنوع بين الأشكال المختلفة التي تأتي للوهلة الأولى بمثابة مساحات التجريب المعتمدة من قبل الشاعر لإقامة قنوات التواصل مع متلقيه وهو ما من شأنه أن يعمل على توسيع مساحات التلقي وتعديد طرائقه بتعديد طرائق الإنتاج ذاتها تلك التي تمثل قدرة للشاعر على تطويع تراثه ليكون قادرا على التعبير عن واقعه الراهن رابطا بين زمنين عربيين يشكلان نظام رؤيته الشعرية للعالم .

موضوعيا تقوم تجربة إبراهيم الخالدي على عدد من المرتكزات التي تكون بمثابة النظام الذي تقوم عليه القصيدة:

  • الشاعر القديم : وهي مجموعة من الشعراء الذين يقيم الشاعر معهم تواصلا فاتحا قناة اتصال عبر القصيدة ، وكما أن الشعر الجاهلي ” طرفة بن العبد ” هو الشاعر الأقدم تاريخيا فإنه يرد في مستهل الشعراء الذين يستدعيهم الشاعر عبر إهداء ديوانه الثاني “عاد من حيث جاء “
  • الطبيعة : تتشكل بدورها وفق ثلاثية محددة الملامح تتبلور في : الصحراء – الشمس – البحر ، تلك التي تبدو عامة للجميع غير أن الشاعر يمنحها خصوصيتها تلك المؤسسة على خصوصية العلاقة بين الشاعر ووطنه .
  • الوطن : يمثل الأساس الذي تتجلى فيه تجربة الشاعر في مجملها جامعة كل التفاصيل ، تفاصيل الإنشاء الشعري .

وهي ثلاثية تتداخل في ذات الشاعر لتكون سبيكة نصية لها ما يبررها فنيا ولها مقوماتها الفنية القادرة على تشكيلها جماليا وعلى وضع عدد من العلامات الشعرية التي يكون من شأنها تشكيل آفاق العلاقة بين الشاعر ومتلقيه عبر هذه العلامات المؤثرة في عمل قناة الاتصال بينهما .

يفتتح الشاعر ديوانه الثاني “عاد من حيث جاء” بقصيدة ” كويت ” التي يأتي عنوانها بمثابة المبتدأ وخبره المفردة الأولى في الصورة الأولى في القصيدة :

” بحر

وصيادون ملتفون حول كوت

نسجوا على صخر الشطوط أكفهم

واستشعروا في الماء

حورياتهم

ومدائن الياقوت

رسموا على غبش المدى

أحلامهم

وغناؤهم أضحى حدود بلادنا

وشوارعا وبيوت ” ( [ix])

باسطا مساحة الصورة بعرض البحر في اتساعه وفاتحا مجال التخيل لترتيب التفاصيل ( مكان – بشر- وطن – حوريات ) بحيث تبدو العناصر الأولى ممثلة المشهد في تاريخيته ، فالصورة القديمة التي كانت فيها الحياة تقوم على البحر

والقصيدة تعد خبرا لمبتدأ (كويت ) حيث تكون التفاصيل المشكلة لمساحة الصورة في القصيدة بمثابة الخبر متعدد التفاصيل ، والقصيدة بوصفها المفتتح تتضمن عددا من العلامات اللغوية التي تكون بمثابة المفاتيح المتكررة في كثير من القصائد ، ومنها : الكويت – الشوارع – البيوت ، يتكرر ورود الكويت في الديوان أربع عشرة مرة منها ثلاث عشرة مرة تقع مفعولا به لفعل واحد محدد ” أحب ” ذلك الفعل الواقع في سياق تعبير الذات عن نفسها ورصدها مساحات من العاطفة عند هؤلاء الذين يمثلهم الشاعر أو يتمثلهم مشاركينه هذا الحب لهذا الوطن .

ولئن اعتمد الشاعر على مفردات ملموسة لا يشوبها الغموض غير أنه نجح في تشكيل عالمه عبر هذه المفردات على بساطتها وكان نجاحه مؤسسا على تعميقها لتشكل منصة انطلاق لخيال المتلقي لمكاشفة ماهو أوسع من مجال الصورة وأعمق من مجال الرؤية السطحية للصور التي تتشكل عبر نص يؤكد موهبة صاحبه .

……….

هوامش وإحالات

[i] – إبراهيم الخالدي : عاد من حيث جاء – الكويت 1997 ص 14.

[ii] – التناص هنا له فرادته ، فالبيت على شهرته ، وعلى ما يحمله من جوانب أسطورية لم يقاربه الشعراء إلا نادرا ، ومن ذلك صورة رسمها الشاعر ابن الوردي حين قال :

سوداءُ قالتْ لبيضاءِ الأديمِ إذا       فاخرْتِ فالمتنبي بيننا حكمُ

فالخيلُ والليلُ حقاً عاشقي وأنا       وأنتِ والعاشقُ القرطاسُ والقلمُ

وهو ما يجعل من تناص الخالدي مع المتنبي قراءة لها تفردها القائم على تاريخها أولا وما تطرحه ثانيا.

[iii] – التخميس: إقامة الشاعر نصه وفق منهج محدد يقوم على ثلاثة أشطر له يتبعها بشطرين من شعر غيره .

[iv]عاد من حيث جاء ص 40.

[v] – السابق ص 41.

[vi] – السابق ص 6.

[vii] – السابق ص 42.

[viii] – إبراهيم الخالدي: عاد من حيث جاء – الكويت 1997 ص 5.

[ix] – السابق، ص 7.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)