شريف رزق: قصيدة النَّثر أنقذتْ الشِّعريَّة العربيَّة في الوقت المُناسب

شريف رزق: الدولة المصرية غير معنية بالثقافة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره: خالد حماد

يبدو الوضع الرَّاهن للمشهد الشِّعريّ الرَّسميِّ في سماء القاهرة أشبه بمعركة كبرى، ضدّ الأجيال والأصوات الجديدة في المشهد الشِّعريّ التي تُواجه سلطة قمعيَّة، تنتهجها أجيال سابقة ضدّها؛ لذا كان لِزامًا أن نفتح ملفَ ما يجري في الشِّعر المصريّ مع صوتٍ شعريٍّ ونقدي مُغاير ومُختلف؛ فكان لـ"العرب" هذا الحوار، مع الشَّاعر والنَّاقد المِصريّ شريف رزق؛ الذي يُمثِّل أصواتَ الشِّعر الجديدة.

حاوره: خالد حماد

يبدو الوضع الرَّاهن للمشهد الشِّعريّ الرَّسميِّ في سماء القاهرة أشبه بمعركة كبرى، ضدّ الأجيال والأصوات الجديدة في المشهد الشِّعريّ التي تُواجه سلطة قمعيَّة، تنتهجها أجيال سابقة ضدّها؛ لذا كان لِزامًا أن نفتح ملفَ ما يجري في الشِّعر المصريّ مع صوتٍ شعريٍّ ونقدي مُغاير ومُختلف؛ فكان لـ”العرب” هذا الحوار، مع الشَّاعر والنَّاقد المِصريّ شريف رزق؛ الذي يُمثِّل أصواتَ الشِّعر الجديدة.

يدخل الشَّاعر والنَّاقد المصريّ في مُواجهةٍ كبرى ضدّ الهجمةِ غير المُبرَّرة على قصيدة النَّثر المصريَّة من قِبل الوجوه القديمة والرَّاسخة في مجاليْ النَّقد والإبداع الشِّعريَّين، في مصر، آخر تلك المواجهاتِ انتهتْ بحرمان العديد من الأصواتِ الشِّعريَّة الشَّابة من التَّواجُد في “ملتقى الشِّعر العربيّ”؛ الذي عُقدت فاعلياته بالمجلس الأعلى للثَّقافة، بأصواتٍ نقديَّة وإبداعيَّة يرى  رزق أنَّها تُواجه كلَّ جديد.

مُواجهة الكهنة

– ماذا عن الشّعراء المصريّين الذين خرجوا على سلطة آباء الحداثة، وتمرّدوا على الإرث الشّعريّ والبلاغة اللفظيّة؛ متخطّين سلطة الكتابة، ومتّجهين نحو المعادلات الشّعريّة اليوميّة، ونحو قصيدة التّفاصيل، والقصيدة الواقعيّة؟

– لقد حدثت تحوُّلات كبيرة في مسار الشِّعريَّة العربيَّة منذ بدايات التِّسعينيَّات، فصلت شعر هذه المرحلة عن تيَّار الشِعريَّة العربيَّة المركزيّ، الذي هيمن منذ أواخر الخمسينيَّات على مشهد القصيد النَّثريّ العربيّ، عبر تجارب حلَّقت في آفاق شعريَّة مغايرة مع الشِّعريَّات الفَرنسيَّة والشِّعريَّات الأنجلو أمريكيَّة، وكرَّست هذه الآفاق في خطاب الشِّعريَّة العربيَّة الجديدة، ومنذ التِّسعينيَّات انفصل مسار شعريَّة القصيد النَّثريّ العربيّ عن مساراته السَّابقة، وألغى الذَّاكرة السَّابقة، وانخرط في جماليَّات اليوميِّ والشَّخصيِّ والمعيشيِّ، وانفتح على جماليَّات السَّرد، وتبنَّى الأداء الشِّفاهيّ، وجنح إلى البساطة، وتحرَّر أداؤه اللغويّ من الأُطر السَّابقة، وقد شارك في صياغة ملامح هذه المرحلة شعراء من أجيال مختلفة؛ فمن السَّبعينيَّات: محمد صالح وأحمد طه وأمجد ريَّان، ومن الثَّمانينيَّات علي منصور وعاطف عبد العزيز، ومن التِّسعينيَّات إيمان مرسال وعلاء خالد وأسامة الدّناصوري وأحمد يماني ومحمد متولي وعماد أبو صالح وكريم عبد السَّلام.

وأُشير إلى أن هذه الجماليَّات بدت، على نحو أصغر، في عدَّة مواضع من الخريطة الشِّعريَّة العربيَّة، ولكنَّها بدت على نحو أبرز في فضاء المشهد المصريِّ؛ الذي بدا أنَّه المشهد المركزيّ في خريطة القصيد النَّثريّ الجديدة، على الرَّغم من أنَّ هذه الشِّعريَّة كانت مسبوقة بأشكال مختلفة من التَّجارب التي تبدأ بتجربة محمَّد الماغوط، ثم رياض الصَّالح الحسين، ووديع سعادة، وبسَّام حجَّار، وسركون بولص، وهيَ تجارب، على أهميّتها الشِّعريَّة، هُمِّشتْ، في حضور تجارب أدونيس وأنسي الحاج، وأُشير إلى أنَّه أُعيد الاعتبار لريادات هذه التَّجارب مع صعود تيَّاراتها على أيدي التَّجارب الجديدة؛ التي كانت أكثر تحرُّرًا، ومن التَّجارب الأسبق لا تزال تجربة وديع سعادة حاضرةً بنبرةٍ شديدة الإنسانيَّة والخصوصيَّة.

– كيف يُواجَه هذا التَّيَّار- الذي تراه في مركزَ الدَّائرة حاليًا، وترى أنَّه يقود المشهد الشِّعريّ حاليًا، وأنَّه يُعبِّر عن جماليَّات الواقع الشِّعريّ حاليًا- من مؤسَّسات السُّلطة الثَّقافيَّة؟

– على الرَّغم من الحضور المُتزايد لهذا التَّيَّار في الشِّعريَّة الرَّاهنة، فإنَّ المؤسَّسات الثَّقافيَّة لا تزال مُنفصلةً عن الحراك الشِّعريِّ الحقيقيِّ؛ ولهذا يظلُّ هذا التَّيَّار فاعلا بقوَّة خارج المؤسَّسات غير الرَّسميَّة، وقد ظهر هذا بوضوح في مؤتمر الشِّعر الدّولي الرَّابع الذي عُقد بالمجلس الأعلى للثَّقافة؛ حيث هيمن عليه وعيُ شعراء متأخِّرين عن الواقع الشِّعريِّ الحقيقيِّ بعقود، ومُقرِّر اللجنة غير الشَّاعر في الأساس!، وامتلأ المؤتمر بالمرضِيِّ عنهم، وبالرَّجعيين، وبأنصاف وأرباع الشُّعراء، أمَّا النُّقاد فالطَّامة فيهم أفدح!، وتحت مرأى من الجميع خُطِّط للمؤتمر أن يُتوِّج أحد أعضاء اللجنة بجائزة المؤتمر!، وقد كانت ظاهرة انسحاب الشُّعراء العرب والمصريين؛ الذين ينتمون جميعهم للتَّيار الحداثيِّ، واضحةَ الدَّلالة على موقفٍ ضدّ المُنظِّمين الذين يُفسدون الحياة الشِّعريَّة، ويختطفونها، ولا يُمثِّلون الواقع الشِّعريّ، ويستبدّون بالسُّلطة الشِّعريَّة، كما يستبدُّ الطُّغاة الذين وضعوهم على رأس مؤسَّسات الثَّقافة، ويُمارسون الإقصاء ذاته، ولهذا رأيت أنَّ المقاطعة والانسحاب فعلٌ سياسيٌّ مهمٌّ، مادام الفعل الشِّعريّ الرَّسميّ يُدار بشعراء ليسوا شعراء!، وبشعراء لا يُوجد لهم حضور سوى في لجنة الشِّعر، وبشعراء هم ذكرى شعراء، وبنقَّاد هم في الأساس أكاديميون دخلاء ومفروضون على الحياة الشِّعريَّة، إنَّها مؤامرة ضدّ الواقع الشِّعريّ؛ بأجياله المهمَّة، ولن يقنعونا باختيارهم لبعض من لهم صِلات بهم باعتبارهم يُمثِّلون قصيدة النَّثر، لا حلَّ إلاَّ في ثورة حقيقيَّة تُطيح بهؤلاء الكهنة المُسنين!.

– ألهذا السَّبب يتنكَّر شعراء قصيدة النَّثر للأجيال السَّابقة عليهم؟

– الحقيقة أنَّهم يرفضون الرَّجعيَّة، والاستبداد، هم لايرفضون أشكالا شعريَّة، بل يرفضون السِّياسة الشِّعرية التي تُدار بالرَّجعيّين كهنة المعبد الشِّعريِّ القديم وحواريّيهم وغلمانهم، إنَّ العلاقة بين هؤلاء الشُّعراء ووأجهزة الدَّولة الثَّقافيَّة في انهيار مُتزايد؛ فهم ينشرون بمعزلٍ عن مؤسَّسات الثَّقافة الرَّسميَّة، ويُقيمون مؤتمراتهم بشكل مُستقلٍّ، ويسافرون للمشاركة في مؤتمرات شعريَّة خارجيَّة بمعزلٍ عن إطار المؤسَّسة الثَّقلفيَّة الحاكمة، وخارج سلطة الدَّولة الثَّقافيَّة، ويتقدَّمون لجوائز غير جوائز الدَّولة، وهذا الوضع يعكس وضعًا عامًّا يستقلُّ المبدعون فيه عن  سلطة الدَّولة، كما يعكس من ناحيةٍ أخرى انهيار العلاقة بين الشَّعب والدَّولة بشكل مُتسارع.

 إنَّه انهيارٌ شعريِّ، كما أنَّه انهيارٌ سياسيّ.

القصيدة المُنقِذة

– تُرى إلى أي مدى نجحت قصيدة النَّثر المصريَّة أن تكون في المشهد الإبداعيّ، خاصَّة أنَّ العديد من الكتابات تُشير إلى أن قصيدة النَّثر جاءت من لبنان؟

– قصيدة النَّثر اللبنانيَّة أصبحت ذكرى جميلة، منذ ربع قرن على الأقل!، وأُشير إلى أنَّ الطَّليعة الشِّعريَّة قد خرجت على سلطة قصيدة النَّثر اللبنانيَّة ثلاث مرَّات؛ الأولى في أواخر السِّتينيَّات وبدايات السَّبعينيَّات، في العراق، على أيدي شعراء كركوك، ومنهم: فاضل العزَّاوي، وسركون بولص، وصلاح فائق، وجان دمو، والأب يوسف سعيد، والمرَّة الثَّانية كانت في سوريا في السَّبعينيَّات على أيدي بندر عبد الحميد، ونزيه أبوعفش، ومنذر مصري، وعادل محمود، ورياض الصَّالح الحسين، وفي لبنان نفسها كان وديع سعادة، وبسَّام حجَّار، والمرَّة الثَّالثة كانت في بدايات التَّسعينيَّات، في مصر، تحديدًا، وفي العديد من الدِّول العربيَّة، وهذه المرحلة الأخيرة لاتزال مُستمرَّة في قوس شعريّ كبير، مُتعدِّد التَّجلِّيات الشِّعريَّة، يعمل بانفصالٍ تام عن المرجعيَّات السَّابقة، ذات الأصول الغربيَّة في الأساس.

– وما أبرز الأسماء التي ترى أنَّها تُمثِّل قصيدة النَّثر المصريَّة؟

– هيَ أسماء عديدة تنتمي إلى عدة أجيال؛ منها: محمَّد صالح، عاطف عبد العزيز، عماد أبو صالح، إبراهيم المصري، فتحي عبد السَّميع، إبراهيم بجلاتي، سامي سعد، خالد حسَّان.. وقد رصدتُ خصوصيَّة الخطاب الشِّعري المصريّ، وتجلِّياته الشِّعريَّة المختلفة في القصيد النَّثريِّ، في كتابي: “قصيدة النَّثر المصريَّة”.

– هل مازال الشِّعر ديوان العرب؟، وهل استطاعت مدارس الشِّعر الحديث المُتعدِّدة أن تُعبِّر عن الوجدان، كما كانت كانت تُعبِّر عنه في مدارس الاتباع؟، وهل ستغدو قصيدة النَّثر يومًا كالحكمة أو المثل السَّائر، كما رأينا في: “إذا الشَّعب يومًا أراد الحياة..”؟

– مقولة “الشِّعر ديوان العرب”؛ الَّتي نُسبت لعمر بن الخطَّاب، ووردت في كتاب الأغاني، كانت تعبِّر عن وضْع الشَّاعر في العصور القديمة؛ حيث كان الشَّاعر الجهاز الإعلاميّ لقبيلته ولأمّته، وقد ظل هذا المفهوم مُستقرًّا حتَّى عصر الإحيائيِّين والكلاسيكييِّن؛ حدث هذا منذ حرب البسوس حتى ما سُمِّيَ بـ”شعر الثَّورة”، وهذا مفهوم خرج عليه شعراء ذاتيُّون منذ القِدم، وتعاظم الحضور الإنسانيّ مع حركة الرُّومانسيَّة؛ حيث أصبحت الذَّات مركز العالم، ومع حركات التَّجريب الشِّعري الحداثيّ أصبح الشِّعر ديوان نفسِه!، وجنح القصيد إلى شعريَّة الشِّعر، وانفصل الشِّعر عن الشِّعار، وأصبحنا نرى بوضوح الشُّعراء الذين يرتبط حضورهم الشِّعريّ بالمواقف السِّياسيَّة، ويخلطون الرِّسالة الشِّعريَّة بالرِّسالة السِّياسيَّة، ويُغلِّبون الشِّعار على الشِّعر، وأرى أنَّ الشِّعر الذي على شاكلة: “إذا الشَّعب يومًا أراد الحياة..”، لا يصلح سوى للأناشيد المدرسيَّة..

– هل يمكن اعتبار قصيدة النَّثر نوعًا أدبيًّا، بدلاً من اعتبارها نوعًا شعريًّا؛ وذلك لتضمُّنها شعريَّة الشِّعر بجانب سرديَّة القصِّ، وانفتاحها على أدب السِّيرة الذَّاتيَّة، وتجمع آليَّات فنون مختلفة؟

– قصيدة النَّثر هيَ نوعٌُ شعريٌّ، ولن تكون غير هذا، وأنا ضدّ نبوءة سوزان برنار التي رأت فيها أنَّ هذا النَّوع الشِّعريَّ سيذوب في الأنواع الأدبيَّة المجاورة، وأرى أنَّ القيمة الشِّعريَّة في خطاب قصيدة النَّثر هيَ القيمة المُهيمنة على شتَّى الآليَّات التي تنفتح عليها، في تفاعلها مع شتَّى الفنون؛ القوليَّة والبَصَريَّة.

إنَّ القول بأنَّها نوعٌ أدبيٌّ لا نوع شعري، يهدف إلى سحب شعريّتها وإخراجها من دائرة الشِّعر، وأُكرِّر ما قلته من قبل: إنَّ قصيدة النَّثر أنقذتْ الشِّعريَّة العربيَّة في الوقت المُناسب!، وإنَّها النَّوع الشِّعريّ الأكثر حريَّة وتعبيرًا عن العصر..

– يتحدَّث كثيرون أنَّ الشِّعر في أزمة، فهل ترى الشِّعر في أزمة؟

– أرى أن الأزمة في عقول مَن يرى أنَّ الشِّعر في أزمة، العجيب أنَّهم يعيشون في واقع كلُّه أزمات، ويحلو لهم تشخيص الأزمة في الشِّعر، وردِّها إلى كلِّ جديد!، وأنا، في المقابل، أرى أزمتهم، وأرى أنَّ الشِّعر قد جدَّد نفسه في مشهد القصيد النَّثريّ، و ككلِّ شيء في واقعنا المشوَّه يختلط الجيد بالرَّدي، ويتعاظم حضور الرَّديء، ولكنَّ الجيد القليل رائع، كما هو دائمًا..

………………………..

* نشر في جريدة “العرب”، يوم الجمعة 13/1/2017 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم