“شريف حتاتة” يُنقب في “الوباء” عن بقايا الإنسانية المدفونة تحت طبقات الفُحش

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أمل الجمل*        

حدث ذلك ثلاث سنوات متتالية. ظلت المحاصيل في قرية "كفر يوسف" تُصيبها آفة غريبة. تجف وتموت قبل أن تنضج. اعتقد الفلاحون أنه ربما يكون السبب حشرة تخرج في الليل، وتحفر لأسفل. تقرض جذور النبات ثم تختفي قبل الفجر. حشرة لا تترك أثراً، ولم يرها أحد. في العام الرابع هجر المزارعون الأرض وتركوها تبور، فاستولت عليها الشركة العالمية للمنتجات الزراعية التي تُديرها امرأة أسطورية تُلقب بالرئيسة. عندما طلب الأهالي لقاءها رفضت وفوضت عنها رجال العلم والدين الذين نصحوهم بأن يستسلموا لمشئة الرب ويُسلِِّمُوا بأمره فالوباء ما هو إلا غضب منه.  

ذلك هو معنى الوباء في أقرب وأوضح مستوياته كما تُجسده رواية “الوبـاء” لـ”شريف حتاتة”، صدرت عن دار ميريت 2010 بغلاف للفنان “مجاهد العزب”. لكن قراءة متأنية تُظهر أبعاداً آخرى ذات دلالة، وتُؤكد أنها عمل روائي غني، عميق ومميز، فالوباء يُقصد به تفشي الشركات المتعددة الجنسية صارت تبتكر سُبلاً وبائية تستحوذ بها على أراضي الفلاحين، يُقصد به رجال غير صالحين ارتدوا عباءة الدين لإخفاء أغراضهم الخبيثة وقد صاروا رمزاً للمد الديني (المُستَغِل) يزحف في قوة متزايدة متضامناً مع الرأسمالية العالمية الجشعة النهَّابة لثروات الشعوب، الوباء يُقصد به تحويل الدين إلى قناع يختبئ وراءه اللصوص والمجرمين لإخفاء حقيقة دورهم البارع في الدفاع عن النظام الرأسمالي وفي تقديم الأفكار والنظريات التي تُساعد على استمراره في الهيمنة على شئون ومُجريات تلك القرية التي ترمز إلى “مصر”. الوباء يُقصد به الاستثمار السيء للدين من أجل تغييب الوعي وتفشي الجهل والخرافة في العقول والأرواح، يُقصد به الأرض الخراب الخالية من أي تنظيم شعبي فعَّال. الوباء هو ما أصاب الأجيال الحديثة من تشوهات وإعاقات جسدية تُمثلها شخصيتي ابن الغفير “عبده جاب الله” الطفل الذي وُلد يحمل وجه عجوز شاحب اللون تُطل منه عينان فيهما وحشية، و”مبروكة” الطفلة التي تمتلك قدرات ومواهب خاصة فقد وُلدت في أعقاب نكسة 1967 بجسد مُشوه ووجه ملاك، فلما كبرت اتضح أنها عاجزة عن السمع، ومع ذلك تعلمت ما لن يُدركه علماء القرية.   

شخوص منحوتة

تتسم “الوباء” بأنها رواية تموج بالشخصيات الرئيسية المتنوعة الثرية مثل “عزة الغندور” ووالدها “صِدِّيق” بعلاقتهما المختلفة والمرتبكة أحياناً، الأخوان “مهدي” و”محمود الصياد” ووالدتهما “عبلة إبراهيم” التي كشفت ماضي “أم مبروكة”، تلك المرأة التي كانت ترقص وتغني في الأفراح وكانت تشبه جهازاً للاستخبارات فعندها جميع الأخبار، لديها قدرة على استشفاف الكثير مما سيقع في البلدة، تستمع إلى كلام الناس ثم تحكم عليه بفطرتها وبخبرة الحياة، مع ذلك كانت تحمل في نفسها كبرياءً تحميه في أعماقها.” هناك أيضاً الدكتور “مصطفى الغندور” (أرسطو كفر يوسف) كما تُلقبه الرئيسة، والجنرال “جوزيف أولمبيك” قائد القاعدة الجوية. وهناك القيَّاس بألاعيبه الخطيرة، و”عبد اللطيف سويكر” الذي وافق على تجربة زراعة الأرز الصيني في أرضه وحفيده الذي تُختتم به الرواية في مشهد هامس لكنه بالغ الدلالة.  

جميع شخوص “الوباء”، الرئيسية والثانوية وحتى الهامشية، منحوتة بدقة وانسيابية. تنبض بالحياة. مثل كونشيرتو تتحرك في تناسق وانسجام عفوي. يجمع بينها رِباط شفاف ومصير مشترك. تظهر وتختفي من على مسرح الأحداث بنعومة وتلقائية تمنحها الصدق الفني. تُعبر عن مواقف وهموم إنسانية، عن مشاكل إجتماعية وإقتصادية وسياسية حقيقية فمثلا “صفوت بسيوني” مهندس زراعي شاب قرر أن يترك “القاهرة” ويعود إلى “كفر يوسف” مدفوعاً برغبة تُؤرقه للاهتداء إلى الأم التي ولدته، ولمواصلة تجاربه في زراعة أنواع جديدة من الأرز الصيني تمنح محصولاً مُضاعفاً. هناك يكتشف أن القطاع الخاص قضى على نظيره الحكومي بعد أن كانت الجمعية التعاونية الزراعية تدعم الفلاح بتوفير المبيدات له وبشراء المحاصيل منه.

 لم يكن “كفر يوسف” في خضم حرب عسكرية مُعلنة، لكن حرباً آخرى كانت تدور، ففي القصر الرابض أعلى التل على الحدود بين الوادي والصحراء ظلت تُحاك المؤامرات لتحقيق مزيد من الإستحواذ على أراضي الفلاحين حتى لو تطلب ذلك نشر أوبئة فتاَّكة. هناك يجد “صفوت” نفسه يسبح في عالم شبه واقعي شبه أسطوري يزخر بالصراع بين قوى مختلفة، بين سكان القرية وجحافل مسلحة تحرق الزرع بأوبئة قاتلة، جحافل تمتلك أدوات العلم الحديث الغازية. يجد نفسه في عالم فلاحين يعيشون حياة من صنع الطبيعة والخرافات والعادات المتأصلة في تراثهم، من صُنع الأحداث النابضة بسخونة الأرض، والحيوانات، والرغبات الجسدية المستترة والظاهرة التي تتخللها آفاق الخيال الواسع في لحظات ومشاعر الحب الإنسانية الصافية، يجد نفسه مُحاطاً بشخصيات غريبة مأساوية ساخرة ضاحكة أبرزها شخصيتي “خديجة” وابنة الشيخ “مروان” التي كانت تفضل معاشرة الحمير على معاشرة الرجال.

شيء من الخوف

بهدوء وبساطة يجعل “شريف حتاتة” من أبطال روايته، باستثناء “مبروكة”، شخوص متوترة يحكم تصرفاتها شيء من الخوف، يشوب علاقاتها المتداخلة كثير من الشد والجذب الذي يدفع بها حثيثاً نحو مصيرها المحتوم، فهى شخوص تحمل أقدارها، يُؤرق نفوسها صراعات خارجية وآخرى داخل أعماقها المضطربة. ثمة خوف وجودي يُقلقها ويضج مضجعها بشكل موارب. ثمة خوف آخر من الحرية يبدو جليَّا في شخصية مساعد السكرتير المساعد للرئيسة خريج الآداب الذي يشعر بالضياع في بيته لأنه مُضطر أن يتخذ قرارات في أشياء لا يعرف كيف يتصرف إزاءها.

جميع الشخصيات من دون استثناء، الجانية والمجني عليها، بكافة توجهاتها، بخيرها وشرها تُعاني أو تتألم. ربما لذلك وربما لأسباب آخرى تهرب إلى الجنس، بينما يُضيء الحب بقايا الإنسانية المدفونة تحت طبقات الفُحش لدى بعضها الآخر.

جمال القُبح

تتفجر المعاني والصور والأفكار من تدفق المتناقضات ومن بحث الروائي المستمر عن الجمال وسط القُبح، من تجسيده كل تناقضات حياة تضرب بجذورها في تاريخ قديم. التباين لا يظهر فقط بين إنسان مكبل بالقيود مسلوب الإرادة وبين آخر أصبح سيد مصيره، لا يظهر فقط بين عالم “الفلاحين الفقراء المطحونين المغروسة أقدامهم في الطين الذين يُجرُون الحسابات البطيئة بزحفهم المتعثر” وبين عالم رجال الحكم يملكون زمام العلم والسلطة والنفوذ، لايظهر فقط بين هؤلاء المزارعين المؤمنين بالفطرة وبين نظرائهم سماسرة الدين مُرتكبي الفواحش باسم الرب، لا يظهر فقط بين حياة النساء والرجال، لكن أيضاً ييبدو جلياً بين ماضي وحاضر الأبطال طوال الأحداث، بين ما يعتنقه بعض الناس من أفكار وما يُرددونه من أقوال عن القيم والمباديء وبين تصرفاتهم المليئة بالفُحش والإبتذال، يتجلى بوضوح في تصرفات أعوان الرئيسة مثل الغفير “عبده جاب الله”، والشيخ “مروان” مأذون القرية الذي نصَّب نفسه حارساً على الفضيلة بينما ظل يُطارد “خديجة” ويُراودها عن نفسه، والحاج “حمزة عبد الستار” الذي أخذ يُطالب بحرق حقول الأرز الصيني لردع الفلاحين عن زراعته، و”عزت السيد الغندور” الذي يدِّعي الصلاح والتقوى بينما الحقيقة أنه سرق ميراث “عزة” من الأرض وتبرع به لبناء مسجد القرية. يتجلى التناقض الصارخ في إقامة جامع مُلحق بكازينو القمار الموجود في قصر الرئيسة، وفي إنطلاق صوت الآذان من هذا الجامع مُعلناً بدء الصلاة لكن قبل أن ينتهي الفلاحون من صلواتهم تخرج من بوابة ذلك القصر دبابة بعجلات مجنزرة ومن خلفلها يخرج طابور من الجرارات يقودها رجال يرتدون أقنعة ويُهددون بالسير فوق أجساد المصلين إن لم يرحلوا عن الأرض.

الرواية تُشبه في هيكلها مسرحية يتشكل متنها من ثلاثة أجزاء رئيسية تحمل عناوين: العودة – التجربة – المعركة. يتألف كل جزء من فصول مشهدية موسومة بكثافة الضغط ولعبة المزج الماهرة بين الشخوص والأزمنة. تدور الأحداث جميعها في قرية “كفر يوسف”، باستثناء منظرين في القاهرة وآخر في محطة القطار التي تبدأ منها الأحداث في كناية إلى قدر الإنسان، حيث بدت “المحطة كالقفص الضخم انطلق فيه الناس الباحثين عن ثغرة يخرجون منها”.

   “الوباء” نص قوي جميل وقاسِ، يتميز بإيقاع مشدود، به كثير من التشهبيات البلاغية الأصيلة، مكتوب بلغة أدبية ممتعة، يختلط فيه الأمل باليأس، الحزن بالفرح، الحقيقة بالزيف. يُخيم عليه الغموض، بين الحين والحين يُضيء فيه شيء كالنور الخافت. مع ذلك يبقى الإلتباس قائماً، فـ”صفوت بسيوني” لا يعرف لنفسه أباً ولا أماً، ولا نعرف نحن عن ماضيه سوى ما يتصوره أو يتخيله عن نفسه. هل هو ابن “خديجة” و”صدِّيق الغندور”؟ وإذا لم يكن فأين اختفى طفلهما؟ لماذا اختار “صفوت بسيوني” “كفر يوسف” دون غيره ليعود إليه؟ من الذي قتل “صديق الغندور” ولماذا؟ تساؤلات مُحيرة تركنا “شريف حتاتة” دون أن يُقدم لنا إجابات قاطعة عليها، تماماً مثلما هو شأن الحياة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ناقدة مصرية

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم