شركة العباقرة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 54
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسام قنديل
(1)
أحلام اليقظة، هي الطريقة الأثيرة لدى سوسن لتسرية أوقات الانتظار الطويلة، خاصة عندما يرتبط هذا الانتظار بعدم فعل أي شيء في أثنائه. تماما كالصف اللانهائي الذي تقف فيه الآن، بعد مقاومة عنيفة لفكرة الحضور لطلب المنتج الذي يُوَزّع في المصنع الممتد الأطراف.
يقع المصنع الذي يوجد منه الآلاف حالياً، خارج المدينة ببضعة كيلومترات، لتجنيبها الازدحام الجنوني لطالبي منتج شركة العباقرة المالكة له حيث -حسب ما قرأت سوسن على شبكة المعلومات- لم تتوقف الماكينة التى اخترعتها الشركة عن الدوران لقرابة العقد الآن، و خدمت حسب آخر الإحصاءيات قرابة الأحد عشر مليون شخص..
لم يَعتد المجتمع الإنساني على ثورات في علاقات أفراده ببعضهم البعض، حتى أعلنت شركة في نهاية عام 2120 – أي من أربعة عشر عاما – عن استحداث ماكينة غيرت كل شئ في بضع سنوات. لم يُعرف من هو مخترع تلك الماكينة، و لكن أرباح الشركة تصاعدت بشكل جنوني، و بدون أي دعاية، إلا شهادات من جربوها مجاناً، كمرحلة تجريبية استمرت قرابة الثلاث سنوات. لم يصدق أحد ما يعرضه الوحش المعدني ذو الخمسة أمتار إرتفاعاً، و الثلاثة أمتار عرضاً من الأصل. حتى عندما ثارت معارك قانونية و دينية جهنمية حول السماح بعمله، لم يكن من خاضوا تلك المعارك يصدقون أياً مما تناثر عن إمكانيات الماكينة (الثورة) كما أُطلق عليها.. ربما لهذا كانت أيديهم لدنة، مرتعشة في مواجهة مجهول يعرض مستحيلاً.
افتراضات وشائعات طال أمدها، وسمحت بتكون رغبة جامحة لدي العامة في المعرفة، و من ثم التجريب، و من ثم الطلب، انتهاءً بالطلب الجنوني الذي لم يقف أمامه قانون أو دين.. خصوصا بعد حروب أعقبت دناءةً و إنحطاطاً غير مسبوقين للبشرية؛ أفقدا الجميع الثقة في أي إيمان أو أي دين، حتى حدثت الحركة الشبيهة بالزلازل، عندما أصبحت الماكينة الثورة على كل لسان..
وجد العالم المنهك نفسه بعد عشرات الحروب، وملايين القتلى في المائة عام الأخيرة، غير قادر على مزيد من المقاومة. و أصبح أمام أمر واقع؛ هو آلاف المصانع بها آلاف من ذلك الوحش الغامض، ينتج نسخاً أفضل، و عشرات الملايين ممن تبقوا من البشر ينظرون إلي شركة العباقرة و اختراعها؛ على أنه الأمل الوحيد، و الثورة الوحيدة التي يمكن الإيمان بها؛ ثورة تحل المشكلة من جذورها، و إن كان ثمن الحل التحول إلى قاتل..
وصلت سوسن إلى الباب، بعد نحو خمس ساعات من الانتظار في الصف، و عشرات من أحلام اليقظة حول ما قرأته على شبكة الإنترنت عن تاريخ الشركة، و المصنع، وماكينته الجهنمية، وقرارها بتجريبها بعد ست سنوات من المقاومة، وبعد أن تخطى الأمر احتمالها..
وصلت سوسن لمسؤول خدمة عملاء (آلي) منحها ابتسامة وورقة تحمل رقماً، وطلب منها تسجيل بياناتها على الموقع الإليكتروني، وإدخال رقمها الذي نالته لتحديد الموعد. سألت سوسن الآلي عن الموعد المتوقع لتقوم بدورها المطلوب قبيل استخدام الماكينة، فرد الآلي بعد ثوان معدودة:
ـ طبقا لحسابات الطلب، والبيانات، و المنطقة، و المقاطعة، و عدد الطلبات المقدمة.. الوقت المتوقع للحضور بالنسخة القديمة خلال: “واحد سنة و أربعة أشهر و ثلاثة أيام، بالإضافة لأسبوع كمساحة مرونة لتغير الموعد.. يجب التذكير بأن الدفع يكون قبل شهر من استخدام الماكينة، ولا يرد المبلغ في حالة إلغاء الموعد”.
(2)
فقدت الكرة الأرضية تقريباً ثلاثة أرباع سكانها في حروب المائة عام الأخيرة. لم يعد هناك كفاية من العمالة للزراعة أو الإنتاج أو الصناعة، أو حتى استمرار الحروب. ربما لذلك توقفت آلة القتل؛ حيث لم تعد تجد من تقتله.
الحلول التقليدية: كإجبار البشر على زيادة النسل، و زيادة فترات العمل، لم تعد تجدي، ووجب البحث عن حلول فوق التقليدية، و خارج كل صناديق المنطق، لإنقاذ البشرية من تبعات النقص الحاد فيمن يؤدون المهن الخدمية، و المهن التي تتطلب جهداً، والمهن التي لا تحتاج إلى عقول عبقرية، كتلك التي اخترعت آلات القتل، الفيروسات و الغازات القاتلة، و ألقتها في الحروب الكيميائية و البيولوجية، التي أتت على أغلب ساكني الكوكب.
فى نهاية الأمر، وجد العباقرة أنفسهم وحدهم، بدون من ينفذون أفكارهم، بعد أن قتلوهم بها.
بعد اختراع الماكينة الثورة –كما أطلق عليها ما تبقى من الإعلام– والتى لم تحل مشكلة نقص البشر، بقدر ما قدمت حلاً غير تقليدي، لتجنب وجود المجانين الذين دفعوا العالم إلى نهايته من قبل وأدى لأن تنتظر سوسن دورها لاستخدامه، بعد نحو السنة .
توصل العباقرة إلى اختراع آخر، ينتظر ماجد دوره لاستخدامه في عيادة الطبيب، ممنياً نفسه بالمبلغ الخرافي الذي ينتظره، فور أن يستخرج ذلك الاختراع منه، مما سيزيد القوة العاملة الخادمة للبشرية واحداً أو أكثر.
مهما كان المبلغ، فسيكون بداية حياة جديدة لماجد، الذي يحتاج بشدة لاستخدام المال؛ لحجز ميعاد مع نفس شركة العباقرة، و لكن على الجهاز الأول؛ لإعادة حياته إلى مسارها الصحيح، بعد خطأ اختياره لزوجته الحالية، رغم سنوات الحب التى أفضت لزواج دام لبضعة أشهر. ولكنه أضحى تضيعا للوقت بعد أن إكتشف أن زوجته لا تنجب.
تحمل ماجد الزحام، و أسابيع الانتظار، حتى جلس منتظراً دوره في عيادة أحد الأطباء المعتمدين لهذه المهمة التى أصبحت مصدر استثمار لكل من رأى أهوال الحرب، و مر على ما بعدها من تغيرات في المجتمعات التي لم تعد كما كانت…
أصبحت خاوية.. حتى بدأ الناس في عرض الأموال على بعضهم البعض؛ لمجرد تبادل الحديث، و القبلات، والحب، و الجنس.. الأبشع أن أحدا لم يقبل بالمال في مقابل سلع فاقدة القيمة، و بشر فاقدي الرغبة في مثل تلك السلع؛ فأفلست كل الشركات التى قامت على هذا الاستثمار.. و أصبح المناخ خصبا لتكاثر شئ واحد فقط..
الأشباح..
تحمل ماجد الزحام، و سيتحمل المزيد من الانتظار عندما ينتهي من هذا الأمر، و يبدأ مرحلة التغير في الماكينة الثورة.. ربما ستمنحه الماكينة التي ينتظرها الآن المال، و تمنح البشر عاملاً أو فنياً أو مزارعاً جديداً في موقف يربح فيه الجميع.. لكن الماكينة الثورة في المرحلة التالية ستمنحه أملاً..
ـ رقم 688 المهندس ماجد خير الدين خضور… تفضل بالدخول..
و كان هذا هو نداء المرحلة الأولى..

(3)

تقف سوسن أمام الماكينة للمرة الأولى، المرة الأصعب كما أخبرها الجميع على مدار سنة كاملة، انتظرت فيها تلك اللحظة.. الفناء الذي تقف فيه، لو وُصف من نظرة شخص يراه من أعلى، لشابه ذلك الوصف وصف أكبر تجمع للبشر في فناء واسع بمقاييس العالم، منذ نحو مائتي عام، عندما كان البشر يجتمعون بالملايين لثورة أو احتفال أو حتى طقس ديني. الآن هو مشهد طبيعي يتكرر أربعة أيام في الأسبوع، هي أيام عمل ماكينات النُسَخِ المعدّلة، التي تنتشر في مناطق متسعة خارج المدن التي تبقت بعد الحرب الكبرى..
سوسن قرأت كتاب التعليمات جيداً، و استمعت إلى الكثير من النصائح، من عشرات من أصدقائها الذين استعملوا هذه الماكينة. بل إن بعضهم كان من إنتاج الماكينة الثورة و بعدّة نسخ. تضع يدها في الفتحة لأخذ خزعة جلدية لتمييز بصمتها الجينية، ثم تختار خيار الإدخال “كتابة”؛ كي لا يستشعر ذكاء الماكينة الإصطناعي نبرة البكاء الطبيعية لأي شخص يستخدم الماكينة للمرة الأولى فتوقف العملية.
خيار الإنهاء خيار غير مطروح، خاصة و أن سوسن قد نفذت المطلوب بالفعل و الماكينة تضاعف السعر حال كانت الجثة متعفنة، أو مضى على موتها أكثر من شهر.
بدات الماكينة في العمل، و ظهر على الشاشة الكبيرة السؤال الأول:
– سبب طلب النسخة المعدلة؟
نظرت سوسن إلى الجوال الملقى إلى جوارها، و ارتعشت يداها، وجال في ذهنها أن تمضي لتدفن من قتلت و لا تتابع، لكن فكرة أن الأون قد فات ثبتت يدها قليلاً فكتبت:
– عناد مستمر بدون سبب منطقي إلا الرغبة في لفت الانتباه، تدني في لغة الحوار لا يتناسب مع العمر، غباء و تأخر دراسي، إستغباء متواصل، كسل في تحصيل المعلومة، تصرفات عدوانية متصاعدة، إبتكار في الأذي الجسدي و النفسي لكل من حوله و عيوب جسدية متعددة أخطرها قد يؤثر على التزاوج و القدرة على الإنجاب..
لم تدر سوسن كيف استطاعت أن تكون بهذه الصراحة..؟ خاصة و أنها تتحدث عن ابنها الذي عاشت معه قرابة التسع سنوات. كانت تراه أملاً، و جزءً منها، و لم تتخيل أن تسجل عيوبه و نقائصه، التي كانت أمها تحكي لها عن جدتها أنهن كن يعشقن نواقص أبنائهن، و يتغنين بكمالهم، و يخفين عيوبهم، بل و يرفضن التحدث عنها.. قطعت خواطرها صوت الماكينة:
– نسبة قبول العيوب كسبب للاستبدال 70%، طلب الإستبدال مقبول و يمكن المضي للخطوة التالية.. عند الرغبة في الاستمرار اضغط التالي..
ضغطت سوسن التالي، فظهر على الشاشة سؤال:
– عمرالمستبدل..؟
– كتبت سوسن: 8 سنوات و ستة أشهر..
هنا لم تتمالك دمعها…. ثمان سنوات، منها سنوات كان لا يستطيع فعل شئ إلا بمساعدتها، الأكل، الشرب، قضاء الحاجة… تسائلت للحظة عما إذا كانت النسخة المعدلة من ابنها، ستستجلب نفس ذكريات مشهده و هو يلتقم صدرها ليشبع جوعه، أو مرَّات تغير حفاضاته أو أول كلمة نطقها، أو ضحكاته التي عشقتها. أفاقت سوسن على إنذار الماكينة، لها لأنها تأخرت في كتابة التحسينات المطلوبة، و أنه تبقى لها على الماكينة ثمان دقائق فقط .أعادت الماكينة السؤال الأخير:
– التحسينات المطلوبة..؟
هل ستجعل تلك التحسينات حياتها أفضل..؟ هل إنهاء حياة ابنها الوحيد و إستبداله بنسخة محسنة حسب الطلب سيمنحها سكينة، يعالج علاقتها بابنها..؟ هل استبداله سيزيح مخاوفها من احتمالات أن يكبر مجرماً، أو عاقاً أو أنانياً أو عقيماً أو مختلاً..؟
بالتأكيد إقتنعت سوسن بذلك، و إلا لما كانت هنا أمام الماكينة الثورة، تطلب نسخة معدلة من ابنها الذي لم يعد مناسبا لحياتها التي ترغب فيها.. كتبت سوسن بعد أن اصبحت أقوى -عندما فكرت في تلك الاحتمالات التي دعمتها الكثير من الإشارات التى رأتها في ابنها خلال سنواته القليلة السابقة-
– معالجة ما سبق..
فكرت قليلاً، و لمرة أخيرة.. لقد منحته كل الفرص، حتى عندما قررت استبداله بعد تفكير طويل جداً، و اتخذت الخطوة الأولى في طابور حجز الميعاد. منحت لنفسها فرصة أخرى للتفكير، عندما انتظرت قرابة العام قبل الإقدام على الإستبدال، الذي أصبح موضة العالم، و أسهل عملية ضمنها العلم عبر شركة العباقرة التي ابتكرت الماكينة الثورة.
لكن الأمور في السنة التالية زادت من سئ لسوأ، فلم يعد هناك أي مفر مما فعلته و تنهيه الآن.. تذكرت سوسن أنه يمكنها طلب بعض الكماليات الإضافية فأضافت بسرعة: عينان خضراوان..
ضغطت زر المتابعة، فظهرت علامة رفض الطلب الأخير، لعدم توافقه مع البصمة الجينية.
لم تصدق سوسن نفسها و هي تزيل طلبها الأخير، و تترك الماكينة تقوم بالمعالجة النهائية قبل الخطوة الأخيرة التي يجب عليها أن تقوم بها. لوهلة استنكرت عدم تصديقها، لأن عدم التصديق و أنت تقف أمام ماكينة يستخدمها الملايين يوميا؛ لطلب نسخ معدلة بصفات أخلاقية و خِلقِية يختارونها بأنفسهم لأبنائهم و آبائهم و لأقربائهم و أصدقائهم، أو حتى حيواناتهم الأليفة يبدوا مبتذلاً إلى حد ما..
طلبت الماكينة إضافة أي ملاحظات فكتبت سوسن وسط دموعها التي لم تدر لها سببا: “هل يمكن أن تُمسخ غريزة حب الأبناء، و العلاقات التي اعتدناها بين البشر عند القدرة على إستبدالهم بنسخ محسنة؟” هنا صدرت إشارة عنيفة من الماكينة و ظهر ت عبارة: “تم تعيين ملاحظة محظورة، و تم حذف الملاحظة” ثم أشارت لإنتهاء العملية، و انفتح على إثر ذلك باب ضخم منزلق في أسفل الماكينة. و ظهرت بضعة أسطر تحفظها سوسن جيدا، تشرح شروط الاستبدال التي وضعها العباقرة مخترعوا الماكينة الثورة، و يحفظها الملايين.. لا لشئ إلا لأنهم لن يلعبوا تلك اللعبة الثورية إلا بتلك القواعد:
1- يجب قتل النسخة القديمة، و إحضارها عند الاستبدال لوضعها في الماكينة.
2- يراعى في القتل ألا يكون عنيفاً، و عند إتلاف أجزاء من النسخة القديمة، يضاف إلى سعر الاستبدال رسوم تحددها الماكينة إليكترونياً.
3- في حالة الجثث التي قتلت منذ ما يزيد عن الثلاثين يوماً، يضاف إلى سعر الاستبدال رسوم تحددها الماكينة إليكترونياً.
4- لا يسمح بالاستبدال لنفس النسخة أكثر من ثلاث مرات.
5- توضع النسخة القديمة في البوابة التي تفتح عن انتهاء الإجراءات.
6- استلام النسخة الجديدة، يكون خلال ثلاثة أيام عمل، و يتم بالبصمة الجينية لطالب الاستبدال.
ضغطت سوسن على علامة موافق على الشروط، ثم أدخلت كود التخفيض الذي حصلت عليه من صديقتها التي إستبدلت أسرتها بالكامل مرتين، و أخرجت جثة ابنها من الجوال الذي تحمله ووضعتها في البوابة التي أغلقت..
عندها ظهر على الشاشة جملة “عملية ناجحة”.

(4)
لهجة الطبيب المحترفة، الآمرة بالتركيز، أجبرت ماجد على عصر ذهنه؛ لتذكر ذلك الحلم. كان يعرف بحكم القواعد أنه يملك نصف ساعة فقط، و إلا أنهى الطبيب الجلسة، و تم حظره و وضعه على قائمة المشكوك فيهم لمرحلة قد تمتد لسنوات، يُمنع فيها من التقدم لعرض ما يملك للبيع.
ضغط ماجد على ذهنه بعنف، حتى أنه بدأ يشعر بالصداع، و مع كل الأقطاب الموصلة برأسه الذي تم حلق شعره منذ لحظات، بدا الموقف سرياليا، خاصة لو عُرِفَ المنتج المتوقع من هذه العملية..
– بدأنا نحصل على نتيجة..مزيد من التركيز.
تصاعد صوت ماجد نفسه -في ذهنه- يروي ما يراه، كنوع من الحيل المساعدة التي نصحه بها الأصدقاء مراراً قبل الذهاب لعرض ما يُمكن أن يتستخرجه الطبيب بجهازه المبتكر من عالم ماجد الخفي الذي يطارده.. ترددت القصة في ذهنه بقليل من الارتباك:
– أقف أمام النافذة كل يوم محاولاً تكوين صورة للدخان المنتشر في كل مكان، محاولات عنيفة للتركيز، لا تؤدي إلا لتحرك الدخان ليشغل مساحة أصغر.. أصوات الرصاص تنتشر في كل مكان، الصراخ مريع، لكني لا أرى إلا دخاناً فقط.
– موجة أخرى من التركيز، منحتني بضعة ألوان و دماءً تسري حول قدمي، لم أقتل أحداً في الحرب، لكنني كنت قريباً جداً، و شاهدتُ الكثير..
الطبيب يصفق بيده بإيقاع مدروس، و يضغط بضعة أزرار على الماكينة، ثم يلتفت إلى ماجد قائلاً بصوت أقل توتراً:
– بدأت أحصل على تجسد… مزيد من التركيز لنصل إلى المرحلة التالية..
نصيحة كل من استخرجوا من مخاوفهم و أبشع ما يعانون، فرصا إستثمارية ربحوا فيها الكثير من المال، و ربح المجتمع إضافة لقوته العاملة كانت: أن يركز في الهدف الذي يريد من أجله المال، في مرحلة بدايات تجسد المخاوف. كان الأمر سهلاً على ماجد، فرغبته في التخلص سريعاً من زوجته و استبدالها بنسخة معدلة تنجب، و تتبادل معه أطراف الحديث عندما يرغب في الحديث، و الكثير من التحسينات الأخرى التي تدرب على حجب تفاصيلها عن ذهنه كيلاً يراها الطبيب، على شاشة تجسيد الأفكار الملحقة بجهازه؛ لخصوصيتها.
تدرب ماجد فقط على استخدام الشعور المقزز الناتج من تذكر هذه التفاصيل الخاصة، في إذكاء جذوة رغبته في استبدال زوجته – بعد قتل نسختها القديمة طبعاً-.
حديث الطبيب الحماسي عن إقترابهم من المرحلة الأخير، أزكى حماس ماجد، الذي بدأ يتخيل نفسه بعد قتل نسخة زوجته الحالية مع نسخة أخرى.
ذات الفتاة التي أحبها، و لكن كما يريد هو، لا كما تكون هي. لم يشعر للحظة بتأنيب الضمير لأن هذا ما كانت ستفعله هي – أو أي بشري في تلك الحقبة – لو وُضع في مكانه..
بل ربما فكرت زوجته في أن تستبدله فعلاً، الفارق أنها لا تمتلك –مثله- ما تبيعه لتوفير ثمن الاستبدال. الطبيب يواصل العبث بأزرار الجهاز، و يسحب قفصاً زجاجياً شفافاً متصلاً بكثير من الأسلاك:
– مرحلة التجسد الأخير.. لم يبق الكثير.. هيا
زيادة تركيز ماجد جعلت الدخان و الألوان تتصور وجها.. إرتجافة ماجد الأخيرة أتت بذلك الشبح الذي يزوره يوميا، منذ انتهاء خدمته بالحرب، إلى مجال بصره الآن. الشبح يبدوا حزيناً منهكاً، ليس شريراً أو بشعاً كالأشباح التي حكى له عنها بعض أصدقائه، ممن كانوا في موقفه قبله مع طبيبه، أو طبيب آخر يساعدهم على تجسيد أشباحهم.
مائة عام من الحرب، و الويلات و القتل استبدلت الملايين الذين أتت الحرب على حياتهم، بملايين الأشباح التي تطارد من تبقى حياً، حتى غدا من لا تطارده الأشباح، في مرتبة الأولياء..
الشبح يقترب من ماجد و ينظر إليه ككل يوم و يقول:
– ماذا تريد..؟
صرخ ماجد:
– بل ماذا تريد أنت..؟ أنت من يطاردني منذ سنوات بلا أي هدف..
ظهر الرعب على الشبح و صرخ:
– أنت من كوَنَنِي هذه المرة….. لا إبتعد عني…
كانت ملايين الأشباح تهيم في عالمها، و عالمنا يحتضر من قلة الأيدي العاملة، و عليه فلم يكن هناك أكثر عبقرية من تجسيدهم لتعويض هذا النقص.. فكرة خارج أي صندوق ممكن، و لا تحتاج إلا لعقول كعقول العباقرة الذين أنتجوا ماكينة تجسيد الأشباح، كما أنتجوا قبلها ماكينة الإستبدال…
– إنتهينا يا ماجد..
كان هذا هو الطبيب، و كان صوته إيذاناً لماجد بالخروج من حالة التركيز، و العودة إلى عالم البشر، ليجد شبحا متجسداً، يتخبط في جداران القفص الزجاجي.
ضغط الطبيب على بضعة أزرار فسكن الشبح فجأة، و تصاعد في القفص الزجاجي دخان أصفر اللون، و ظهرت تحاليل قدرات الشبح على شاشة الجهاز، فمط الطبيب شفتيه بإحباط لا يفوقه إلا إحباط ماجد و قال:
– الشبح المُستَحضَرِ من النوع الغبي، الذي يصلح للأعمال الكتابية فقط، أو العمل كعمالة غير ماهرة..
سجل الطبيب بضع ملاحظات و وقع على الشيك الخاص بماجد و ناوله إياه..
ذهن ماجد مازال يعمل قائلاً: رغم توقعي للكثير من المال، إلا أن ما سأحصل عليه طبقا لجدول أسعار الأشباح يكفي لعملية الاستبدال. لن يتبقى الكثير من المال، إلا ربما لشراء طاولة جديدة للصالون، أو عشاء فاخر مع زوجتي بعد استبدالها.. أنا أحب هذا العالم حقا…..
أسكت صوت الطبيب ذهن ماجد عندما قال:
– التالي..

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون