شامة وقلب قاس

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 13
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هانى عبدالمريد

كان القفا من أمامى نموذجيا، قفا أبيض لرقبة طويلة يعلوها شعر أسود كثيف وطويل، ينسدل فى ذيل حصان يميل قليلًا نحو اليمين، فيعطى فرصة لهذه الشامة ناحية اليسار لتظهر بوضوح، منذ سنوات كان وجود فتاة بلا حجاب يعنى أنها بنسبة كبيرة مسيحية أو سائحة أجنبية، ثورة يناير وما تلاها من أحداث كانوا سببًا فى تخلص الكثيرات من الحجاب، ربما لولا الثورة ما رأيت هذه الشامة.

كانت إشاعات الفقرة العنقية على فخذى تنزلق مع أهتزازات المينى باص، أعيدها فى كل مرة بوهن، الطبيب بدا مندهشًا حين نظر فيهما؛ كيف أنها المرة الأولى التى أشكوى فيها من آلام الفقرة العنقية، الغضروف يضغط على العصب، يحد من وصول الدم للأطراف، وهو السبب فى الوهن الذى يدب فيها، مع رفضى القاطع لإجراء العملية الجراحية التى يرجوها الطبيب، لم يجد بدا من التوصية بضرورة إرتداء رقبة طبية، سأكون معها كإنسان آلى، رقبتى مستقيمة وحركتى بطيئة، سأثير بالتأكيد سخرية الأطفال، وربما أثير خوف أصغرهم سنًا.

البنت من أمامى تنظر من الشباك على شيء يثير اهتمامها لتعطينى فرصة لأرى جانب وجهها، تستدير لتلحق بأخر مشهد مما تتابع، فأرى وجهها كاملًا، بدت لى كنسخة من كاميليا، الممثلة اليهودية التى ماتت فى حادث سقوط طائرة، كأنها تخطت عشرات السنوات لتتجسد أمامى، كان لى صديق من مزارعى الدلتا، يقسم أن جده كان يحتفظ بجزء من ملابس كاميليا المحترقة، فقد سقطت طائرتها بالقرب من أرض زراعية كان يعمل بها جده، الولد يحكى أن جدته كانت تشعر بالغيرة من قطعة القماش المحترقة هذه أكثر من غيرتها من أجمل بنات القرية.

الولد الذى يقف بجوار البنت صاحبة الشامة يبدو خطيبها، يقف ممسكًا طرف مسند كرسيها بيمناه، وطرف مسند الكرسى من أمامها بيسراه، وكأنه يحيطها ويحميها، للولد قوام ممشوق، وأطراف شابة لم يدب فيها الوهن، تذكرنى أمى دومًا أننى ما زلت شابًا، وأن دخولى فى الخمسين لا يعنى شيئًا، وأننى لا بد وأن أتزوج وأقر عينها بحفيد تفرح به، تُرى ماذا ستقول لو علمت بغضروفى هذا، ورأتنى بالرقبة الطبية، ورأت الشاب الواقف الآن بجوار الفتاة وهو يهب منذ قليل واقفًا ليجلسنى فى مكانه مرددًا:

“اتفضل يا حاج”

الولد لم يكلم البنت، يختلس إليها النظرات كغريب، لعله حبيبها، ولكن حبيبة كهذه لا بد ألا يتركها هكذا، كان لا بد أن يتكلما ويتضاحكا، هل بينهما مشكلة؟، أى مشكلة تلك التى تفسد ساعات اللقاء بتلك المليحة؟

الشامة فى قفاها واضحة، ألفُ بعيناى بعيدًا عنها لكنها فى النهاية تجذبنى لتأملها، ليست سوداء تمامًا، بل تميل أكثر للبنى الغامق، واضحة جدًا وسط بياض قفاها، وكأنها وجدت لتُظهر هذا البياض بشكل أفضل، هى الآن تدعونى لتقبيلها، أشعر بالفعل برغبة عارمة فى أن أضع شفتى على هذه الشامة الواضحة، هل تتكرر مثل هذه الشامة فى أماكن متفرقة بجسدها، أنا أأمن بفكرة الثنائية، بالتأكيد لمثل هذه الشامة واحدة أخرى، أتخيلها مباشرة تحت الهالة البنية التى تتوسط صدورها، لتبدو كنقطة لون سقطت منها.

هل كان لدى كاميليا شامة كهذه؟ يملؤنى يقين أن لدى كاميليا شامتين، كالتى أراها الآن بعينى، والتى أستشعرها بيقينى، أتخيل أن شامة كهذه هى التى فتنت الملك، شامة كهذه جعلته يحبها، وجعلته لا يهتم بما يقال عنهما بالصحافة، بذلك تكون شامة كاميليا هى التى قادتها لقدرها المحتوم.

رجل فى مثل حالتى لا بد وأن يكون أكثر صراحة مع نفسه، لا بد أن أعى أننى من الممكن أن أنام ولا أستيقظ، الأمر بسيط، العنق الذى يمرر الدماء بصعوبة، يتخلى أكثر عن أداء دوره لسبب أو لآخر، ستقل بذلك كمية الدماء الواصلة لشرايين المخ المجهدة فى الأساس، وتكون الجلطة، التى سترانى كصيد ثمين، وأنا أنام فى شقتى وحيدًا، سيكون من السهل أن أفقد حياتى، ولكن كيف سيكون موقفى لو فقدت حياتى دون أن تلمس شفتاى مثل هذه الشامة، هل سيتوقف العالم وينهار النظام الشمسى لو حققت مثل هذه الأمنية البسيطة، أنا لا أفكر فيها بأى شهوة، ولن أقبل غير الشامة التى أراها بعينى، ولن أفكر مطلقًا فى الأخرى التى أراها بيقينى، سأقبلها باعتيادية من يشرب دواء مرض مزمن، بآلية فرد أمن يرد سلام ساكن لا يدفع له بسخاء.

الولد حاد النظرات، لا أظن أنه سيتفهم موقفى هذا، ولا أظن أننى سأصمد أمام قبضته هذه لأكثر من ثلاث ثوان، ولكن إذا كانت كاميليا دفعت عمرها ثمنًا لشامتها، سيهون عمرى ثمنًا لهذه الشامة، ماذا يعنى العمر لرجل وحيد، أمى تعانى الزهايمر؛ لو تغيبت عنها ربما لن تلتفت لعدم وجودى، فقط ما يقلقنى زميلى فى العمل الذى كان ضامنا لى فى قرض البنك، حصلت عليه بعدما ضاقت بى الدنيا وفقدت -بعد الثورة- مشروعا كنت أقتات منه بجانب الوظيفة محدودة الراتب، هى الثورة مرة أخرى، تتسبب فى أن أرى الشامة، وتتسبب فى منعى الآن من تحقيق رغبتى فى تقبيلها، فلو فعلت ربما فقدت حياتى، وحينها سيتحمل الضامن باقى الأقساط بلا ذنب.

الولد ينظر لها نظرة طويلة، وكأنه يود لو يطبع ملامحها بذاكرته لأكبر فترة ممكنة، يرحل فجأة، وهو يتحرك ظهر بساقه عرج خفيف، كأن لديه ساقا أطول من أخرى، لم يكن هذا النقص واضحًا منذ البداية، ربما لو علمت به لاختلفت حساباتى، يرحل وكأنه لن يراها ثانية، وكأن كل ما بينهما انتهى بعد هذه اللحظة، البنت لم تلتفت إليه، ولو بنظرة واحدة، بدت لى قاسية القلب، البنت الآن أمامى ليس لديها شاب أعرج يحميها، وفى الغالب قلبها صار فارغًا، وفى حاجة لمن يملأه، وربما منكسرًا، وفى حاجة لمن يحنو عليه، الشامة من أمامى بنية ساطعة وسط بياض قفاها، لم تعد تدعونى لتقبيلها، صارت كأى شامة يمكن أن أراها، فماذا تفيد شامة بنية كهذه مع قلب بهذه القسوة، قلب باع بكل سهولة، قلب لفتاة لم تكلف نفسها عناء نظرة واحدة تلقيها على حبيب لن تراه للأبد.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون