“شارع ميجيل” .. الحالمون لايفعلون شيئا سوى الإنتظار

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

منذ سنوات طويلة، لم أقرأ لوحات قصصية بارعة، عن شخصيات استثنائية، رسمت ملامحها بهذه الدرجة من الدقة، التى تجمع بين السخرية والتعاطف، وكأنها شخوص تشيكوفية مكتوبة بقلم أوسكار وايلد.

أتحدث عن الكتاب الممتع ” شارع ميجيل” لمؤلفه ف. س. نايبول، الروائى التريندادى الذى يكتب بالإنجليزية، والحائز على جائزة نوبل فى الأدب عام 2001، من ترجمة وتقديم د أحمد هلال ياسين، فى سلسلة الجوائز التى تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب.  

 المكان: شارع مكتظ بالأنماط الغريبة، والزمان: فترة الحرب العالمية الثانية، والبناء: مجرد حكايات متتالية عن نماذج إنسانية عجيبة، لكل شخصية قصة مكتملة ومستقلة،وكأنها لؤلؤة فى عقد،، ولكن ذلك لا يمنع ظهور الشخصيات فى قصص أخرى لتقوم بدور هامشى بعد أن كانت بطلة لقصتها، الراوى وأصدقاؤه يكبرون مع مرور الزمن، ولكن لا توجد حبكة تجمع هذه الشخصيات، لاشئ سوى أنها شخصيات مثيرة للرثاء وللضحك معاً، تعيش فى الخيال أكثر مما تعيش فى الواقع، شخوص تذكرك بعالم تشيكوف، أولئك الحالمون الذين لايفعلون شيئاً غير الإنتظار، ينتقلون من فشل الى آخر، يدورون حول أنفسهم بلا توقف.

جزيرة ترينداد الصغيرة على هامش العالم، أجناس مختلطة، بيض وسود وهنود، الأمريكيون احتلوا الجزيرة أثناء الحرب العالمية الثانية، حياة فارغة تجعل الراوى يقول لأمه فى النهاية:” ليس بمقدور أى امرئ فى ترينداد إلا أن يسكر”، رغم هذا البؤس فإننى أضمن لك أن تضحك بصوت عال وأنت تقرأ عن هذه الحكايات.

من النماذج مثلا ذلك النجار الذى يعمل طوال الوقت دون أن يكمل عمله، وعندما يُسأل عما يفعل، يقول إنه ينتج شيئاً يعزّ على التسمية: (انتزع بوبو من خلف أذنه ما تبقى من القلم الرصاص الأحمر الذى كان يرشقه دوما فى هذا الموضع، وقلقت فى عينيه نظرة حائرة تشى بعجزه عن انتقاء الكلمة المناسبة، أراد فى البداية أن يعلن عن نفسه مهندسا معماريا، بيد أننى تمكنت من إثنائه عن هذا القرار، كما أنه لم يكن واثقا من الهجاء الصحيح لهذه الكلمة، ولذا رُكبت فى النهاية على هامة الورشة لافتة كبيرة مسطر عليها بالخط العريض: بنّاء ومقاول/ نجار/ وصانع صوان ملابس)،  وذلك العملاق المهيب الذى تكتشف المدينة جبنه وضعفة وخوفه، والمجنون مان مان الذى طلب أن يصلبوه ويرجموه مثل السيد المسيح، فلما فعلوا قذفهم بالسباب، فأدخلوه المستشفى: (لم يرتزق مان مان من عمل قط، وإن كان دوما يجد ما يشغل به وقته، إذ شغف بالكلمة ايما شغف خاصة الكلمة المكتوبة، وعجز عن الإنفكاك من سحر هيئة الحروف من انحناءات واستدارة، ولذا كنت تجده ينفق يوما بأكمله فى خط كلمة واحدة على أديم الشارع)،  وذلك الشاعر المتسول الذى يعرض قصائده للبيع دون أمل العثور على مشتر واحد، والشاب الذى يرسب فى كل امتحان، فيعتقد أنهم يحاربون الجنس الأسود، وينتهى به الأمر سائقاً لعربة القمامة، والمرأة التى انجبت ثمانية أطفال من سبعة رجال، والرجل المهووس بتفكيك محركات السيارات دون أن ينجح مرة واحدة فى إعادة تركيبها من جديد: (كنت أرقب بهاكسو فى تلك الليلة وهو مكب على إصلاح السيارة، فقلت ملاطفا: إن ملابسك لا لون لها من تلبد الغبار والأوساخ عليها، إننى أعجب لارتدائك هذه الملابس، ومظهرك الذى يستدر الرثاء، ويفصح فى نفس الوقت عن إهمال صريح نتيجة نسيان الذات. افتر ثغره عن ابتسامة ارتياح وتساءل: وماذا تتوقع يابنى من رجل مثلى كرّس حياته لفن إصلاح السيارات، ولا يجد وقتا كى يعنى بحسن هندامه وأناقته؟ خطر لى خاطر فتساءلت باسما: ما العطب الذى أصاب السيارة؟  أرق ملياً لا يحير جواباً )، وخبير الألعاب النارية الذى تضربه زوجته الضخمة.

لايتوقف الآباء عن ضرب ابنائهم، ولا الأزواج عن ضرب زوجاتهم، ولا الزوجات عن رد العنف بالعنف، ومع ذلك تسير الحياة فى مدينة”بورت أوف سبين” فى ترينداد، ولا تتوقف أبداً أشجار جوز الهند أو البرقوق أو المانجو عن الإثمار.

“شارع ميجيل” هو أول عمل كتبه نايبول معلنا عن موهبة ضخمة، وبراعة حقيقية فى رسم الشخصيات، وتعاطف حقيقى مع البسطاء، وروح محبة للمكان الفقير، والأشخاص الأكثر فقرا، مع لمحة سخرية عذبة رائقة بحجم المسافة بين الحلم والخيال، والواقع والمتاح. هذا اقتباس أخير ممتع من إحدى اللوحات البديعة عن الشاعر المتسول:

” قال لى ذات يوم وأنا أجالسه فى فناء منزله: سوف أبوح لك بسر هائل، قلت: هل هو سر حقا؟، قال: هو سر حتى الآن. جعلنا نتبادل النظرات فى صمت مجلل بالرهبة، ثم غمغم كأنه يهامس نفسه: إنى أنظم قصيدة الآن، أوه .. ندّت عنى بصوت خامل محشرج بالخيبة، واصل قائلاً: بيد أنها قصيدة جدّ مختلفة، إنها أعظم قصيدة خطّها شاعر فى العالم كله.

صفّرت بفمى بإعجاب، فقال مجتاحاً بدفقة من حماس: إننى أواظب على النظم بهمة لا يعتريها الكلال منذ خمس سنوات خلت، وسوف أنتهى من كتابتها خلال اثنين وعشرين عاماً شريطة أن أواظب على الكتابة بنفس المعدل الحالى

_ لاشك أنك تنجز الآن الكثير.

_ لم أعد أكتب بنفس المعدل عند البداية، فإننى أكتب الآن بيتاً واحداً كل شهر، إلا أننى أتوخى أن يولد متوهجاً بالتفرد والعبقرية.

_ ما البيت الذى نظمته الشهر الماضى؟

شخَصَ ببصره الى السماء ثم قال:البيت هو” إن الماضى موغلٌ فى العمق”.

 

 

 

مقالات من نفس القسم