سيرة صداقة

سيرة صداقة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

علاء خالد

تعرفت علي اسامة الدناصوري بعد تخرجي مباشرة في كلية العلوم جامعة الإسكندرية. فترة يائسة لايوجد بها أي أمل بمستقبل، كأنك خرجت إلي الحياة دون سابق معرفة أو تجهيز لها. كيف تعيشها، كيف تؤديها، كيف تفرح بها كحياة مفتوحة علي مصراعيها؟ كل فترات الدراسة السابقة، مهما كانت مشاكلها، إلا أنها كانت تضع حدودا للإحباط الذي كان يعتريني، تجعله يسير علي قضيبين. اليأس مسار ومحطة وصول وركاب. فترة الجامعة كانت كقطار يحمل جثة داخله، ولاأبالغ في وصفي هذا، فقد كنت أشعر أن مشاعر الإحباط أكبر بكثير من عمري ومعرفتي بالحياة. ربما كنت أتساءل هل هناك حياة أخري أعيد تمثلها، وابتديء كتاب اليأس من حيث انتهي الآخرون. لم اجد بجانبي نماذج تعينني علي تحمل الحياة، أو بها بعض من تشابه المواساة. ولكن هل بالفعل لم تكن هناك نماذج مشابهة، أم أن عيني لم تكن تري إلا فرادتها في كل شيء حتي في اليأس.

في تلك الفترة تعرفت علي أسامة الدناصوري، ولأول مرة أشعر بوجود علاقة ندية بها شيء نشط، خارج أي حسابات مسبقة أو توقع لها. كانت صداقات الجامعة وما استمرمنها، تدور في فلك عادي، غير مبهر، وغير محفز تجاه أخذ خطوات جادة تجاه حياتك، باستثناء طبعا البحث عن عمل. العثور علي عمل كان هو الحياة نفسها، ومايتطلبه من أوراق ودورات حاسب آلي ولغة إنجليزية، وتصوير مئات الأوراق وإرسالها إلي جهات مجهولة، لاتفصح عن نفسها إلا عبر رموز في صفحات الوظائف في الجرائد الحكومية.

أقصد بالعلاقة الندية، أن هناك صديقا تعمل له حسابا. بالتأكيد كل الأصدقاء الذين مروا كنت أعمل لهم حسابا ، ولكنه حساب تعرف مداه وحدوده، وتغمض عينك عن مكاسبه، لأنه بشكل ما سيكون في صالحك. أما العلاقة مع أسامة، ومع أصدقاء سأتعرف عليهم فيما بعد، فتشبه السباحة في بحر واسع متلاطم الأفكار والأمواج.يحتاج لبصيرة ولصدق ولرغبة في فهم الآخرين، وليس تأميم نظرتهم لصالحك. ففي تلك السن في بداية العشرينيات من عمرك من الصعب أن تمنح الحياة لأحد نضجا مبكرا وقدرة علي تحليل الأمور، وإن كان بها مسحة رومانسية أو مثالية. ولكن أسجل هنا أن كل أصدقائي، من خارج دائرة الفن والشعر، المجايلين لي في تلك السن المبكرة كانوا يمتلكون نضجا مضمرا، أو موهبة متفردة، ولكنه كان مخلوطا بخوف من ضياع موقعهم في الحياة، في التفوق، في القبض علي وظيفة عالية الأجر في إحدي الشركات الاستثمارية. عاشت الموهبة الشخصية مسخرة للحصول علي امتيازاجتماعي، ومع الوقت ومع مرور السنوات، انزوي داخل النفس كشاهد قبر نزوره في المناسبات. عند اسامة كانت الموهبة الشخصية والنضج المبكر مسخرين فقط للكسل وللبحث في هوية الشعر، وهوية الآخرين، في توطيد وجوده كمحب للأصدقاء.

بمعرفتي لأسامة تأكد لدي إحساس وموهبة كانت من الممكن أن تضيع، أو تنزوي كما حدث مع جيل كامل تفرغ للسفر للدول العربية من أجل العمل. حتي تاريخ لقائنا كنت مذبذبا بين طموح وأداة اجتماعية تستهلك معظم وقتي، وبين ذلك النزوع الشعري، والذي ليس عليه دليل سوي مباركة الأصدقاء وإعجابهم بما تكتب وتفكر فيه. وكذلك إحساسي الشخصي بأني أمتلك رغم كل هذا شيئا مختلفا ودافئا في نظرتي للحياة. ولكن أين تكمن قيمته أو مستقبله ؟ وكيف يصبح مسار حياة ؟ تلك هي الأسئلة التي كنت أعذب بها نفسي.

بجانب أسامة كانت هناك شلة اصدقاء تعرفت عليهم أثناء فترة الجامعة. وكانوا يتصلون بعالم الفن بحكم دراستهم بكلية الفنون الجميلة. وهم مهاب السيد ومحمد فتحي أبو النجا وياسر شحاته. كان لهم عالم غريب بالنسبة لي، ليس فقط كلامهم حول هذا العالم الغريب، بل أيضا سلوكهم اليومي الذي به مس من الفرادة. حتي ملابسهم المبقعة بألوان اللوحات التي يرسمونها، وكوفياتهم الفلسطينية، وهذا الفضاء الحر من العلاقات التي يتحركون فيه، وعدم التزامهم بمواعيد ثابتة للمذاكرة، كأن تحصيلهم يتم بالاحتكاك مباشرة بالحياة، مسرحيات وأفلام ونقاشات وعلاقات نسائية.

في تلك المراحل الأولي كان مهاب السيد هو الأكثر علاقة بروح الشعر، وكم أحسست بالأسي وهو ينشد قصيدة عبد الرحمن الأبنودي الخواجة لامبو . ظل الشعر بالنسبة لمهاب رهانا داخليا صامتا، ولم يأخذ طريقه إلي ديوان حتي الآن، ربما لأنه لم يتحول إلي طريقة حياة، علي الرغم من أنه كان أكثرنا أصالة في حيازة عالم غامض تعيش فيه الكلمات والأفكار، عالم من الأحاسيس المبتورة، ولكنه عالم كان له تقديره بالنسبة لي.

ساعدني أسامة في أن انحاز أكثر لعالم الشعر، وسط هذا العالم الذي بلا أمل، وبلا عمل، الذي كنت أحيا فيه. كان أسامة والشعر اكتشافين صنعا لي بعضا من التوازن. ليال وسهرات ومقاه، كنا نبني فيها حدود هذا العالم ونرسي فيه احلامنا ولغتنا وتصوراتنا عن القصيدة، بسهولة وبدون خجل يمكن أن اسرد أحلامي، بل رأيي الشخصي وهواجسي، بدون توقيفات أو انتقاد لها. في الوقت نفسه كنت متغاضيا عن تعثر اجتماعي، أو قل تورط اجتماعي كنت غارقا فيه، يتلخص في إحساس لم ينفصم بالأسرة، وتقاليدها وأخلاقها، وبصيص من رغبة في الصعود الاجتماعي. بينما أسامة لم يكن لديه مايبكي عليه، لم يكن محاطا بهذه الأجهزة النفسية والاجتماعية التي كانت تحركني، ربما السبب يرجع للنشأة في الريف، وكذلك انفصاله مبكرا بعد المرحلة الثانوية عن أهله وعائلته، وذهب وراء الدراسة في الجامعة، يربي نفسه ذاتيا، في شقق مفروشة سيقابل فيها غرباء، وسيتآلف معهم. وبعدها بسنوات سيكتب أسامة، عندما يترك الإسكندرية، ويذهب للإقامة في القاهرة، في حي فيصل، يكتب مخاطبا الكلاب التي تدور وتنبح في هذا الحي المكتظ بالسكان وبأشكال عشوائية من البنايات، وبخرابات وبقايا زراعات قديمة. يكلم أسامةالكلاب ويقول لها أنا ابن ريف مثلكم . انها كلاب مهاجرة مثله ولم تولد في المدينة. في لحظة الاغتراب هذه، يتذكر اسامة الريف، الذي ربما ولأول مرة يظهر في شعره الفصحي، ويذكر أبوته له، ولن يظهر هذا المشهد مرة أخري في القصائد.

هذا الأحساس الذي لازمه طوال حياته، لم يكن عنده مايبكي عليه، ليس لأنه لايمتلك شيئا، بل لأن ما يمتلكه ليس بقوة مايحلم به، . هذا الزهد الذي جعله لاينازع أحدا في طابور. كان متخلصا إلي حد بعيد من أمراض الصراع. ولكن كانت شعريته ووجوده الشخصي هما مكانا الاستثمار، ومكانا الصراع والامتياز. فلم يكن يقبل بأي مساس بهما، لذا كانت كرامته الشعرية والشخصية، شيئين لايقبل النقاش أو المساس بهما.

صديق جديد دخل في علاقتنا، وكان وجوده حاسما في ضبط إيقاع هذه العلاقة، وهو المرض.بعد معرفتي بأسامة بقليل، بسنة علي الأكثر، بدأت اكتشف هذا المرض المقيم في جسده. لا أتذكر هل حكي لي، أم كان ينتظر أن أري بنفسي إحدي أزماته الصحية، والتي حتما ستأتي ستأتي، فلم يرد أن يعجل بالتصريح بها. عرفت أنه نزيل بالمستشفي الميري بالإسكندرية. ومن هذا اليوم بدأ مسار جديد لعلاقتنا. كنت خلالها أقضي فترة التجنيد في مرسي مطروح. في أول يوم من إجازتي أذهب لزيارته بالمستشفي، كأني ذاهب للقاء هام. ساعة أو ساعتان أو ثلاث من الدردشة والقراءة وتبادل القصائد. كل هذا كان يحدث داخل عنبر المسالك البولية بالدور الخامس بالمستشفي الميري، ومن حولنا مالايقل عن خمس عشرة نزيلا. تحول المرضي إلي أصدقاء لي، وقبل ذلك بالتأكيد تحولوا إلي أصدقاء لأسامة، كانت له القدرة والموهبة الشخصية في صداقة الناس علي تنوعهم، كان يكتشف فيهم ذلك الجزء الفني والدرامي الذي يجعلك تمضي عقدا علي بياض، دون أن تنظر لأي شكليات، وانما تنظر مباشرة إلي القلب.

أصبح أسامة هو الصديق الذي يوجع قلبي عند تذكره؟. من كثرة زياراتي له، وطول فترات إقامته بالمستشفي، نشأت علاقة أخري بيني وبينه، خليط من المسئولية والتعاطف. أصبح هناك شيء يمكن أن اقدمه له بتفان، وأساهم في تخفيف الألم. ولكن لم أخف سعادتي وفرحي بتلك الجلسات الطويلة. في إحدي الزيارات، وأتذكر أنني وصلت مساء، اقتربت من سريره وتعانقنا كالعادة، ولكنه هذه المرة لم يفض العناق، واختبأ بدموعه في صدري. كان موقفا مؤثرا لي وللنزلاء في العنبر. واتذكر أن جاره في السرير المجاور، الفلاح البسيط الذي كان يحمل سرطانا في مثانته، وكان عند قيامه من النوم يرفع رأسه مباشرة لأعلي ويقول : ‘صباح الخير ياربنا . هذا الجار استغل خروج اسامة من العنبر لقضاء أمر ما، أسامة بيعزك قوي ، وربما أضاف إلي أهمية الحفاظ علي هذه الصداقة.

بالفعل كان البكاء علامة هامة، خصوصا عندما يصدر من أسامة، الذي نادرا، وربما لم أره يبكي إلا هذه المرة، بالرغم من تعدد حالات الموت التي تخللت صداقتنا. كان أسامة يمتلك بنية نفسية قوية، لها القدرة علي ضبط إيقاع أي فوران يمور داخله، ليحفظ صورته في عيون الآخرين، ولكن الوجه كان يفضحه، ويكشف هذا الغضب. لم يكن هذا هو قانونه في كل تصرفاته التي تخص علاقته بالآخرين، ولكن في تصرفات أخري كان أبعد من أن يحافظ علي صورته، كان يحافظ علي إيمانه بنفسه وبفكرته في تلك اللحظة، مهما كانت متعارضة مع نظرة الآخرين. كان يمتلك مكانا مقدسا لايقبل النقاش، ومكانا قابلا للنقاش والتحول.

كان أسامة واحدا من شعراء الكلية المهمين، وكانت الندوات الشعرية في ذلك الوقت، في منتصف الثمانينيات، مازالت تجذب إليها الكثير من الحالمات. إحداهن انخطفت بهذا العالم الشعري واصبح أسامة قريبا إلي قلبها. كانت مترددة في الاقتراب منه اكثربسبب خطبتها لطبيب. عندما تعرفت علي اسامة كانت صديقته هذه هي إحد موضوعاتنا اليومية عندما نلتقي، وربما كانت العنوان الرئيسي لنقاشاتنا، بجانب الشعر طبعا، ولكن النقاش حولها كان يأخذ ايضا طابعا شعريا، تحليلا وتفنيدا للمواقف والحركات والسكنات. كلنا كنا شعراء في زمن ما. المهم صرت صديقا لها أيضا من خلال هذه النقاشات. تحليل الحياة لم يأت فقط من ساعات الوحدة أو السأم، أو النظر الي الذات بعمق من اجل البحث عن حل لها، بل من الاقتراب من قلب المرأة، الذي كان يحتاج إلي جلسات وجلسات نسهب فيها في رصد تلك المشاعر الخبيئة، والتي لم نعهدها في محيطنا الذكوري. ضمن أي تعريف عن المرأة، هي أيضا فكرة شعرية غامضة.

المهم صرت صديقا لصديقة أسامة، وكنت في نظرها، أيضا، أحد الحالمين الذين ينتمون لهذا العالم السحري، الذي اسمه الشعر. أرضاني هذا الانتماء، فلم يكن لدي أي عالم انتمي اليه، وكذلك كنت خالي الوفاض والبال من أي علاقات نسائية، أو حتي أشباحها. توطدت علاقتي بصديقة أسامة، وخاصة في الفترة التي أصبح فيها نزيلا في المستشفي. نتقابل صدفة، أو عن عمد، ويدور حديثنا حول الشعر وأسامة، حتي أنني كنت أصل في حديثي معها لدرجة من الشجن والقشعريرة في الجلد وجفاف في الحلق، لاتأتي إلا في حضور انثي.بالتأكيد كنت أبغي أن أسرب لها صورة جميلة عن نفسي، عن مقدار إيماني بهذا العالم. كل هذا كان يتم بكلام غير مباشر، كان الشعر هو الوسيط لتمرير النيات اللامرئية.

في إحدي المرات ذهبنا سوية لزيارة اسامة في المستشفي في عنبر المسالك البولية في الدور الخامس بالمستشفي الميري. سبقتها إلي عنبر الرجال، وأخبرت أسامة ليلحقني إلي الخارج حيث كانت تنتظر وفي يديها باقة ورد. وانسحبت أنا في الظل. قضيا بعض الوقت في الكلام والدردشة. وكم كان أسامة سعيدا بهذا اللقاء، تنتابه في تلك المواقف روح جزلة ويصيبه بعض الارتباك الفرح. انتهت الزيارة وهبطت معها. سافرت إلي الجيش ثم عدت في أول اجازة إلي أسامة في المستشفي، وهنا أتوقف عن تلك الأيام الطويلة التي كان يقضيها داخل هذا العنبر، الذي مهما كان غني مرضاه وسعته، إلا أنه في النهاية لايرشح إلا فكرة الموت. عدت إليه وقد كانت له طريقة ذكية في تقصي النفس، ولكنه لم يقترب من قريب أو بعيد لخصوصية علاقتي بصديقته، التي لم تعد في حاجة إلي برهان. كان راضيا عن هذا الإطار المتشابك والمعقد الذي تدور فيه علاقتنا الثلاثية. وهنا أتوقف أيضا عند سمة من سمات أسامة، هواستمتاعه بتلك العلاقات المعقدة، الذي بها صراع وحرب وسوء فهم، كان هذا الحس يشبعه بشكل ما، حتي ولو كان غير مدرك أو متعمد، فالذات نفسها رتبت أوضاعها علي تقبل الحياة والآخرين من هذا الجانب.

ربما بعدها بسنوات طويلة علي هذا اللقاء، وبعد انتهاء علاقتهما وانحياز صديقته لاستكمال رحلتها مع خطيبها الطبيب. بعدها بسنوات صارحني أنه كان يعرف وكان راضيا عن مشاركتي الصامتة والغيبية في العلاقة. لم يقل لي هذا مباشرة ولكن عبر قصيدة كتبها يشرح فيها تلك العلاقة الثلاثية، فلا يمكن للشعر أن يتخلف وتمر من أمامه الحياة بدون القبض عليها بقوة، وتخليدها. في القصيدة يوضح قدر صداقته لي، ولكني الآن أثق أيضا بعد هذه السنوات أن وجوده في العلاقة كان جزءا حاسما في انجذابي لها.

لم تكن لدينا أي انتماءات سياسية كما حدث مع الأجيال السابقة. بالرغم من أن فترة الجامعة كانت مشحونة بتغيرات سياسية وبسيطرة الفكر الديني المتمثل في الجماعات الإسلامية علي روح الجامعة. في هذا الوقت كانت هناك مجموعة من رموز المعارضة تقوم بدور فعال في مواجهة السلطة المتمثلة في السادات.في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات تشعر في المناخ العام للبلد بوجود روح جادة سواء في الصحافة أو المعارضة، لها صوت ومواقف وتضحيات.ولكنها لم تكن مشبعة أو يمكنها أن تشكل ثقافة، وربما ستكون هي نهايات مرحلة وستأتي مرحلة أخري ستخفت فيها أي روح مقاومة أو تطالب بالتغيير أو حتي تفكر فيه، أو تضحي من أجله.بمعني ما اننا نشأنا في ظل مشروع سياسي ميت، أو في لحظاته الأخيرة. تحمل في داخلك شذرات من وجوه ومواقف وكتابات وتضحيات، تجعلك في مكان الرافضين للوضع القائم. وقد تحولت مصر كلها إلي موقع الرفض، لاستشراء الفساد، وتحول الرفض إلي مهنة يومية للناس وللشباب، أصبح رفضا بلا روح. وربما هي بدايات لحظات الاستسلام، الذي ستفصح عن نفسها بعد ذلك عندما سيتحول المجتمع ويعلن عن وجهه الحقيقي.

ليس معني أن ألا تكون لك انتماءات سياسية، أنك تعيش في كون فارغ من المعني. كانت هناك مجموعة من الأخلاق الخاصة التي ساهمت في تكوين وعينا الجمالي والشعري. ولكن هذه الأخلاق لم تكن غايتها المواجهة أو تغيير المجتمع، بل انصبت في تكوين وعي جمالي بالقصيدة والكتابة له اتصال وثيق بالحياة الهاربة من القصائد. وسيتأكد هذا الوعي فيما بعد ويكتسب وجها سياسيا، عندما يتجه إلي الوجود الشخصي والوعي الشخصي من أجل تغييره. كأنك تدفع دينك للمجتمع ولكن عن طريق شخصي وليس عن طريق الآخرين.

أعتقد أن أهمية هذه اللحظة الفارقة، أننا دخلنا الشعر والكتابة من بوابة فردية، عصامية. فلم يكن هناك تصور جاهز لوظيفة الشعرسوي أنه يكتشف الحقيقة ويقلل الغموض من حولك. أن تتحول الكتابة إلي شكل علمي في حقائقه، وتقريبها من الحياة بقدر الإمكان، فالحياة هي مكان الحقائق او المعاينة أو التدقيق.وأعتقد أن مثاليتنا، ولأن بها هذا النزوع الفردي، كانت مرنة، وقابلة للصدام والتحول، وأن تكون كذلك بداية طريق وليس نهايته، وأن تتعلم منها وتطورها. فالصبغة الشخصية سمح بأن تظل بعض الخيوط في يدك.

كان لدينا رفض جمالي لشعريات مطروحة في الكتب، لذا تحولت القصيدة إلي خليط من نص إيديولوجي بديل عن أي نص كبير تخلي عنه المجتمع والثقافة. كانت القصيدة والكتابة مثل مانيفستو مفتوح يوميا في البيوت والمقاهي والبارات، ليصقل بخبرات فردية وجمالية متعددة، لتأريخ اليوم أو صيد أحد عناصر السيرة الشخصية، أو اجتراح جرأة. كنا نتطور مع ما نكتبه يوميا. علي الأقل أصبحت هناك خريطة للأشياء التي يجب إعادة النظر فيها.

ولأن النص، والأخلاق من قبله، كان يبني بعصامية وبفردية، فكان الصدام بين هذه الفرديات لامحالة فيه، بين هذه الرأسماليات الشعرية والإنسانية. ولكن كل فردية، أو كل واحد منا، ومن ابناء هذه اللحظة الشعرية واللحظات التالية لها، ساهم بشكل ما في صناعة وتحديد ملامح هذا النص الكبير الذي يكتبه أبناء جيل واحد، كما قال أسامة في حديث له. هذا النص الذي تم التخلي عنه من قبل الثقافة والحياة السياسية والمجتمع بصفة عامة. وهو أيضا نص التفهم، ليس من اجل الشعر فقط، بل من أجل إعادة صياغة علاقتنا ببعضنا البعض، لقد كانت الفردية هي البداية للفهم ويمكن أن أقول للحب، نعم الحب الذي غاب كثيراعن الثقافة، وإلا بماذا أفسر هذا الإحساس بالفقد الذي نشعره جميعا، نحن أصدقاء اسامة، لرحيله. ويمكنني هنا أن أتكلم عنهم، لي الحق في هذا الآن، لأني اعرفهم جيدا، وأسامة أحد أسباب هذه المعرفة والتفهم. يتجاوز الموت وظيفته في الفناء ويتحول لطريقة لحب الحياة. احيانا أشعر أننا أبناء ثقافة التخلي، ولاأعرف مامدي مصداقية أو حساسية هذه الكلمة. ربما لأن بها مسحة أبوية، نعم مسحة أبوية أو أمومية، الأم الكبيرة والأب الكبير… لم يكن هناك مايشبع روحيا، إلا هذا التشابك الذي صنعته العلاقات، والصداقات، جعلتنا نحتمل فراغ تلك اللحظة ونتحمل عبثيتها.

من نجيب محفوظ وحتي الان رواية الحياة بها الكثير من اليتم، والبطولة المأساوية. لايمكن ان افهم هذه السيرة الطويلة لليتم وللتراجع، وللفردية المهشمة، حتي وإن بانت أنها تملك بزمام نفسها، إلا أن هناك قدرا اجتماعيا فاعلا وناشطا بقوة، قدرا لم نكن ضحايا له، بقدر ماكنا نحاول أمامه. حب الثقافة التي جعلتنا نقتتل ونمارس الكثير من العنف علي أنفسنا وعلي الآخرين هي نفسها التي جعلتنا نكون أفضل من الأول. كل الأصدقاء الذين التقيتهم من لحظة حبي للكتابة وحتي الآن، من كانوا يملكون حاسة الزهد، وان بدت أحيانا كنوع من الشره للصعود والتفوق، جميعهم الآن يملكون حقيقة القدرة علي الاستمرار. من نجيب محفوظ وحتي الآن هناك سيرة طويلة لتقبل الحياة، بعد أن أصبحت ثقيلة علي الفهم والقلب، ولايمكن تصنيفها كحالة مرضية فقط، أو كحالة نظرية، ولكن هناك أفرادا عاشوا داخل هذا الواقع، وقدروا أن يصنعوا كونهم الصغير والحيوي. من نجيب محفوظ وحتي الآن هناك أناس غير معروفين يحاولون أن يقللوا من أخطاءالحياة والمجتمع، ومن فداحة الكارثة.

أعود لأسامة، عن طريقه انفتحت أمامي طاقة جديدة من الأصدقاء والعلاقات الشعرية. طوال فترة إقامته بالمستشفي كان يحدثني كثيرا عن صديقه وبلدياته شحاته العريان. يتحدث عنه بإعجاب ويحفظ عن ظهر قلب بعض قصائده العامية. وبدوري كنت مهيأ لهذه الصداقة. لم تتوافق مواعيدنا لنلتقي في المستشفي، كانت الكلمة المعتادة التي أسمعها من اسامة عند ذهابي له شحاته لسه ماشي . إلي أن التقينا بعدها بسنوات في القاهرة، وكان اسامة هو بداية خيط طويل سيمتد لسنوات ويصنع ذاكرة، وأيضا سيصنع مستقبلا. تعرفت علي مجموعة من الشعراء والمحبين للكتابة، مجدي الجابري، صفاء عبد المنعم، مسعود شومان، محمود الحلواني، ومحمد بهنسي، مجاهد الطيب، إيمان مرسال، عبد الحكم سليمان. وبدأ يتوضح لي شكل جديد من أشكال الثقافة في القاهرة.

كان مجدي الجابري هو المجمع لهؤلاء الأشخاص من خلال ندوة اسبوعية كان يقيمها في بيته في حي الكابلات. نوع من الثقافة المنظمة التي لم أعهدها من قبل، لها جذور ثقافية وسياسية في مجتمع القاهرة الثقافي. المركزية تعطي مشروعية سياسية وثقافية لمجموعة قليلة من الناس، ترشح أكثر الحس الجمعي في التفكير وفي الخطاب. كان يتم اختيار موضوع للنقاش، سواء كان مجموعة قصائد يقوم مجدي بإدارة سمحة بتصويرها وتفريقها كمنشورات علي الشلة، ليتم مناقشتها في الجلسة القادمة.لم تتوقف النقاشات عند هذا الحد، بل امتدت لتاريخ المصريين، وتلك القضايا التي تخص البلد وتاريخها وتاريخ طبقاتها. كانت المناقشات بها هذا الحس السياسي والذي لاينتمي لاتجاه بعينه، ولكنه مرتبط باتجاه إنساني لطبقات اجتماعية وسطي، بدأ دورها يذوي في الحياة العامة في مصر. لذا فقلوبنا لم تكن خالصة فقط للنقاش، بل تراقب مكانها المستقبلي في مجتمع لاينظر إليها. كانت المجموعة تسعي لتكتسب نظرة كلية عن الحياة تمنحها بعض الأمان المفتقد.

ما أتذكره من هذه الجلسات هو طيبة وسماحة صدر وصمت مجدي الجابري، واطباق البطاطس المحمرة نأتي بها من المطبخ القريب من جلستنا، وصواني الشاي والقهوة ومنافض السجائر التي سرعان ماتمتليء عن آخرها، وعلب السجائر المفتوحة في أكثر من مكان، وكما وصفها أسامة في إحدي قصائده التي كتبها عن مجدي الجابري بعد وفاته، والتي كانت تدل علي حديث لن ينتهي إلا بانتهاء هذه العلب المفتوحة، وكذلك أن تتكلم وانت آمن في وجودها. يمكن للسجائر من أن تؤرخ للحظات سعيدة عاشها شعراء وأدباء كثيرون، لايهم الصنف، فالحديث يضفي علي أي شيء مذاقا رائقا. وحتي أسامة نفسه كتب هذا في كتابه الأخير كلبي الهرم.. كلبي الحبيب فقد كان يؤرخ للحظات صفائه وخروجه من نوبات الاعتلال التي كانت تنتابه في الفترات الأخيرة من حياته بمدي إقباله علي التدخين، التدخين كان مؤشر صحة واقبال علي الحياة بدون أن ينتقص منها شيء تحبه. وفي جلساتنا لم يكن لها معني بدون أن يخرج سيجارة من علبة سجائره ويقدمها لي كأنها ثمرة فاكهة، وعندما أصد يده أشعر بعتب صامت لأني لم أشاركه هذه اللحظة استمتاعه بالحياة القصيرة. نعم كانت الحياة قصيرة بحساب العمر، طويلة بحساب علب السجائر المفتوحة علي مصراعيها. وعندما كنت أنصحه بأن يراعي صحته قليلا، كان يبتسم ابتسامة سريعة، ولا أقوي علي المزيد من النصائح.

بعدها تتشعب خيوط الأصدقاء، وتتداخل، سأتعرف علي ياسر عبد اللطيف، وأحمد يماني، ومحمد متولي، وعلي أجيال أخري وذائقات أخري في مجتمع الكتابة والثقافة بشكل عام. وهناك أسماء كعلامات في هذا النص الإنساني الخفي الذي كنا نكتبه جميعا، أحمد حسان، هيثم الورداني، أحمد فاروق، إبراهيم عباس، مجاهد عبد البر، سهام، إسلام العزازي، حسني حسن، محمد المزروعي، إبراهيم المصري، مهاب نصر، عبد العزيز السباعي، ضياء مهران، إيناس خميس، محمد فتحي، سهام نورالدين، علي عاشور، عادل عصمت، وسلوي رشاد، وسهير زوجة أسامة، وأسماء أخري. جميعهم اشتركوا في كتابة نص بدون تزامن فيما بعد.

حب الشعر الذي جمعني بأسامة، كما كان سببا للقرب، كان أيضا سببا في اختلاف وجهات النظر الجذري، ربما من خلال الشعر كانت تمرر آراء لايحتملها هشاشة هذا البناء وحساسيته، ولكنه كان القناة المتفق عليها لنقول خلالها كل مانريد _ عن قصائدنا، عن رأينا في الآخر. وفي ذلك الوقت كان الشعر هو وثيقة الحياة اليومية التي تكشف فكر الشاعر، فكان سهلا علينا أن نحاكم الشاعر أو نحييه من خلال قصيدته. ربما لايوجد في الحياة أو الفكرما يمكنه أن يكشف الوعي والتاريخ الشخصي، حتي الشعر، ربما يؤلم أو يجعلك تتعاطف، ولكنه ليس كل الحقيقة. لذا كانت الأدلة خادعة، ومايثبت قلة حيلتها، أن اختلاف الطرق والمسارات ومرور الزمن أنسانا جميعا تلك الأدلة التي كنا نجمعها، أنسانا أصلا أن هناك جريمة وإدانة، وأثبت أن الأخطاء مهما كانت فادحة، فالقلب والرهان الشخصي قادران علي أن يكتبا النجاة للرحلة. ربما لانتعلم من أخطائنا، ولكننا نتعلم من الرحلة ككل، مادام هناك بقية من الحياة، فالمعادلة تتغير أطرافها، وكذلك نتائجها، ويأتي الموت ليضحك في وجه كل التنظيرات والحسابات.

اختلاف وجهات النظر بيننا وصل إلي سنوات باردة كانت فيها العلاقة مجمدة، وفي حدها الأدني. وربما يرجع السبب أن كلا منا كانت له عصاميته في بناء فكرته، وكذلك اعتزازه بنفسه الذي كان يمكن أن يجرح بسهولة. هذه العصامية مهما كانت قوية وواعية، إي أنها بها مأزق الإحساس الفردي، وهو التعصب. برغم من ان الكلمة سيئة في حساب الفكر إلا أن التعصب كان في لحظة أداة للمعرفة، وللحماية وللإنصات لصوت داخلي.

ولكن مهما وصلت درجة الخلاف بيننا، كنت أري أنه أصبح عمودا رئيسيا في حياتي، لايمكن تجاهله أو الالتفاف حوله. أفكارنا ليس بالضرورة هي ماتعبر عنا، هناك الذاكرة، وهناك الثقة، وهناك التعاطف، اليس كل هذا يمكن أن يكون كلمة الصداقة. وهي التي يمكن أن تعيش بجوار أي سوء فهم متبادل. كان لأسامة تقدير حاسم لفكرة الصداقة، فكرة تتجاوز سوء الفهم أو حتي العداء. ويمكن أن أري جذور هذه الفكرة من ناحية فنية، فقد كان مغرما بالتعقيد البشري، بتلك الذوات التي تحمل طبقات متباينة داخلها. وهي إحدي مواهبه في الحياة، التي ستقبل بها لأن هناك من يصدقها ويعمل بها، تقبل الآخرين بدون أن يتناسي الشك والحذر والخوف من الصورة التي يراه بها الآخرون. له قصيدة دالة جدا بالنسبة لي، وهو مامعناها أنه يريد أن يلبس طاقية إخفاء ليري مايقوله عنه الأصدقاء بعد انصرافه. إذن موقعة الحب وسوء الفهم والخوف وكشف السر والرهان تتعلق بالأصدقاء دون غيرهم، رصيده في الحياة.

لابد وان نعرج علي المرض في حياة اسامة لأنه سيوضح أشياء أكثر تركيبا في شخصيته، فهي العلاقة الذاتية وشديدة الخصوصية التي نمت دون شكوي منه. كانت العلاقة تدار بصمت تحت قشرة الصخب التي كان يحيط بها نفسه. أفكر ماذا يفعل عندما ينفرد بنفسه، دائما ما أتخيل اشخاصا عندما يعودون إلي وحدتهم يجلسون لساعات في انهيار حتي يعودوا إلي لملمة أنفسهم. أسامة لاأعتقد انه كان واحدا من هؤلاء، كان المرض متشعبا في كل تفاصيل حياته لدرجة أنه اصبح أصلا من الأصول، حتي ولوكان به خلل، فهو أصل غير قابل للتغيير، والتسامح هو أقرب الطرق اليه. هذا التسامح لم يأت مرة واحدة ولكن عبر تحولات وازمنة دقيقة ومحطات مر بها المرض في جسده ليكتسب في النهاية تحولا صوفيا. قوة تحمله لايمكن إغفالها في هذا السياق، ولكني أري أنها تفسير مباشرا، ومن الممكن أن يحوزها الكثيرون، وفي أمراض أكثر شراسة وألما. الفشل الكلوي موت طويل الأجل، نعم هناك موت ولكنه مؤجل، وبحسب الأمل الذي داخلك سيطول زمن الموت. أليس التعايش مع الموت، كحقيقة أو مجاز، هو من أهم التجارب الإنسانية لاكتشاف الذات والحياة والآخرين، هي التجربة الأكثر نضجا وصعوبة ؟ لقد منحه الموت زمنا ليتعايش معه ويتقبله كصديق غائب، ويوما ما سيعود فاردا جناحيه.

شيء آ خر ولده المرض، وهو حرصه في التأنق الجسدي، وليس الشياكة، أنها شياكة تخص الأعضاء ةليس الملابس التي ترتديها. فقد رفض أسامة أن تجري له عملية مبكرة تمنع رجوع البول للكلية، عن طريق تركيب مايشبه كيس خارجي، خارج الجسم، يتم تصريف البول عن طريقه، مع علمه أنها الطريقة الوحيدة التي ستؤجل عملية الغسيل الكلوي. كذلك رفضه لتركيب سماعة بعد أن ضعف سمعه في السنوات الأخيرة من تأثير ألمضادات الحيوية. كلها اشياء تدل علي رغبته الشديدة في المحافظة علي شكله الظاهري، علي نظرته المعتزة بنفسه، حتي ولو علي حساب الزمن المفترض للحياة. ليس مهما إطالة الزمن، المهم هو المذاق الجيد، وعدم تبدل نظرته لنفسه، التي يبدو انها حجر الزاوية، ومن أجلها كانت هناك الكثير من التضحيات. هذا الاعتزاز بسلامة الجسد، ومن قبله الاعتزاز بسلامة نفسه، كانا من أهم مميزات أسامة، هما مكان التضحية الشخصية والرهان الشخصي. فكل قرار يخص الحياة وطولها، كان يقف في الجانب الخسران منه، من أجل ألا يفقد أحساسه بها. هذه المعادلة الخاصة من الزهد والاعتزازبالنفس.

في السنة الأخيرة، ذكر اسامة أمام أحد الأصدقاء أن صداقتنا عمرها خمسة وعشرون عاما. حتي هذا الوقت لم اكن احسب عمرها، ولكني رجعت لنفسي لأعد تلك السنوات التي مرت سريعا، فوجدتها ثلاثة وعشرين عاما. فقد بدأت صداقتنا في عام 83، وتوفي أسامة في الرابع من يناير 2007، فبالتأكيد هذه الايام الاربعة لايمكن أن تدخل في حساب سنين الصداقة، ولكنها تدخل في حساب آخر، حساب بدون رصيد. فايامه الأربعة من العام الجديد كانت أغلبها صامتة، ليس فيها أي حديث متبادل بيننا، فقط لمسات مشجعة علي الكتف، وابتسامات هادئة، وأحيانا حديث مشجع من ناحيتي، وهو ينظر إلي ويبتسم، أو يتكلم بعينيه. حتي قبل الوفاة بيوم واحد نظر إلي، وامسك بيده اليسري، فقد كانت يده اليمني تؤلمه من أثر عملية حديثة فيها، وسلامه بيده اليسري أكثر بلاغة من اليمني، فهي اليد الاستثناء لسلام استثنائي. لم يحتج لكلام، فقد كانت نظرته وابتسامته الصافية كافيتان لوداع أخير.

اعود لحساب سنوات الصداقة، وجدتها ثلاثة وعشرين عاما بدلا من خمسة وعشرين. ولكن اختياره لهذا الرقم الكامل يدل علي أننا تجاوزنا بربع القرن هذا حتي السؤال عن عمق الصداقة. في هذا الرقم تسليم أن هناك شجرة كبيرة قاومت وصمدت وأثمرت، ان هناك شيئا غير قابل للتشكيك فيه. وربما كذلك الفرح به.هل كان هناك حساب خاطيء للسنوات؟ لايمكن أن يحدث هذا من طرف أسامة، ولكني أري أن هذه السنين مثل سنوات الحرب، تحسب فيها السنة للجنود مضاعفة، نعم كنا في حرب غير مرئية بها الكثير من الخسارات. سنتان هدية لاننا تحملنا فداحة هذه الحرب، هدية من العقل لحساب الكمال. ربع قرن من الصداقة، اصبحت لي صداقات عمرها ربع قرن، اصبح لي تاريخ لأتامله، ونقاط وجع ونهايات تتخلله، وأشخاص أحببتهم كما أحبوني ثم رحلوا، ابي وأمي واسامة، وبترتيب الاسماء حسب مواقيت الموت، وبترتيب تدرج الحزن، بتدرج استيعاب الحزن، هذه هي الكلمة المناسبة. عندما تفقد شيئا كبيرا كا لأم، عندها ستفهم معني الحزن، بدرجاته، بأطيافه، بقوته في أن ينتشر بهدوء تحت ثقل النشاطات اليومية العادية، ويمنحها إحساسا مطلقا، ولاتعرف من أين اكتسب وجودك هذا القدم الذي تري به الأشياء طازجة. يكبر الحزن كشجرة، لاتعرف من أي بذرة بالتحديد نشأت، لأنك ستعيش في هذا الظل الذي سيحفظ نفسك من السقوط، وربما هي مكافأة الحياة لي.

كل هذه القطع المتناثرة من صداقتي بأسامة، ومن مشاهد تخصه، ربما ترسم صورة الشاعر، أو الإنسان الذي كان له مثل أعلي يحاوره باستمرار. أو هي الموقع الجديد للذات التي تنتقل اليه عبر حياتها، مدفوعة بتصور مغروس فيها عن الإنسان الخاص والذات الخاصة ، وعبر مايطرأ عليها في الطريق كالمرض. لحدوث هذه النقلة كان لابد من التضحية، فحيازة معني خاص يحتاج لمجهود جبارفي لحظتنا هذه.

وربما كذلك أري كتابه الأخير كلبي الهرم… كلبي الحبيب من هذه الزاوية، أنه كتاب التضحيات. كان أسامة يكتبه كأن لاأحد ولامجتمع ينظر اليه، إلا المجتمع المفترض الذي سيقدر وضوح وصراحة هذه الذات. اختفت أي رقابة ذاتية، وظهرت لحظات الضعف والخجل والنزوات وبعض التفاصيل التي تخص مأساة مجتمعاتنا كعالم المستشفيات، ووضوح في كشف علاقته بأشكال التدين المزيفة، وكلها لم تظهر في شعره بهذه القوة.

في الوقت نفسه احتوي الكتاب علي إحصاء بأسماء كل أصدقائه الذين مروا علي حياته، وربما أغلبهم، جميعهم مذكورون بالاسم، لأنهم هم المجتمع الذي كان ينظر اليه ولايري غيره. بذكر أسمائهم هناك نوع من العرفان بالجميل، او كما قال صديقه محمد بدوي، هناك تسديد لدين في عنقه. وأري بها أيضا بعض المجاملة، ليس لأن أحدهم لايستحق هذا، ولكن هناك تسامح الذي يترك الحياة فيدعو الجميع إلي مأدبته. ألم يكن أسامة شخصا مجاملا، لايريد أحيانا أن يجرح أحدا؟ ولكنها مجاملة مغفورة هنا، لآنها تأتي من شخص يودع الدنيا، وهويعرف ذلك جيدا، وكذلك يرفعهم معه، وينقش أسماءهم في كتاب الموت هذا ليصحبوه في تلك الرحلة الخالدة.

في كتابه الأخير كلبي الهرم…كلبي الحبيب يكتب أسامة :

في إحدي سهراتنا القريبة عند هاشم. وإثر كلام دار بيننا عن الكتاب، وقرب

انتهائي منه، فاجأني حمدي قائلا

بص ياأسامة : بعد الكتاب ده تقدر تعمل اللي انت عايزه بقي.

تقصد يعني، إن أنا أقدر أموت دلوقتي وأنا مرتاح؟

عاوز تموت… موت…..أنت حر.

ثم يعلق علي هذا المشهد وهذا الكلام بين قوسين قائلا (وجعتني الملاحظة، بقدر ما ملأتني بالزهو).

زهو الكتابة يتساوي مع الشعور بدنو الأجل. أخيرا وجد الموت داخله معادلا واتزنت كفتا الميزان. وجد الموت أصدقاء أندادا، غير قوة التحمل او الزهد وكلها تقنيات دفاع. أما الكتابة من هذا النوع فهي خارجة من صميم الذات لترفض الموت بدون خوف. لم يعد الموت وحده هو من يسيطر علي حياته، ولكن الخلود أيضا، وهي إحدي وظائف الشاعر.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم