سكّين في جيبي…*

سكّين في جيبي...*
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هاشم تايه

اضطررت إلى حمل سكّين في جيبي...

هذه هي المرّة الأولى التي أحملُ فيها سكّيناً..

المرات التي رأيت فيها السكاكين في قبضات أكفّ مهددّة ماتزال ناتئة، مسنونة ببريق مخيف في وجداني... بالنسبة لي السّكين حدث رهيب حتى لو كانت ساكنة، وحدها، على سطح ساكن.. حدث أراه بتفاصيله المخيفة قبل أن يقع، ويلوّث الطبيعة والعالم، ويجعل أسناني تكزّ على أسناني... أبداً لا أطيق رؤية سكين مجرّدة... وحتى السكاكين الصغيرة التي تتخلّف على منضدة الطعام في المطبخ ليلاً، كنتُ أهرع إليها قبل أذهب إلى السرير، فأخفيها في درج خزانة، مع بوادر نزول الأشباح في الظلام...

 السّكين التي هجم بها شاب في السّوق على غريم لم يكن لديه ما يدفع به كَرّات النصل الرّهيب على جسده غير راحتيْ كفيْه استخدمهما كدرع، فأنجتاه من قاتله، لكن بشجرة من الجراح النازفة سوف ترتسم كالوشم على راحة كلّ كفّ… السّكين التي قبض خالي على نصلها الرّهيف بكفّه وهي في قبضة من هجمَ على أحد أبنائه وحين انتزعها المهاجم بقوّة احتزّت أصابع الكفّ الفادية…  

عثرت على السكين في درج مكتب زميلتي في الدائرة التي أعمل فيها.. اعتادت زميلتي استخدام هذه السّكين لشق الصّمونات التي نجلبها من الفرن القريب لتسهيل حشر كرات الفلافل في بطونها خلال وجبات الضحى الشحيحة في القسم الذي نعمل فيه.. كان يروقها هذا العمل، هي العانس في الرابعة والثلاثين، وكانت تسبقنا إليه، لتؤكّد براعتها فيه في كلّ مرّة… كنتُ أراقبها من مقعدي القريب وهي تنيم الصّمونة على سطح منضدتها، وتضغط على ظهرها براحة كفها اليسرى، لتكون أقدر على الحصول على شقّ مستقيم بلا ثلمات… كانت البشرة الرقيقة لظاهر الكفّين، والتماعات الخواتم في الأصابع، والانحناءة المفرطة للرأس على الكفّ القابضة على السّكين تخفف، بسحرٍ خاص، اللحظاتِ المربكة لنحر الصمونات الذي تقوم به زميلتنا على السطح الصقيل لمنضدتها…. كانت تسترسل بعيداً في إطراقتها، وكان ذلك ردة فعلها الوحيدة على لذة تكهرب جسدها كلّه مع تغلغل السكّين في الجوف الرقيق للصمونة…

سكّين منشارية بنحو ستة وعشرين سنتمتراً من طرف مقبضها الخشب، إلى ذؤابتها الدقيقة الحادة، احتلت جيب سترتي الداخلي، حين غادرتُ دائرة عملي.. كان النصل البارز من فتحة الجيب ناصعاً على البطانة السوداء، وفي ذؤابته الحادّة كَمَنَ شيءٌ يقلقني….  

 بهذه الجرثومة المسنونة سوف أقطع أنبوباً من الكارتون المقوى بقطرٍ يبلغ زهاء أحد عشر سنتمتراً، وبنحو ثلاثة أمتار طولاً كنتُ بحاجة إلى مقطع منه ليكون عضواً في تمثال من الكارتون شرعتُ في نحته من أيّام، وكان عليّ قطعه نصفين في الأقل ليسهل حمله في السيارة التي تقلني إلى البيت.. عثرت على هذا الأنبوب في سوق البزازين الذي أخترقه صباحاً في طريقي إلى عملي، لكنني لم أجده في الزقاق حيث أخفيته وراء هيكل سيارة عتيقة باركة بلا إطارات… أحبط سارقو أنبوبي شهوة الجرثومة المتحفزة في جيب سترتي… (أيّ هذيان يخشخش ملتصقأ بأضلاعي، ولا يريد أن يهدأ مع كلّ ربتةٍ مُهدّئة تمسح بها كفي على هذا الذي لا يكفّ عن الهذيان؟!)    

في الكيّا التي حملتني من أم البروم في طريق عودتي إلى البيت رأيت المسدس يتدلى من حزام الراكب الجالس قدّامي بارزاً من تحت قميصه المنحسر بسبب انحناءته، ما يدريني لعلّ السكّين في جيب سترتي هي التي نبّهتني إلى هذا الشيء… كان حامل المسدس يلصق موبايله بإحدى أذنيْه، ويتكلّم بصوت عالٍ بلا توقف كما لو كان مصراً على ألاّ يقاطعه سامعه في الموبايل أبداً، وكان خيال السامع، من هناك، يرى، بعينيْن فزعتيْن، المسدسَ المعلّق بحزام من يرشقه بكلماته بلا هوادة، فيصمت متخلياً عن أُذنه بلا تحفظ.. كانت نبرة المسدسيّ حادة ومزعجة كما لو كانت تنطلق من الفوّهة السوداء لمسدسه، لا من فمه، وكان صمتُ الركّاب يهبه فضاء الكيّا كلّه ليملأه بنبرته الحادّة المتسلّطة… وشعرتُ بالإزعاج ينتقل إلى نصل سكّيني في جيب سترتي، وسمعتها تهمس بمكر:

 أليس هذا واحداً من الذين كنت تكرههم؟! …..

ضغطتُ على أسناني، وتشاغلتُ بإطلاق عينيَّ إلى الفضاء من خلال نافذة الكيّا… كانت ذؤابات شجيرات الكونوكاربس في الجزرة الوسطية التي نسير بمحاذاتها مشذبة ومسننة كمنشار، وكان ضوءٌ هائل ينهمر عليها ملتهباً، ولا تقوى على تفاديه… مع انعطافة مباغتة للكيّا في طريق آخر، اهتزّ المسدس بمقبضه الأسود، وانتقلت السكّين من طرف جيبي البعيد داخل سترتي إلى طرفه القريب، ولعلّ شيئاً آخر انتقل في دماغي من نقطةٍ ما إلى نقطةٍ أخرى، وارتفعت النبرة الحادة في الموبايل وانقلبت إلى تهديد:

“شوف… تعرف… لازم… اليوم… هسّه…… “

 كان مسند مقعده مخلوعاً فتهدّل بين ركبتيّ، وذلك كشف ظهر صاحب المسدس بين يديّ…

لم يكن بوسعي أن أحدّد من أيّ مكان تحت سترتي تفجّرت تلك الهزّة المباغتة التي خضّت جسدي كلّه، ومعها رأيت كفّ زميلتي على ظهر الصّمونة ونصل السكّين ينغرز ببساطة مفزعة في الجنب، ويندفع متغلغلاً في الأحشاء، وينتهي الأمر بشقّ طويل يُسهّل على المرء أن يحشر فيه كرات فلافل، أو أيّ شعور بغيض يودّ لو يتخلّص منه إلى الأبد…..

——————————————

 

* أعتذر لقاعدة نحويّة خرقها العنوان المبدوء بنكرة لا مسوّغ للابتداء بها.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون