سقطَ من الآلهة سهوًا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 346
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد إبراهيم قنديل 

خرجَ من جسَدِه المتعَب وعلَّقَهُ على الشماعة بصعوبة. أكَّدَ على ضرورةِ تزييتِ الركبة والكتف؛ تأكلهما الخشونةُ والحشرات. القولون أيضًا يحتاجُ تنظيفًا جيدًا وضبطًا لحركته المنفلتة. أزاحَ الستائرَ ليلقيَ النظرةَ المعتادة على مؤخرتِها النائمة على جدار البلكونة، اخترقَتْ عيناهُ الأخدودَ المحفورَ بين الفلقتَين وتنهد، ثلاثة أعوامٍ من التلصصِ على الاستدارةِ المنزوعةِ لتتشمس، ويتساءلُ كل مرةٍ أين باقي جسدِها لتستطيعَ الفتنةُ المسالمةُ هناكَ أنْ تستقرَّ في مكانِها من الكيان الجسديّ الخارقِ الذي صنعَها فتمارسَ ارتجاجَها المتخيَّل وتنفخَ فيه شجاعةَ المصارحة كما تنفخ نارَ الإثارة. ما لم ينتبه إليه مرةً أنَّ بقيةَ جسدِها المستوي يستقرُّ على أرضيةِ البلكونةِ في وضعيةٍ جنينية يفسدُها غيابُ المؤخرةِ المقصود.

ما حدث ذات يومٍ بعيد أنه استيقظَ من نومه الثقيل على حكةٍ في أذنه، احمرارٌ دفعه لتقطيعِها حتى ذبُلَتْ وتساقطَتْ مخلفةً فتحةً عابرةً لرأسِه دون أذن، انتفضَ وانهارَ حتى كسرَ مرآةَ الحمَّامِ حين أكدَتْ ما لمستْهُ يدُهُ من فراغ، لم يفقدْ سمعَهُ لكنْ كان عليه أنْ ينزلَ لعملِه دون أذن، أنْ يرتدي نظارةً دون أذن، وأنْ يبدو أمامَ الجميعِ مضحكًا ومرعبًا دون أذن، كان هذا قبل أنْ تتساقطَ أعضاءُ جسدِه واحدًا وراءَ آخَر وأنْ يُرَمِّمَ الغيابَ بما يملكُهُ من مواد خام صالحةٍ لاستبدالِ الجسَد الذابل، وصارَ شبحًا يرتدي ملامحَ جسدٍ قديم، تمدَّدَتْ المأساةُ وابتلعَتْ الجسدَ كاملًا بحواسِّه في حالةٍ أكبر بكثيرٍ من أنْ تكون مرضًا أو عاهة. وخَزَهُ حنينُهُ الوحيدُ أن يلمسَ الجسدَ الصارخَ للمرأةِ البعيدة، أذنُه لم تفقدْ وظيفتَها مع وجودِها وعينُه كذلك وأنفه ولسانُه، لكنَّ اختفاءَ يدَيْه ثم غيابَ جسدِه التدريجيّ أفقدَه أكثرَ الحواسِّ حميمية، صارَ استماعُه لحركاتِها على بعدِ خطواتٍ منهُ عذابًا يتجددُ مع ظلِّها المتنقلِ خلف الستائر ورائحةِ عطرِها العابر للمسافات.

 ينبعثُ الظلامُ محيطًا بكل الكائنات فيغوصُ فيه طيفًا مهيَّئًا لخيباتِ الظلال وساكنيها، الآنَ بالذات تعصرُهُ ضوضاءُ النهارِ ويثقلُه الجسدُ الملقَى عليه، ويخترقه سكونُ الليل المبشِّرُ بوحدةٍ أبدية، وتغيَّرَ شيءٌ ما في البلكونة المقابلة. ذلك الجسَدُ المقلوبُ فاتحًا ساقيه للسماء يصوبُ إليه مؤخرةً مألوفةً جدًا ينحسرُ عنها قميصُ نومٍ رقيق نصفَ انحسار. يتحققُ الذي أراد أخيرًا، يقطع الشقةَ في جنون، يرتدي جسدَه الساخن، يلتهم قاروصة المارلبورو ويفرغُ مخزونَ البيرة والبراندي في جوفه بينما يسترقُ النظرَ إلى الفتنةِ المواجهةِ له بين حينٍ وآخَر، يسكرُ فيقذفَ مطفأةَ السجائر في البلكونة..يتأخرُ ردُّ الفعلِ فيقذفَ بقطعةِ خشب.. الصمتُ المواجهُ إلهٌ قاسٍ يقبضُ على أنفاسِه، رعشةٌ مُتْعَبَة تجتاحُ جسدَه ينخلعُ فيها عضوُهُ البلاستيكيّ فيلقيه إلى البلكونة الفارغة في يأس، تضيءُ نورَ الشقة، وتظهرُ خلف الستائر قابضةً عليه، يراها أمامَه في روبِ النوم تنظرُ حولَها في فزع، تنادي في الظلام المقبض “مين؟” يبحثُ عن صوتِه فلا يجدُه، يدخلُ دائخًا مذعورًا ليضيءَ النورَ حتى تراه فتسقطُ ذراعُه منه، يبحث عنها فيتخبطَ في الأثاث والجدران، تنحلُّ مساميرُ الحوضِ والفخذين وتسقط أصابعُ اليد واحدًا وراءَ الآخر، ويتفككُ الجسدُ المتهالكُ فيلقي نظرةً يائسة  على يدها القابضةِ في لذةٍ على شيءٍ يتمددُ فيها وتنتصبُ فيه الحياةُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاص ورائي مصري 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون