سعيد نوح: كنت ديك البرابر على 73 فتاة في شركة النصر للسيارات!

سعيد نوح
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسن عبدالموجود

لا أتذكر متى رأيت سعيد نوح للمرة الأولى، لكننى كنت دائم التردد عليه حيث يسكن فى حلوان. دعانى مرة لنجلس فى دكانه، أسفل بيته. كان الدكان الواسع خالياً من الأرفف، وهناك ما يشبه مخزناً صغيراً ملحقاً به، مخزن تقف فيه ماكينة التصوير وحيدة باستثناء نصف رزمة أوراق إلى جوارها، وأمام الدكان كرسى وحيد، بينما يستقر التليفون الأسود الضخم على لوح خشبى يقف حائلاً بين سعيد فى الداخل والزبائن فى الخارج. جاءت سيدة عجوز، وسلمت عليه بحفاوة فقبّل يدها، وطلب رقماً مدوناً فى ورقة صفراء منحتها له. ظلت السيدة تتحدث لأكثر من ربع الساعة، وحين انتهت سألته: «كام يا ولدى يا سعيد؟!» وتعامل سعيد مع السؤال كأنه إهانة، إذ احمر وجهه، وقال لها بألم بالغ وبأسى: «عيب يا حاجة!» والحاجة شكرته ودعت له «دعوة جميلة»، ثم تحركت وجاءت سيدة أخرى، تلتها سيدة ثالثة، وفى كل مرة كان الموقف يتكرر، المرأة تسأله عن سعر المكالمة وهو يتشنج بسبب غدر السؤال، ثم جاءت طفلة، فقبّل خدها، ودخلت من باب البيت ووجدناها تقف بيننا حيث نجلس داخل الدكان، وقالت له: «أبويا بيسلم عليك، وبيقولك عايز عشر نسخ من الورقة دى!» ودخلتُ معه ومعها إلى المخزن ورأيته وهو يعمل على الماكينة بمهارة، ثم قدم النسخ العشر إلى الطفلة، وأعاد إليها الجنيه وقال لها: «سلمى على أبوكِ، وخليه يشتريلك حاجة حلوة بالفلوس دى». كنت لا أصدق ما يتناقلونه عن طيبة سعيد نوح، لكننى لمستها بنفسى، طيبة لا تناسب، بصدق، سوى ملاك، وربما يكون سعيد هو «ملاك الفرصة الأخيرة» بطل روايته الذى هبط إلى الأرض ونسى مهمته ليمنح العالم لمسة نقاء يحتاجها..

عمل سعيد فى كثير من المهن، لكن لنصل إلى هذه اللحظة، لحظة تسلمه عمله الأول، ثم تنقله بين أعمال أخرى، سنسرد الحكاية من بدايتها..

جاءت الداية لتولّد أمه، وبعد أن انتهت، رأت سعيد يقف فى ركن من المكان، وسألت: «هو فى سنة كام؟!» وردت الأم بوهن: «فى سنة رابعة»، فقالت الداية: «خليه ييجى ياخد درس عند ابنى». وابنها كان موظفاً فى المصانع الحربية، وكذلك يعمل معلماً بعد الظهر، وحينما بدأت الدراسة ذهب سعيد إليه، وأدرك أن هناك مجموعة من القوانين تحكم حصته، إذ يمنح هذا المعلم أى طالب – يحصل على 10 من 10 وقلماً جافاً، بينما يقوم الطالب الحاصل على 9 درجات بجلد أى زميل يحصل على أقل من 7 درجات، فماذا عن درجات سعيد؟ كان يحافظ بقدر الإمكان على نفسه عند الدرجة الـ8، فهى تمثل منطقة الأمان، وتبقيه فى الظل، لا يلمع فى الصدارة، ولا ينزل سلمة ليضرب زملاءه، ولا يسقط عدّة سلّمات تعرّضه للإهانة، ولكن بعد أسبوعين حدث ما كان يخشاه، إذ حصل على 6 درجات لأنه كتب كلمة «إسرائيل» بدون همزة. أشار المعلم لزميله عبدالحميد عبدالعليم، فنهض وضربه ضربة خفيفة، فنهره المعلم، وخطف العصا منه ونزل بها بأقصى ما يملك من قوة على رأس سعيد، فشعر بالدوار، ثم أعاد المعلم العصا إلى عبدالحميد ليضرب سعيد مجدداً، فضربه هذه المرة بقسوة. وسعيد المقهور عاد إلى البيت واعتبر أن العدو أصبح عدوين، إسرائيل والمعلم، عاد و«راسه وألف سيف» ألا يرى هذا المكان مجدداً، لكنّ الأب بعد محايلة من الأم وعده بأن يذهب معه، ويطلب من المدرس ألا يضربه، ولكنه تأخر فى الوفاء بوعده، إذ ذهب بعد أسبوعين تقريباً، والمعلم رأى أن هذه خيانة من سعيد، وبالتالى «زود العيار»، وعلق سعيد فى الفلكة، عذبه تقريباً، ثم إن المعلم كان يعذب كذلك زميله المسكين حسين جهلان، وهو طفل من الأرياف، لدرجة أنه كان يهتف: «والنبى ودونى الشفخانة يدبحونى»، وهكذا قرر سعيد وضع حد لكل هذه المهانة بالانتحار، لكنه قرر الانتقام أولاً. كان سعيد يعرف أن المعلم يعبر فى الشارع العمومى مستقلاً «فيسبا»، فصعد إلى سطوح بيته، ممسكاً بحجر ضخم، وكان يحسب سرعة الـ«فيسبا» وثقل الحجر والثوانى التى يحتاجها ليسقط على رأس المعلم، ومع هذا، سقط الحجر على الرفرف، ولم يصب المعلم بخدش، ثم فكر سعيد أن يضع السكر فى قرطاس ويفرغه فى تانك البنزين، لكنه لم يستطع الوصول إلى الـ«فيسبا» لينفذ فيها خطة «نابلم السُكّر».

كان سعيد يفكر فى الانتحار قفزاً من السطوح، لكنه بالصدفة سمع عن شخص غلبان اسمه عبدالرؤوف أمسكت فيه النيران، وقبل أن ينفذ خطته قرر التسرية عن نفسه. يقول: «لعبت الكرة مع بعض أقرانى، وأفرغت كل مخزون الشتائم التى أعرفها فى هذا اليوم، ثم ذهبت إلى المسجد وصليت العصر، وجلست لأدعو الله تقريباً من العصر إلى المغرب، بأن يأخذ روح المعلم، لكن الله لم يستجب لدعائى، ثم سمعت أحداً ينادى فى الميكرفون أن دفنة الرجل الغلبان عبدالرؤوف ستتأجل للغد، وفى هذه اللحظة قررت إنهاء حياتى». حمل سعيد جركن جاز ضخماً، وصعد به إلى السطوح، وغيّر بلوفر جديداً يرتديه بآخر قديم. كان سعيد يفكر فى ترك البلوفر الجديد لينتفع به أحد أخوته بعد وفاته. هل تصدقون هذا؟! هل هناك من هو أكثر نبلاً من سعيد؟! يفكر فى الخير للآخرين حتى وهو على بُعد خطوة من العالم الآخر. صب الجاز على نفسه، صب ثلث الجركن تقريباً، ولم يستطع الإكمال، إذ أن الرائحة زكمت أنفه وخنقت رئتيه، ثم أشعل النار، وبدا بـ«البلوفر المشتعل» مثل «لهب فتيل السبرتاية». يقول: «كانت التاسعة مساء تقريباً، صرخت بفزع، وأمى المسكينة كانت نائمة كعادتها بعد يوم شاق، غسلت ومسحت ونظفت وطبخت، اطمأنت على بطاتها وأوزاتها، فى انتظار عودة أبى من الوردية الثانية، وأقسم لك رغم أنها لا تعرف لماذا كنت أصرخ، فإنها صعدت إلى السطح وهى تمسك بلحاف»!

هذا الموقف غيّر حياته بالكامل: «بقيت بنى آدم يا أخى، أخذونى إلى مستشفى حلوان العام للأمراض واسمه المستعصية. كان ذلك فى أول أكتوبر 1973، كنت أغيب عن الوعى فترات طويلة، وقرر الأطباء أكثر من مرة أننى مت، وبالتالى كانوا يأمرون بإيداعى ثلاجة المستشفى، لكن أمى العظيمة لم تتركنى، حتى أنها قالت لى بعد تأكدها أننى سأعيش: أنا اشتريتك مرة تانية من ربنا». مكث سعيد عامين ونصف العام فى المستشفى، ولحسن الحظ كانت هناك مكتبة حلوان فى مواجهته: «نسبة الحروق فى جسدى كانت 85%. وجهى كان مشوهاً بالكامل، النار سيّحت ذقنى فالتصق برقبتى، وبالتالى كنت أخبئ وجهى وأتعامل مع العالم من خلال عينىّ فقط، كنت أغيّر على جروحى كل يوم وأذهب إلى المكتبة لأقرأ. كانت هذه أول علاقة لى بعالم القراءة، وكان أمين المكتبة أحمد عبدالعظيم يذهب إلى المستشفى ويحضر وجبة غدائى ليوفر لى ساعتى قراءة زيادة، وقد احتجت إلى 6 أو 7 عمليات تجميل لأتحسن»، ويضيف: «نجحت بتفوق وحصلت على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية، الثالث على مدرستى وعلى منطقة حلوان، ثم سافرت بالقطار إلى أسيوط لأقدم فى كلية التربية». ولأن سعيد منحوس ذهب يوم 24 أكتوبر 81، وكان مقتل الرئيس السادات لم يمرعليه سوى 18 يوماً، و16 يوماً على أزمة إعلان الجماعة الإسلامية إمارة أسيوط، وبمجرد أن لمست أقدامه أرض المحطة وجد رجال الشرطة يجرون باتجاهه، ولسبب لا يعرفه هو إلى الآن بدأ بدوره فى الجرى، حتى أمسكوه وشلوا حركته، وبسبب هذه الحركة الغريبة أمضى معهم 11 يوماً، سين وجيم، وأخيراً عاد إلى القاهرة، وكان معه لحسن الحظ ثلاثة جنيهات منحها له الأب. قرر سعيد ألا يعود إلى أسيوط أبداً، بل إنه قرر ألا يعود إلى الدراسة، ولم يكن أمامه سوى قريبه وزير التموين أحمد نوح، وتدخل وسطاء، فوقّع ذلك الوزير على ورقة تعيينه، بل إنه كان كريماً ووصف سعيد فيها بـ«ابن أخى»، مع أنه لم يكن ابن أخيه، بل كان أبوه، أبو سعيد، ابن عم الوزير. هل فهمتم شيئاً؟ لا عليكم. نكمل قصتنا. جاء تعيين سعيد فى الشركة المصرية لتسويق الأسماك، وكان نصيبه أن يكون فى فرع الوجبات الجاهزة لشركة «النصر للسيارات»، وكان فى الفرع 7 عنابر، وكان سعيد يعمل مع 73 فتاة، نعم. كان الولد الوحيد فى عش جميلات، ولأنه جاء بواسطة ضخمة أصبح مديرهم، أصبح ديك البرابر، وكانت هذه هى المرة الأولى التى يعرف فيها يعنى إيه بنات، مع أنه كانت لديه شقيقات. يضحك: «ولد مجدى وحينما أنجبت أمى فتاة سماها ماجدة، ثم وُلدت أنا وحينما أنجبت أمى فتاة سميتُها سعاد، ثم وُلد هانى فسمّى أختى هالة، ثم جاء أحمد غلطة».

كان سعيد فى الـ17 من عمره لحظة التعيين، وبدأ التعامل مع الناس بوجه مكشوف، لم يعد بحاجة إلى إخفاء ملامحه خلف «الشيلان» السميكة الضخمة، ثم إنه فوجئ بحب الناس له، إذ كان بشوشاً ومرحاً وخدوماً ويحفظ السر، لدرجة أنه كان يخطب لزملائه، يذهب إلى أهل الفتاة ويقول كلمتين فى حقه فتنتهى المسألة، وفى هذا التوقيت بدأ كتابة الشعر، نشر قصيدة فى المساء وأخرى على نصف صفحة فى الجمهورية عام 84، والأخيرة نشروها فى نصف صفحة فصوّرها أكثر من صورة وكان يحملها بدلاً من بطاقته الضائعة، وعرف طريق الندوات وبدأ يتغيب عن الشغل، وبما أن الوزير كان عمه، أو هكذا يعتقد الناس، كان المرتب «ماشى» و«الدنيا تمام»، وفى عام 84 أصبح مدير فرع أسماك السيدة نفسية، ومدير المنطقة اتصل به، وقال له: «احنا اتشرفنا بوجود حضرتك والله، ربنا يخلى معاليك، ومعالى سيادة الوزير، أنا هنزلك 20 طن سمك بكرة الصبح» وذهب سعيد فى التاسعة صباحاً ووجد المجمع الاستهلاكى عبارة عن كشك خشب فى مواجهة مقام السيدة، كما رأى البراميل والكراتين خالية ورائحة السمك لم تكن قوية، وسأل أمين العهدة: «الـ20 طن سمك خلصوا ازاى بالسرعة دى؟!» ورد عليه: «خلصوا من الفجر، الناس الغلابة بيصلوا الفجر، وبيوقفوا طوابير ياخدوا السمك» وقال سعيد لنفسه: «مش لدرجة 20 طن يخلصوا فى أربع خمس ساعات!». انتابه الشك فاتصل بمدير المنطقة، وأخبره بالواقعة، لكن المدير أخبره أنه ذهب للفرع الخطأ، وكان عليه أن يذهب إلى السيدة زينب لا السيدة نفيسة!

كان هناك شىء لا يُصدق فى كل ذلك، واكتشف سعيد أن مديرى المناطق وأمناء العهدة حرامية، والواحد منهم يذهب بأطنان السمك إلى منطقة «الصفّ» ليبيع البلطى بـ15 قرشاً أى أزيد من سعره بثلاثة قروش، والتونة بـ30 قرشاً مع أن سعرها 23 قرشاً. كان الجميع يتقاسم الأرباح الخيالية. يقول: «كانوا يبيعون عشرات الأطنان ستة أيام فى السوق السوداء، ويتيحونه للناس يوماً واحداً فى الأسبوع. كان مدير الفرع فى هذا التوقيت، الثمانينيات، يتربح ثلاثة آلاف جنيه فى اليوم الواحد». عمل سعيد نوح فى مجمع أسماك المعادى كذلك حتى عام 85، وكان يحصل باعتباره مدير الفرع على كرتونة سمك بلطى فاخر، وأخرى دينيس، شهرياً. يحكى: «كان الأعمام يحيى حقى، وجمال الغيطانى، ومحمد جبريل، وأيضاً أحمد شمس الدين الحجاجى، ويسرى العزب يأتون إلىّ، وكنت أمنحهم أجود الأسماك من حصتى. حاجة محترمة، أسماك مشوية أو مقلية، وكنت أرفض الحصول على مقابل، لكنهم كانوا يصرون، وتحت ضغطهم كنت أطلب خمسين بالمائة من السعر، وكانوا يندهشون بسبب رخصها، لكنى أحلف لهم أن هذه هى الأسعار».

فى البداية كان الأب عاملاً على ماكينة نسيج فى مصنع حلوان، وكان طول الماكينة 181 متراً، وعرضها 23 متراً، كان يقضى ثمانى ساعات يلف حولها مراقباً الخيوط، يلتقط أى فتلة ممزقة ويلضمها بسرعة، فأى خطأ فى الثوب يعنى أنهم سيخصمون له، وكان يعود منهكاً إلى المنزل يخلع فانلته الداخلية ويلقيها على الأرض، فتنزل منتصبة، كأنها نصف إنسان حى، إذ كانت ممتلئة بمزيج من العرق والنسيج والوبر. بعد ترك المصنع كان الأب يغيّر مهنته باستمرار، وكان سعيد مساعده الأول فى كل هذه المهن. افتتح أول دكان تموين فى منشية ناصر باسمه «محمد نوح»، افتتح أول استوديو، أول محل خردوات، أول صالون تجميل، أول ورشة كاوتش. وامتلك أول تليفون، يقول سعيد: «بمجرد أن فتح جارنا دكان تموين تنازل أبى عن الرخصة وقال: خلاص خدت رزقى من المهنة دى، وربنا يرزقه بعيد عنى»، وطبعاً كان لسعيد حكاية مع كل هؤلاء. يحكى: «يوم افتتاح الاستوديو جاء شخص من الحلاونة، نسبة إلى حلوان، ليتفقد أرضه، والبيوت التى يؤجرها أو التى باعها، كان مثل غيره يأتى ليرازينا، ليطلب إتاوة، أو فى أفضل الأحوال ليشترى الحاجة بنصف الثمن، ورأى الاستوديو، وقرر دخوله ممتطياً حمارته، وأبى أوقفه فى المدخل، وسأله: رايح فين؟! فقال له: عايز اتصور! فسأله أبى بسخرية: انت ولا الحمار؟! وضحك أبى فضحكت ويبدو أننا بالغنا فى الضحك، إذ ذهب الرجل مغتاظاً إلى أهله وجاء بهم عن بكرة أبيهم وحولوا الاستوديو إلى كومة قش. كان افتتاحاً لا يُنسى»..

لم تقف الكوارث عند هذا الحد وبعضها بسبب سعيد أو بسبب أخوته. لم يكن فى الدكان سوى التليفون، وعام 86 ظهرت لأول مرة المسابقات التلفزيونية، وكان مطلوباً الاتصال بأرقام تظهر على الشاشة والإجابة عن أسئلة معينة، اسم شخصية قديمة، اسم مسجد، أو حادثة تاريخية، والفائز يربح عمرة، وكان المعد ابن عم الشيخ عبدالرازق خطيب الجامع، وسرّب إجابة حلقة هذا اليوم، كان السؤال: ما اسم أول مسجد بُنى فى الإسلام؟ وكانت الإجابة «مسجد قباء»، وقف أهالى المنشية بالكامل فى طابور أوله الشمس وآخره دكان سعيد نوح بعد انتهاء صلاة الظهر مع أن فتح الباب لتلقى الإجابات يبدأ بعد العصر تقريباً. كان سعيد يتصل بالبرنامج، ويعطى الشخص منهم السماعة. يقول اسمه وعنوانه والإجابة. وكان سعيد يحلف على كل واحد منهم، وأعدادهم بدون مبالغة مئات، ألا يدفعوا سعر المكالمة، وكان «بريزة بحالها». عاد الناس إلى بيوتهم فسأله الأب: «عملت إيه يا سعيد؟!» فقال له سعيد: «كل خير بإذن الله!» وصاحت الأم: «رضا»!

وحينما كان سعيد يساعد الأب فى ورشة اللحام ترك «الكومبريسور» يعمل حتى اليوم التالى حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، وجاءت إحدى مدرساته، لسوء حظه، إلى منزله، وطلبت من الأب أن يفتح الورشة لـ«نفخ العجلة النايمة»، وسعيد المذعور أقسم ألا ينهض الأب من مكانه، وأنه سيقوم بالمهمة. فكَّ العجلة، وحمل الإطار إلى ورشة أخرى تبعد سبعة كيلومترات تقريباً «رايح جاى» حتى لا يفتضح سره. كان إخفاقاً جديداً يُضاف إلى إخفاقاته، مع أن البداية كانت تبشّر بشىء آخر، أن يكون مخترعاً عظيماً على أقل تقدير. أبوه اشترى «مسجّل 503» ناشيونال من ليبيا، وبعد فترة «باظ» وبدأ سعيد، وكان وقتها فى الـ13 من عمره يحاول إصلاحه، ثم نزع المكثف، والمكثف بالنسبة للتسجيل مثل الرئة بالنسبة للإنسان. تخيل أنك انتزعت رئتى شخص هل سيتحرك؟! عمل التسجيل بشكل عادى، وأبوه المذهول أخذه إلى صنايعى، ففتح التسجيل، ونظر مذهولاً إلى مكان المكثف الخالى، وصرخ على طريقة أرشيميدس: «معجزة»!

وهكذا بسبب وظيفته، أو قل وظائفه، التقى سعيد بعدد مهول من الناس، بعضهم أشخاص غريبو الأطوار، شياطين وأنصاف شياطين، عاملهم بطيبة قلب بالغة، منحهم كل شىء بأخلاق رفيعة، دون أن ينتظر أى مقابل، وسمح لنفسه فقط بأن يأخذ منهم بعض حكايات، جعلها مادة لأعماله المهمة، بدءاً برواية كانت حديث الوسط الثقافى بمجرد صدورها هى «كلما رأيت بنتاً حلوة أقول يا سعاد»، رواية أعجبت الكثيرين، وحتى من لم يقرأوها كانوا يرددون عنوانها، فى زمن لم تكن به هذه الغزارة فى الكتابة أو النشر. يقول: «الأسد مجموعة خراف، والكاتب مجموعة قراءات وبشر، وأنا سعيد لأننى أقرأ كثيراً، ولأننى منفتح على الحياة والناس».  

مقالات من نفس القسم