سركون بولص.. مخالب الشعر

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 533
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. رضا عطية

سركون بولص أحد أبرز شعراء مابعد الحداثة العربية، تكفل شعره بتأسيس القصيدة العربية الجديدة وتفعيلها واقعًا حيًّا ووجودًا ملموسًا، بنقل القصيدة من حيز التجريدي والرمزي المسكون بالأساطير إلى ما هو واقعي ويومي، جاعلاً الواقع نفسه أسطورة لما يحفل به من غرائبية ومفارقة تُفجِّر الدهشة، فبعد أن كانت أن كانت الأسطورة فيما قبل شعر مابعد الحداثة هي بمثابة قناع رمزي يحتل من لوحة الشعر الشكل، أما الحدثي والوقائعي فيكون بمثابة ظلال لها أو أرضية (خلفية)، فقد صارت الأسطورة- كما في شعر سركون بولص- عنصرًا من عناصر اللوحة ومكونًا من مكونات الخلفية يزواجه الشاعر بالواقع كأحد أنسجته، لقد صار الوجود، أي شيء بالوجود- في الفكر الأسطوري المابعد حداثي- قابلاً للأسطرة، وبحسب- رولان بارت- فإنّ “كل ما يخضع للخطاب من شأنه أن يصبح أسطورةً. الأسطورة لا تُعرَّف بموضوع رسالتها. إنما من خلال الطريقة التي تلفظها بها: هناك حدود شكلية للأسطورة، ولا وجود للحدود الجوهرية فيها. إذن كلُّ شيءٍ يمكن أن يصبح أسطورة؟ نعم، أعتقدُ هذا، لأنّ العالم معينٌ لا ينضب من الإيحاءات. فكل موضوع من موضوعات العالم يمكنه الانتقال من وجودٍ مغلق، أخرس إلى حالة شفوية منفتحة أمام امتلاك المجتمع، لأنّ ما من قانون طبيعي، أو غير طبيعي، يمنعنا من الكلام على الأشياء”، وهو ما وعاه سركون بولص في جعله الواقع بكل ما فيه من واقعية وتجربة معاشة أسطورة لشعره، كما يقول سركون في قصيدة “ألف ليلة وليلة”:

كان ذلك

عندما أبصرتُ رمزي المفضَّل

يهبط كالنسناس من راحة يدي

ويدلني على أماكن مجهولة يتصاعد منها تنُّفس الأحياء

تبعتُه وعينايَ معصوبتان

بريش معرفتي القليلة

ويدايَ مقيّدتان بالحريّة وأسنانها

تنغرز في رسغي والألم

يجعلني أتطوّح كالسكّير في أزقة غريبة أسرارُها لم تنجح

في مواساتي

واثبًا في الهواء بحركات

المعذَّبين الخرقاء.

يُفصح الشاعر عن فلسفته الشعرية واستراتيجيته الترميزية التي تتأسس على إطلاق الرمز وتحريره من قبضة الشاعر وارتياده أراضي جديدة والخوض به في مناطق غريبة لم يطؤها من قبل، وكما يبدو من خلال الصورة التي يرسمها الشاعر لتحولات الرمز لديه (أبصرتُ رمزي المفضَّل يهبط كالنسناس من راحة يدي) فقد أخذ الرمز (يهبط) في إشارة لتخلي الرمز عن تعاليه ونزوله لمستوى الأرضي والواقعي، كما أمسى الرمز (كالنسناس) في إشارة لانتقال الصور الشعرية وعمليات الترميز لطور وحشي، بدائي، تراجعًا عن الأساليب البلاغية والطرائق التصويرية المتعالية، فالصورة عند سركون بولص تباغت المتلقي ورُبما تصدم أفق توقعه بما يوسع من “المسافة الجمالية” Distance Esthetic)) التي يقطعها الأداء الشعري التي تتمدد- بحسب ياوس- بمباعدة الكتابة عن أفق توقعات التلقي والقراءة.

ولكن، كيف تكون الحرية مقيّدة للشاعر؟ هل وقع الشاعر- بذلك في تناقض؟ يبدو أن الشاعر قد تخلى عن رؤاه الفنية السابقة بخصوص صناعة الشعر للرموز، فالشاعر (الصياغة الشعرية) يبدو وكأنّه يترك الرمز يسكن مناطق مجهولة، فضاءات لم يبلغها الشعر من قبل، فيما يُمثِّل خروجًا على التراث الشعري وتمردًا على آلياته التقليدية في صناعة الرموز وانتهاكًا لمقدساته في تشكيل صوره. وهو ما جعل الشاعر (يتطوح كالسكير) في إشارة لأثر الشعرية الجديدة على الشاعر إذ تدخل به في نشوة كالسكر بعد أن تخلخل مستقراته وتهز ثوابته وهو ما يجعله يتطوح، في حركات أقرب لأفعال الانتشاء الصوفي.

لقد تخلى الشاعر عن دوره كإله متعالٍ يجافي الواقع، يخلق رموزًا غريبة عن هذا الواقع، فبعد أن كان الشعر سجينًا في عالم المثال المفارق والرمز المتعالي، نجد الشاعر يطلق سراح الرمز لينطلق في عوالم الواقعي واليومي:

كأنّ طيور الأرض التي اجتمعتْ تحت صدري

تبدأ انتفاضها الموسمي في الأعماق

وكان ذلك

عندما اكتشفوا عنقاء الشعراء بالصُّدفة

تختبئ في سراديبَ سرّية وتُشعلُ نفسها من حين لحين

بكبريت الوقائع اليوميّة

باحتقار الدخول إلا اقتحامًا

من الأبواب المحصّنة.

يُمثِّل لنا الشاعر لانتفاضة شعرية تجتاحه وتثوِّر الشعر نفسه لما يلعبه اليومي والواقعي في إعادة خلق الأسطوري وتوجيه الرمزي، إذ إنّه “ليس هناك أي تنافر بين الواقعية والأسطورة” بحسب بارت. وإذا جاز لنا أن نعتبر الطيور التي اجتمعت تحت صدر الشاعر هي الرموز، فالطير رمز، وأما إسنادها للفعل (اجتمعت) والتموضع المكاني (تحت صدري) فيشير إلى تشكُّل هذه الرموز وسكناها أعماق الشاعر بما يشي باستقرارها نوعًا ما- فلنا أن نتابع ما تفعله (عنقاء الشعراء) التي ترمز إلى (الأسطورة)، لتلك العنقاء/ الكائن الأسطوري الذي ما إن يتحرّق في النار حتى يبعث في رمادها طائرًا جديدًا وكائنًا جديدًا مشابهًا للذي كان، وكأنّ الوقائع اليومية بمثابة كبريت يُشعِل الأسطوري ليبتعث من جديد، ما يفضي لانتفاض الرمزي (طيور الأرض) في ذات الشاعر، فالعنقاء رمز الميلاد الجديد لا يكون ميلادها الجديد- في الكون الشعري- إلا من خلال الوقائع اليومية، فكأنّ الشاعر يعيد رؤاه وصياغاته الرمزية وفقًا لفعل اليومي والواقعي بما هو أسطوري، فالشعر باستراتيجاته الجديدة التي تتبني اليومي والواقعي ليكون أساسًا لأسطوريته الجديدة إنما يخترق بذلك الأبواب المحصنة، وتحطيم القواعد الكلاسيكية للشعر التي عدّها المحافظون تابوهات محصّنة، وذلك بإعادة تعريف مفهوم الشعر نفسه وتحديث آلياته وإعادة صياغة مفهوم الأسطورة.

ولكي يصنع الشاعر أساطيره من فيض الوقائع اليومية تلازم هذا مع انحيازه المُرجِّح للشعر اللاتفعيلي، “قصيدة النثر”، رغم تمكُّنه الفني وقدرته على كتابة الشعر الموزون، “قصيدة التفعيلة”، لاتساع الحرية التي تتيحها القصيدة اللاتفعيلية أو قصيدة النثر للشاعر، فيقول سركون:

على النثر أن ينشب مخالبَهُ

في رقبة الشعر الهزيلة.

وكأنّ الشاعر يرى بحاجة الشعر لقالب “قصيدة النثر” تجديدًا لدماء الشعر، وتقويةً له، ومقاومة لهزاله، لذا كانت “قصيدة النثر” خيارًا حرًا ونابعًا من قناعة فنية من سركون بولص باحتياج الشعر لها تثويرًا له، وكأنّ مخالب النثر هي مخالب الشعر أيضًا أو الشعر تكون مخالبه بإفادته من طاقات الكتابة النثرية وإمكاناتها.

وقد تتبدى مخالب الشعر أو بالأحرى مخالب الشاعر لدى سركون بولص بتجاوزه آبائه وأسلافه من الشعراء:

(أخذ يدخّن هنا

دون أن يقوى

على احتمال الجو) إنقاذ الشاعر الذي يُمضي

حياته في البحث عن مفتاح

يتبيّنُ له أنه لا يصلح لبابِه

لذلك يقضي حياته من جديدٍ

في البحث عن بابٍ

يصلحُ للمفتاح الذي وجدَهُ (هنا

أخذ يفكّرُ عمليًّا بقتل عددٍ من الرمزييّن

والبلابل الغنائيّة، حتى إنه عبّأ مسدّسًا وبدل ذلك

أكل تفّاحة قديمة وجدها تحت يده بالصدفة)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 534

أراد سركون أن يدفع انتباه المتلقي لعمليات الصناعة الشعرية أو بالأحرى الأداء الشعري وما يختلج ذات الشاعر أثناء سيره في دروب القصيدة من ترددات واضطرابات كما في (أخذ يدخّن هنا دون أن يقوى على احتمال الجو) بما يُسجِّل تذبذبات الذات بين عالم الشعر وعالم الواقع، بين عالم الداخل وعالم الخارج مما يخلق إيقاعًا نفسيًّا للقصيدة تتراوح نبضاته بتراوحات انفعالات الذات وما تتخذه من مواقف وتحولات، فقد استبدلت قصيدة النثر أو الشعر اللاتفعيلي إيقاع الصورة بما تصنعه من توازيات استعارية والإيقاع النفسي بإيقاع الوزن والتفعيلة الذي هو غالبٌ في قصيدة التفعيلة.

ثم يكون الإبراز الأهم لصوت الشاعر-الضد لما فكَّر به شاعرنا: (هنا أخذ يفكّرُ عمليًّا بقتل عددٍ من الرمزييّن والبلابل الغنائيّة، حتى إنه عبّأ مسدّسًا وبدل ذلك أكل تفّاحة قديمة وجدها تحت يده بالصدفة) مُشَكِّلاً عقيدته الشعرية بالانقلاب على أسلافه من الشعراء الرمزيين والغنائيين من الرومانسيين، إنها “كتابة-ضد”، “كتابة ضد الكتابة”- كما يُعرِّفها عبد الله الغذامي- باعتبار أن “الكتابة عمل مضادٌ من خلال مسعاها إلى تجاوز كل الآخرين ومحاولة نفيهم- بواسطة اختلافها عنهم وتميُّزها عما لديهم”، فالشاعر- بتعبير أدونيس- يقتل أباه، كما يقول بإحدى قصائده: «أمحو، وأنتظر من يمحوني»، ولكنها عملية قتل فني بتجاوز السالف/ الأب، كما يذهب أدونيس بأن “من يقتل أباه، يجب أن يقتله بلغة يبتكرها، هو”، وكأنّ وصول الشاعر إلى جمرة الشعر ينبغي له أن يقتل في طريقه أباءه من الشعراء الأسلاف بتجاوزهم فنيًّا.

ثم يواصل الشاعر المضي في طريقه إلى الجمرة، كما تتابع- بالتوازي- إرشادات الشاعر- الضد، أو الذات-الظل:

 

أو، هربًا من السقوط في هوّة الذاكرة

اللعينة إلى الأبد، الاغتسال بنتْريك السياسة الأسود

وتبنّي راية من الجلد

حيث يشعر الشاعر المسكين بأهمية ضئيلة

لكنها مناسبة، 99% منها هواء و1% للتشجيع المجاني

من قِبل أصدقائه (هنا أحرق راياته

القديمة والجديدة بولّاعته

وألقى بالولّاعة في الحريق

ثم ألقى برأسه

خلف الولاعة فقويت النار واشتدّت لأنه

كان طويلَ الشعر. كثيفهُ.

وبعد أن فعل ذلك أنهى هذه القصيدة

وبدأ يكتبُ قصيدةً جديدة هذه المرّة عن عجائب القدم

اليسرى).

هل تكون كتابة الشاعر السفر، وسفر الشاعر في الكتابة بغرض النجاة من السقوط في فخاخ الذاكرة والوقوع بأسر الماضي؟ ولكن، كيف يحرق الشاعر راياته القديمة والجديدة؟ كيف يلقي الشاعر برأسه في أتون النيران المستعر؟ هل معنى ذلك أن الشاعر ينتحر؟ بالطبع لا. الشاعر في “كتابته الضد” إنما هو ينفي نفسه أيضًا، يتخلى عن قناعاته السابقة، ينزع وجوهه القديمة، بحثًا عن وجه جديد له، حيث إن “الكتابة ضد الكتابة” – بحسب الغذامي- تكون بأن “الذات وهي تكتب إنما تفعل ذلك لكي تدلَ على كل ما هو مفقود منها، وبذا فهي لا تدلّ إلا على كل ما هو سواها وما هو غيرها، وكأنما الذات- هنا- تنفي نفسها من خلال الكتابة مثلما أنها تنفي الآخر بتجاوزها له، وفي كلتا الحالتين فإن الكتابة تقدّم الاختلاف وتعرض الضدّ: الذات المختلفة في النصّ المختلف. ومن هنا ينشأ العمل المضاد بما هو اختلاف عن الأصل وعن الشبيه، فالمؤلف ليس هو الشخص ذاته، والنص كتابة جديدة لا تشبه ما عداها، ولذا فهي الضدّ”، فالكتابة ضد الكتابة نفي للذات كما هي نفي للآخر، فرار من الزمان وسعي للتخلص من الماضي، الفكاك من تلك الوسائل الفنية التي كانت تستخدمها الذات في ماضيها بغية تثوير خطابها الإبداعي.

وفي مقطع تكون فيه الذات المغتربة في المكان الآخر/ مهجرها/ منفاها الاختياري في زيارة لصديق لها من المكان الأول، حتى تجلي غرضها من الشعر:

في الصباح أذهب إلى فلمور وهو حيّ الزنوج

في سان فرنسيسكو على طريقة هارلم في نيويورك

لأزورَ صديقي الفلسطيني

في دكّانه المسيَّج بالقضبان (جميع الدكاكين في أحياء

الفقرَاء بأميركا

مسيّجة بالقضبان) صباح الخير

كيف الصحّة أبو الشباب؟ وكأنّه يقذفُ باتّجاهي

قرحةً مزمنة:

بلاد العرصات

بدّك تشنق حالك، مش هيك؟

بيخلّوك تروح تستأجر شجرة! وإلا عمود تلغراف؟

كيف حال الشعر هذي الأيام؟

غالبًا ما يكون فضاء الذات الخارجي في المكان الآخر الذي تلتقي فيه ببعض الأصدقاء هو فضاء “الهامشي” الذي يكشف عن زيف المكان الآخر، الغرب، وكذب وهم اليوتوبيا التي يدعيها، حيث يُعزَل الأقليات وأصحاب العرقيات المختلفين عن أغلبية السكان في تجمعات تكون بمثابة “جيتو” في ممارسة تغريبة إزاء الآخر الشريك في المكان والوطن، كأحياء الزنوج والأقليات مثل “هارلم” في نيويورك”، و”فلمور” في سان فرنسيسكو ليستحيل المكان هناك أرضًا للخوف والريبة، إذ إن: (جميع الدكاكين في أحياء الفقرَاء بأميركا مسيّجة بالقضبان)، فما تنقله الكاميرا الشعرية لسركون بولص من مشاهد يكون قيمتها الفنية ليس فقط في طاقاتها السردية أو مدلولاها الدرامي، وإنما أيضًا في مدلولاتها الأيدولوجية التي تكني المشاهد الشعرية عنها، دونما انزلاق في فخاخ الخطابية أو سذاجة المباشرة وطنطنة الإنشائية، وأحيانًا ما يعتمد الخطاب الشعري لدى سركون على الحوار في ثنايا السردي، وهو ما يشحن النص بجرعات درامية، والذات- كما هنا- في زيارة لصديق فلسطيني لأنه يمثل لها أثرًا من المكان الأول بمفهومه الواسع ومداه الأرحب، الوطن العربي، والثقافة العربية:

لعلك أدركتَ قصدي، من الواضح كما ترى

أنني أهدف إلى شيء غامض قليلاً

لأنه لم يكتمل بعد وأقول هذا بمنتهى البساطة

أيّها الصديق لا أريدكَ أن تسيء فهمي

هذه كلمات بسيطة مكتوبة بالعربية بالمناسبة

هذه كلمات بسيطة مكتوبة بالعربية بالمناسبة

أذكر هذا لكي لا تتّهمني بأنني تأثرت في كتابتها

بشاعر “عالمي!”

أيُّ شاعر يخاطر بالكتابة على هذا النحو

لن يكونَ حتّى محليًّا! وسيقضي سنواته الباقية

بعيني نسر محموم أو رجل ينتظر زيارة صاحب البيت

الشهرية وهذا يعرف جيدًا أن الرجل الفقير لا يستطيع

أن يدفع الإيجار

لكنّه مع ذلك وللتسلية، أو إشباعًا لنزعة غريبة في

الإرهاب، أو ربما لأن الكلب

يعرفُ أن شرطة العالم والتاريخ كلّها تقف من ورائه

يقرع الباب بحذائه، وخصوصًا بالكعب

المليء بالمسامير…

سيقضي سنواته الباقية إذًا بانتظار الجلاّد

الذي سيأتي متنكّرًا ببدلة ممرّض رسمي طيّب القلب

يخفي وراء ظهره سلسلة حديديّة وسترةً للمجانين.

ابتسامتُهُ الكاذبةُ ستملأ الأرضَ بموضوع هذه القصيدة.

الشعر إذن، هو المشترك الثقافي الذي يجمع الذات بآخرها من المكان الأول، والشعر أيضًا هو- في حد ذاته- أثر من المكان الأول، تعيش الذات به في المكان الآخر، وفي هذا المقطع يطرح الشاعر فلسفته في الشعر وهدفه منه في ثلاثة أغراض؛ الأول: إذ يبدو أن الشاعر يُفضّل أن يكون القول الشعري يتسم بشيء من الغموض دون المبالغة أو الإسراف في هذا الغموض. هو إذن ليس مع مجانية القول الشعري أو سذاجة التعبير التي تختار المباشرة طريقًا يسلكه الخطاب الشعري، الذي يريده الشاعر قولاً لا يكتمل؛ دالاً لا يحسم مدلوله، مدلولاً يستحيل دالاً، اختلافًا مرجأً للمعنى، يُمدد عملية التأويل لمعنى لانهائي.

الغرض الآخر: البساطة، والحرص على أن يبدو الشعر عفويًّا، وهو ما يتصل بأمر الصياغة الفنية، والحرص على تجنب التكلف المجازي والافتعال الموسيقي، وهو ما يُفقِد الشعر طبيعيته.

الغرض الثالث: الحرص على أصالة التجربة الشعرية، وعربية اللغة- بما يحفظ للشاعر انتماءه للمكان الأول ويقيه خطرَ تبدد هويته الثقافية وانمحاء شخصيته الإبداعية الخاصة، وتفرد الصوت الشعري- رغم ثقافة سركون الجامعة بين روافد عربية وأجنبية- بعدم الوقوع في فخ تقليد الشعراء العالميين الكبار، الفكرة التي يُمثِّل لها الشاعر بمعادل رمزي ونظير أمثولي، وهو بقاء المستأجر الفقير/ الشاعر المُقلِّد تحت رحمة صاحب البيت/ الشاعر الأصلي، ووسيكون وقتَها هذا الشاعر المُقَلِّد نهبًا لجَلد التاريخ له.

وتبدو اللغة، أو إشكالية اللغة، بمثابة الطريق الوعر الذي خاضه سركون في دروب “العربية” كلغة يغترب فيها، أو بالأحرى كأثر مفروض على الشاعر، سعى الشاعر إلى ممارسة “التغريب” فيه، بإعادة تشكيل صياغات اللغة، وصناعة صورها:

العربية لغة مقدسة مليئة بالطيور الجارحة والسكاكين

حديدها ممغنط قليلاً

هذه السكاكين

بعيني جائع تدور الأرض حولهما، رغيفًا مسكونًا بالأشجار

أجنّة الحرب تولد وأصابعُ الشعراء

في مقاهي العالم للمنفيّين

تشعلُ نهاية الحلم الجافة، سيجارة في الفجر

ساحبين عباءة الجنوب البرتقاليّة إلى حريق هائل يُقام في

قصيدة

تُكتَبُ على شكل قبضة.

القادة يشربون نخبًا مطوّلاً على شرف الليل

والشعراء في الثكنات البعيدة يسحرون قامة التمرّد

بالقصائد

ويصغون إلى الطبول المنصوبة في الجبال، أيدي البرابرة

الكبيرة ترفرف في المضائق

وهناك ساهرون في البراكين

يأكلون نظائرَ مشعّة ضد الظلام وأسلحة

تكلّم الشعوب الضائعة التي تبحث عن جبالها في الأودية.

تُشكِّل العربية كلغة الأثر الأقوى والعامل الارتباطي الأكبر الذي يصل الذات بمكانها الأول، ولكنّ الذات ترى اللغة “العربية” “مليئة بالطيور الجارحة والسكاكين”، ولكن “بعيني جائع” وفي المقابل ترى الأرض/ “العالم” “رغيفًا مسكونًا بالأشجار”، في إشارة لقوة اللغة وقدراتها الالتهامية، ولكن هذه السكاكين/ آلات اللغة وأدواتها إنما “بعيني جائع”/ الذات/ الشاعر، في إشارة لمركزية الذات بالنسبة إلى لغتها، والعالم، فالذات هي التي تُشهِر سكاكين اللغة وتغرزها في جسد “الأرض”/ العالم. فعند سركون بولص صارت اللغة أكبر من العالم أو لنقل هي المهيمن على العالم، والذات هي مركز اللغة، بعد أن كانت الذات تابعًا للغة، وبالتالي أمسى العالم نفسه خاضعًا للذات وتابعًا لها عبر استملاك الذات عالمها بواسطة اللغة.

  ولكنّ العالم مسكون بالعنف وحافل بالحرب ما يدفع الشعراء في المنافي إلى مجابهة عنف العالم بعنف إبداعي تتجلى تمظهراته في اللغة التي تسكن القصيدة بل تؤسسها وتؤجج حرائقها الجمالية في أنحائها حتى تستحيل القصيدة قبضة تُمسِك بالعالم وتُحكم السيطرة عليه في انفلاتاته وجنونه، فيبدو الشعراء بتمردهم الإبداعي وثوراتهم الجمالية في مواجهة قادة العالم وبرابرته الجدد، في إشارة رُبما إلى الاستعمار العالمي الجديد وتأثرًا بالحرب على بلاده العراق.

……………………………….

*هذه المقالة هي مقاطع يسيرة حول رؤية سركون بولص وتمثله للشعر، من كتاب “تجربة المكان في نص سركون بولص”، للناقد الدكتور رضا عطية الفائز بجائزة الدولة التشجيعية في الآداب فرع النقد الأدبي في نقد النص الشعري هذا العام- صدر هذا الكتاب عن دائرة الثقافة بإمارة الشارقة دولة الإمارات العربية المتحدة في يوليو 2017.

مقالات من نفس القسم