سرديات التنورة وصراع المرآة

سيرة الزكية والعمدة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عمرو الجمال *

لابد من إمعان النظر وقت التعامل مع تجربة شديدة الخصوصية تستلهم عناصر جمالها من منبع يعتبره الناس موفورا و شائعا…بالدرجة التي قد توهمك أنك تعرف موضوع الكتاب وخطة صاحبه. في كتاب “سيرة الزكية والعمدة”  للكاتب الموهوب “محمد فرحات” بمجرد أن تتسلم النسخة بيديك يخيل إليك أن الكاتب سيعيد النسج على منوال الشاعرية الصوفية التي باتت منهلا للعديد من الكتاب، لكن الحقيقة تتضح تباعا كوننا بصدد عمل متفرد يعيد نسج القناعات في سرد ممتع ومخصوص.

وكما يصف “أ.م.فورستر” الحكاية بأنها الدودة الشريطية التي تصل أول القصة ب’خرها، فإن “محمد فرحات” أفلح في استدراجنا إلى حكاية ممتعة محمولة على قارب من السرد البليغ الرصين، حكاية محبة غير مبررة عقلانيا بين أصحاب السيرة أنفسهم..العمدة وأمه الزكية. تلك الأمومة ليست من وشيجة القربى ولا نسب اللحم والدم،  ولكنها محبة لعقيلة شريفة من آل البيت سلام الله عليها تبنت العمدة فكريا وإنسانيا ومنحته اسما جديدا وحياة يرنو إليها..وما إن تلقف العمدة هذه المحبة حتى صار رجلا جديدا وابنا للزكية الشريفة بمعنى الكلمة.

بوسعنا أن نلاحظ في حياكة السرد طبقات متلاصقة من المحبة ابتداء من محبة الكاتب نفسه لسيرة “العمدة إبراهيم العشماوي” وتلمس الكاتب للأثر كما تلمس العمدة من قبل طريق الزكية…اللغة عامرة بالوجد المترامي في أنحاء المكان والزمان…حين يوازي الكاتب بمهارة بين الزمن المعاش وأزمان أخرى تجرع فيها الحسين عليه السلام مرارة الخذلان وأهل بيت النبي وإصرار الخلافات الأموية والعباسية على طمس أثار النبوة المتبقية في آل النبي عليه السلام…السرد ليس ملحميا ولكنه سرد مطمئن بلغة دمثة تقرأ الدماء المراقة بشجن وانتماء ..عبر ذلك يحكي حكاية العمدة ومظاهر ترقيه في المحبة حتى منح القبول والرضا كابن وفي…

في نظري إن ما يجعل العمل عصيا على التصنيف والالتحاق بمكانته بين الرواية والقصة الطويلة أو الرواية القصيرة هو التقنية التي تبناها الكاتب نفسه في تحريك الصراع…إذ يبدو أنه تبنى  طريقة الصراع التشيكوفي في بستان الكرز..؛ حين تبدو الشخصيات شديدة الإصرار على ما تفعل حتى كأنها لا تتغير أبدا..لكنه ذلك الإصرار الذي تمارسه قطرات الماء المتواترة على عرق الماس حتى تثقبه… الإصرار على المحبة دون غيرها يجعلنا في غنى عن اختراع حبكة إغريقية ترهق شخوص العمل وتلهي عن الغرض الأصيل من ذلك النص ..كأن الكاتب بسرده للتاريخ يقول ألا يكفيكم كل هذه الصراعات..؟!!

كما أن الصراع الذي تعمده الكاتب لم يكن منوطا بشخوص النص ولكنه صراع نستطيع أن نصطلح عليه بصفحة المرآه حين يواجه القاريء نفسه ويفتش في قلبه ويحاول الكاتب أن يسرد عليه كل ما يجعله يصدق في أهمية المحبة..القاريء واحد من شخوص العمل لكنه لا يعي ذلك سوى بعد أن يتورط في الحكاية العذبة والألفة مع العمدة والزكية وكل من يدور في فلكهم من المحبين.

إنه سؤال قديم عن الغيبيات والميتافيزيقا يجعلك تعيد السؤال على نفسك..هل تصدق كل ذلك أصلا؟

صوت الراوي مخبوء عن عمد فيبدو أن التاريخ والضمير الإنساني يتحاوران في عزلة محببة.. وكان من الواجب أن يستوعب ذلك لغة واسعة تذكرنا برصانة اللفظ لدى نجيب محفوظ وعبد الحكيم قاسم لكن اللغة هاهنا كانت مذوبة في فناء صوفي يميز التجربة عن سواها ويلحقها بكاتبها الماكر والموهوب “محمد فرحات”.

“محمد فرحات” كاتب يشق طريقه في تؤدة ويؤسس لحضور قوي عبر التراكم والتنوع ويتلمس عالمه المخصوص بإصرار يحسب له ويضيفه لثلة الكتاب المتميزين..

…………

*كاتب وروائي مصري

 

مقالات من نفس القسم