ساحة واسعة للصلاة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قصة .. هدرا جرجس

قام البشكاتب من النوم ، في ذلك النهار ، والفضول يدفعه للبحث عن معني لنعت أمه بالحلبية، وكان يظنه نعتاً مخزياً، أطلق عليها بسخرية لكونها خادمة و لقيطة، كمثل كل النعوت الجائرة التي تتمسك بها المدينة في عناد فاجر، فحكيم الزبال،نائب الدائرة، مازال علي لسان الناس زبالاً، رغم أن عيونهم تحترم الثراء الذي أصابه فجأة، ورغم أنه أبعد ما يكون الآن عن الزبالة، وحتى إسماعيل الأعرج، صاحب فاترينة الشاي في مدخل البناية ، لم يستطع درء النعت القاسي عن أسمه، فتقبله كما تقبل عرجه الحقيقي، ولكن البشكاتب كان قادراً علي شحن الهواء حوله زعقاً وشجاراً إذ ما ناداه أحدهم بابن الحلبية، لا عن خشونة أصيلة في طبعه، ولكن لنظرته الدقيقة لفكرة الكرامة، ونجح في ترسيخ اللقب المحبب إلي قلبه "البشكاتب" بخطه الجميل وبخبرته القانونية الطويلة في العمل بالمحاكـم،

فقد كان ماهراً في دباجة عريضة الشكوى المدعمة بالأسانيد القانونية والشهود، فتكون كفيلة تماماً بوقوع من يغضبه تحت طائلة القانون، ومع الوقت صارت دباجة الشكاوى هواية أثيرة لديه، لا يكتبها لنفسه فقط إنما لأحبائه أيضاً، يسهـر الليــــل كله ليتحقــــق من أرقـــام القوانين التي تجرم وتمنع وتبيح، ويعرف بعين الخبير متي يحتاج إلي شهود ومتي يحتاج إلي تقارير طبية، وكان مستعداً للصرف ببذخ علي الرشاوى وشهود الزور، فصنع حوله هالة من الرهبة، في مدينة لا تخاف ناسها بصدق إلا من الله ومخافـــر الشرطـة، لذلك كانوا يتجنبون إغضابه في كل الظروف.

حلب: حلب القوم حلباً… اجتمعوا من كل وجه

أحلب القوم: اجتمعوا لأمر ما… حرب أو نحوها

فيما اجتمعوا… وأين رحلوا… لا يهم

يسمونهم الحلب أو “المساليب”…لأنهم غرباء في مدينة تعتز بأصول النسب وجذور القبائل، حلوا في ساحة المقدس أيوب الواسعة، وكانت وقتها بلا أسوار أو أبواب، نصبوا خيامهم، وأوقدوا نارهم، وبعد أيام مضوا لسبيلهم، مخلفين ورائهم دخان المواقد، وبقايا روث البهائم، وبكاء طفلة شق سكون الليل، سمعه أيوب ليلتها مختلطاً مع نقيق الضفادع

– الملاعين.. أولاد الحرام… نسوا البنت

والبنت الصغيرة السمراء لا تعرف إلا أن أسمها مريم، و لا تحمل في جيوبها إلا دمية محشوة بالقطن، ووشمين مبهمين في ذراعها، وآخر فوق ذقنها، أطعمتها الغندورة وحمتها بماء دافئ، وأدخلتها جنب بخيتة تحت الغطاء، كانت البنت منهكة فنامت بلا مقدمات، ولم تشعر ببخيتة التي ظلت تتأمل الوشم وتضحك، وتشير بلهفة لبخيت أن يأتي ليري بنفسه غرابة تلك العلامة، وعبثاً أنتظر أيوب من يأتي ليسأل عن البنت، فطلب من معارفه التجار أن يسألوا عن أسماء القبائـــل التي تشم الصغار بهذه الطريقــــة، وهل يعاني فيها واحد فقد بنته، ولكن بلا فائدة، سب ولعن وجلب البناءين فوضعوا للساحة سوراً وباباً.

قالت له الغندورة زوجته “أتركها”

– نترك من….؟ أننا لا نعرف حتى دينها

– لا يهم… أسمها مريم… وعلي ذراعها صليب

– أنه وشم… والكل يسمون مريم…سأسلمها للعمدة

فزعت الغندورة، دقت علي صدرها، وأقسمت…

– وحق الطاهرة الي تحمل البنت أسمها ما يحصل….أنشرح لها قلبي…حتى لو كان ناسها يعبدون المساخيط

وعندما مر القسيس القديم، الذي يأتي المدينة علي حماره كل شهر، طلبت الغندورة منه أن يعمد البنت، وضعتها خلفه علي الحمار، فتشبثت مريم بجلبابه الأسود ضاحكة، ومنحتها الغندورة الطمأنينة بتلويح خفيف من يدها، وقعدت قدام باب البيت تنتظر، و عند النيل غطسها القسيس مرتين، وعادت راكبة خلفه فوق الحمار، لبسها مبلل، وتغني صارخة بلا انقطاع…

كان البشكاتب يري أمه مريم الحلبية تجلس خلف ماكينة الخياطة ساهية، كآلة تدير آلة،كانت متشددة فيما يخص مسألة التعليم، لا تتهاون في حلمها أن تراه موظفا كبيراً في الحكومة، ورغم ذلك ماتت صغيرة، وتركته في وحدته الهائلة التي تمكن من ترويضها عشرات السنين، سألته صوفيا يوماً عن سبب عزوفه عن الزواج… فقال ساخراً

– أنتظر حتى يسمح البابا بالزواج من أربعة   

ضحكت يومها كما لم تضحك من قبل

– أنت شيطان… رغم أنك تشبه الأنبا استفانوس القديس

– أنا كمان قديس

الساحة التي بني لها أيوب سوراً بالطوب، و وضع لها باباً كبيراً من الخشب، و تركها وقفاً لاجتماعات المؤمنين، فكان يتوافد عليها واعظون و مبشرون و قساوســـة و راهبات قلب يسوع اللابسات زى التمريض، وكانت الغندورة تشرف علي نصب مستشفي صغيرة ، ترص الأسرة و تفرش الأغطية و الوسائد، و تثبت ستارة كبيرة لتفصل بين أسرة الرجال و أسرة النساء، كان أبنها بخيت يساعدها في تلك الأعمال الشاقة، بينما تتفرغ الحلبية لتقديم الطعام و الماء للمرضي، كانت صبية جميلة وسمراء، ولم تكن قد تجاوزت الخامسة عشر يوم رآها منصور لأول مـــرة ترطب جبين محمومة التيفود بالماء المثلج، و وجهها الصغير يحمــل رحمــة كبيرة تتراقص عليه مع ظلال عيدان البوص المفروشـــة علي السقف، ” يا الله… أنا أعرف هذه البنت “.. صرخ قلب منصور لحظتها، و شعر أنه يعرفها تماماً كأنهما التقيا في زمن آخر و مكان آخر قبل تأسيس هذا العالم، كان شعرها ناعماً وطويلاً ينساب حتى خصرها في سواد يشبه غموض الليل، وجسدها المكتنز ببشرته السمراء الحلوة ملفوفاً في فستان أبيض طويل، بدت في عينيه كالهة طيبة نزلت من السماء لتفتقد أوجاع البشر، حب و مرض، حمي و رغبة، أنين و لهفة، ثقبوا قلب منصور حارس الجبانة الذي صار كبالون، فعرف سر رغبته العارمة في معرفة سر نصف المسلة ،التي يقعد تحتها ،في الدير الرابض فوق الجبل الشرقي ، وفي وجهها رأي دائرة جديدة تحمل لغزاً أخراً ، كالبالون المثقوب صار قلبه يسرب نسيماً دافئاً علي وجه الحلبية وحدها، دفئاً لا حدود له و حباً عظيماً أراد أن يحكي قصته لكل الناس قبل أن يطلبها من أيوب .

الساحة كانت هكذا منذ البدء….

منذ أيام الجواهري الكبير الذي مات من البكاء، وهي وقف للصلاة، كانت الساحة الواسعة لا تخص أيوب في ذلك الزمان البعيد ، وكان صاحبها وقتئذ الجواهري قد سقفها بعيدان البوص المرفوع علي أعمدة خشبية بلا أبواب، وفي أحد الصباحات جاءها مبشر أجنبي يتبع جماعة الفرنسيسكان ، سيتكلم عن بشارة يسوع المفرحة، فحملت أم أيوب ابنها علي كتفها، و بركت علي التراب قبالة الساحة، و كان ولدها أيوب الذي بلغ السادسة عارياً ينكمش عضوه الصغير فوق كيس البيضتين بحياء، ولم يكن مفطوماً عن لبن أمه بعد، فأخرجت له أحد ثدييها من بين أزرار جلبابها، فشب الولد نحو الثدي الأعجف بحلمته السوداء يطلب لبناً لا يأتي، بينما تشاغلت الأم عن لكزات ساقه أسفل بطنها، وخضخضة يديه للثدي العاري بالكلام مع امرأة أخري عن ذلك المبشر صاحب الشعر الأشقر….

– سمعت أنه بيوزع هدوم جديدة

– آه… و أكل

– وأكل… إن شاء الله يبارك له في عافيته

تمدد أيوب علي الأرض بعد أن يئس من الثدي الناشف، راح يتقلب علي التراب تحت الشمس، و كانت الغندورة ابنة المعلم الجواهرى خارجة من الساحة تلعق في قطعة عسلية، تطلعت إلي عضو الولد المنكمش كنتوء صغير، وأخفت ابتسامتها الخجولة بكفها الدقيق، نظر أيوب للبنت و أزدرد ريقه، ثم بحركة خاطفة هجم عليها و أنتزع العسلية و جري، صرخت الغندورة فهرول الجواهرى يسأل منزعجاً عما حصل لوحيدته، كان صليبها الذهب المتدلي فوق ببيونتها الحمراء قد سقط، و لم تمر لحظات حتى جاؤوا بالولد العاري و هم يجرونه جراً، كحيوان صغير مذعور قلب عينيه في وجوه الناس حوله، و بخوف من أن يستردوا قطعة العسلية أخذ يلعق منها بقدر استطاعته في نهم و استمتاع

قال رجل

ــ و الله يا أبن الكلب لو ما أخرجت الصليب لألسعك بالنار

و سأل آخر

ــ وين الهملانة أمه… ؟

و لكن الجواهرى أسكتهم بحركة من يده… و أقترب من الولد

ــ تشتغل معي يا ولد …؟

قال له… ثم أعطي لأمه نقوداً و حمله معه إلي السودان

كانت الغندورة أبنته الوحيدة قد ولدت بانحناءة في عظم الحوض كعلامة ظلت تذكرها بميلادها الفادح، فقد سحبتها القابلة من الرحم في ذات اللحظة التي سحب فيها الموت روح أمها، وتركها مفغورة الفم ساكنة، تجمدت تقلصات الطلق علي جسد الوليدة فظلت معلقة بين الفخذين المنفرجــين، و لم يتزوج الجواهرى بعدها، أخلص في تربية البنت حتى بلغت الخامسة عشر فزوجها لصبيـــه أيوب الذي رباه بنفسه و علمه البيع و الشراء، وقال لنفسه… بهذا ائتمن الدنيا عليها، فقد كان يشعر أن أجله أقترب، و بعد شهر من زواج أبنته أصيب بداء غريب، جعل قنواته الدمعية تهطل بلا انقطاع، ثم بالتدريج انفجرا العينان بدموع لا حد لها، كان يقول ساخراً أن عينيه ستملأن النيل و قت الجفاف، و بعد شهرين ربطهما له مزين الصحة في وادي مدني بخرقة صوفية، و مات و علي عينيه نفس الخرقة في الشهر الخامس لزواج أبنته الميمون…

و في تلك الأيام هجمت علي تخوم السودان سحابة من الجراد الغريب، لونه أخضر ذهبي، قادماً من وسط أفريقيا، قالوا أنه يصيب الرجال بالبكاء حتى الموت إذ لم يتكحلوا بكحل النساء، فباع أيوب بيت الجواهرى في وادي مدني بالسودان، و قفل راجعاً لمدينته مع عروسه الغندورة

قلب أيوب الساحة التي آلت إليه بعد الجواهري إلي مخزن، وكانت أبنته بخيتة قد ماتت وقت شوطة الطاعون، فما الداعي لأن يعالج فيها الفقراء، و الله تفسه لم يستجب له في شفاء بخيتة، خزن فيها أجولة الغلال و العطارة، قبل أن يحولها بخيت أبنه الذي صار أسقفاً إلي ملجأ ، و يبني علي أنقاض البيت الكبير بجانبها كنيسة.

والكنيسة في تطور متلاحق…

لا يمر العام إلا و كان فيها شيئاً جديداُ، العام الماضي استبدلوا الأجراس، ركبوا في المنارة أجراساً جديدة، تعمل بالكهرباء، و لا تحتاج الشد العنيف للحبال السميكة، إنما تعمل بالضغط علي مفتاح واحد، لأعلي و لأسفل، فيبدأ المحرك الكهربائي الضخم في رجرجة الجرس حسب الوقت المقدر لكل معني يحمله الرنين، المتقطع يعلن الحداد علي ميت مات في المدينة، و المتواصل يعلن الاستعداد للقداس و الأعياد….

في أحد اجتماعات الكنيسة ، تعرفت صوفيا علي البشكاتب ، كانت تعرفه قبلها طبعاً، ولكنها وطدت العلاقة بخبث ينبع من تخطيطها للمستقبل، تصنعت ضيقها من بيروقراطية هؤلاء الموظفين اللذين يعيقون صرف سلفة طلبتها بضمان المعاش…وقالت

– أكتب لي شكوى يا حضرة البشكاتب

و تنهدت

– وبالمرة..أكتب لي رسالة للولد في ليبيا..الملعون نسي أن له أم

مات زوجها ساعي البريد بالسكتة القلبية منذ فترة طويلة، كان راكباً فوق ظهر الحمار العهدة يوزع الخطابات، وفجأة صرخ صرخة رهيبة وهو يعتصر صدره بأظافره، ثم انكفأ بوجهه فوق الحمار و مات، اللذين شافوه يومها منكفئاً ظنوا أنه نائم، فتركوا الحمار يسعى بمفرده حاملاً الجثة لزوجته صوفيا في البيت.

وماتت أيضاً بخيتة في شوطة الطاعون ….

نقص عدد الصغار واحد، ونبقي منهم ثلاثة يلعبون في فناء البيت الكبير، حسن وبخيت و مريم الحلبية، علمهم حسن أبن الجيران كيف يحولون الجوارب القديمة إلي كرة كبيرة، كان يأتيهم كل صباح، يركن صرة الطعام تحت النخلة، ويلعب معهم قليلاً، ثم ينتبه فجأة لوصت اللعب المختلس، يحمل الصرة و يجري إلي أبيه المنتظر عند الزرع….

– أبويا بيقول أن النصارى أغنيا لأنهم بياكلو خنازير

فتكركر الحلبية ضاحكة

– و ما دخل الخنازير بالفلوس يا حمار..؟

– أبويا بيقول أن لحمها بيعطي العافية و النباهة

– خلاص… كلها

– أبويا بيقول أن أكلها حرام

كان حسن يخاف من أبيه جداً، لأنه يضربه بقسوة، يعلقه في الفلقة، ويظل يضرب قدميه بجريد النخل حتى يتورما، تسخر الحلبية من جلافة طبعه الذي يفتقر الثقة بالنفس، ويلاحظ بخيت سكوته الدائم، و إذا تكلم نطق أسم أبيه عشرات المرات..

– لو كان أبويا غني زى أبوك كنت ألعب طول النهار

كان أصغرهم سناً، رغم أنه يبدو غير ذلك، كان لكفيه خشونة كلحاء الخشب، ووجهه الأسمر يميل دائماً إلي العبوس، رباه أبوه بالقسوة ليكون رجلاً سابقاً لعمره، فلاحاً ناجحاً يسخر من ترف أنداده و طفولتهم، وفي ذلك اليوم كانوا يلعبون كعادتهم، و حسن يتقافز محاولاً اقتناص الكرة ليسترد موقعه المتقدم الذي سلب منه، و الغندورة تناولهم قلل الماء البارد، و تزعق فيهم ليشربوا و يستريحوا، ونسي حسن الصرة، طال الوقت الذي يختلسه كل نهار، ومالت الشمس لتتركهم في الظل، شهق فجأة، جذب الصرة، و هرول متخبطاً بين النخل و الأبواب، بلا هدي ترك ساقيه، كان يحلف بين بكائه صارخاً أنه سيهرب، و أنهم لــن يعرفوا له مكاناً، جري إلي حيث لا مكان و لا ناس، ولكنه وجد نفسه قبالة النيل، فرمي الصرة، وراقبها حتى غاصت، و بعد يومين وجـــدوا جثته المنتفخة طافية ومعلقة بين خشب الجسر.

ماتت بخيتة، وكذلك حسن، وبقت كرة الجوارب ملقاة جنب الفرن، لأنه لم يدم لعب الصغار طويلاً، وظل بخيت يسأل في حيرة عن معني موت الصغير حسن ، و عن حكمة هذا الرحيل المجاني، وبقي الخنزير الضخم وحده يفترس جيفة الولد الأسمر بجلبابه المترب كل ليلة، فيهب بخيت مذعورا، يلتمس في بدانة الغندورة حضناً دافئاً، بيت اللحم الذي ينسيه مرارة الكابوس.

ولم تشتق مريم الحلبية للعب، وبالأخص بعد أن وجدت قطرتين حمراويين نازلتين من بين فخذيها، فتعلمت أن تكون امرأة، تمسح البلاط و تطهو الطعام وتخبز الخبيز، واعتبرتها الغندورة ابنة لها، حنى أنها في لحظات السهو كانت تنادي عليها… “يا بخيتة”… ثم تعود فتتذكر، تدق بقبضة اليد علي صدرها، ثم تضع يديها فوق رأسها و تهتز منتحبة علي إيقاع الكلمات

– آه… يا ضناي… يا بتي…. سيبتني يا غالية

فتقترب لحظتها مريم الحلبية في خجل ورهبة، وكأنها تحمل بعض الوزر لأن الغندورة سهت عن أسمها، ولا تنطق بكلمات العزاء التي تجمعت علي لسانها، يغمرها الخجل و الشعور بالذنب، فتكتفي بأن تربت علي كتف الغندورة برقة وهي تبكي

ـ
قاص من مصر

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون