سابع جار…. تشريح المدينة ببطء لذيذ

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
أسماء الشيخ المكان عادة هو دافعي الأساسي للسؤال، أحب مكانًا وأكره آخر، فيبدأ عقلي بالتساؤل حول خصوصيته وطبيعته وتاريخه. لطالما عرفت القاهرة المزدحمة، بترابها ومصالحها الحكومية المتخلفة، ولدينا إرث فني كبير يعزز قسوة المدينة وطحنها لأهلها.  

عادة ما تقدم المسلسلات المصرية نمطين من التشريح السكاني للعاصمة، الحارة بجرائمها وأخلاقها الكليشيه، والطبقة شديدة الثراء التي لا تطأ الأرض، بدون تقاطع جاد أوكاشف بينهم ــ عدا مسلسل هذا المساء ــ أو عبر صدام درامي مبالغ فيه بدون سياقات منطقية. بينما من يشبهنا من أهل المدينة، ليس لديهم مآسٍ مشوقة، أودراما تحرق القلب، هم في الخلفية يملؤن الشوارع، ويصنعون زحاما أسطوريا كعلامة مسجلة للمدينة.

وثق مسلسل “سابع جار”  لوجود هؤلاء  بشكل غير مقصود، ولغريبة مثلي عن العاصمة، كشف لي عن وجهها الأهدأ، فتح لي بيوتها، وجعلني أبات ليلتي بين أهلها. لماذا أربط هنا بين سابع جار وبين القاهرة؟ وهل سيفرق كثيرا لو كانت بمجتمع أضيق؟ من وجهة نظري أرى عمارة سابع جار ابنة للمدينة، للاحتمالات وللتنوع، فحتى إن كان ظاهر المجتمع صارم ومحافظ على التقاليد، فالحياة في مدينة كبيرة لا تنتظر أحدًا، تجيء وتحمل في طياتها أنماط شخصية متنوعة، وأحلام ومخاوف جديدة، تفرض بديناميكيتها قوانين أكثر عصرية، تصدم البعض، وتستفزه لكنها هنا تعبر عن نفسها بشتى الطرق، والفن أحدها. تأتي أهمية المسلسل تحديدا من كونه عصريا للغاية بعفوية، وفي سياق فني وممتع.

لدي بشكل شخصي ثلاثة عوامل أحكم من خلالها على جودة العمل:

الأول: المنطق

 تنبع جودة العمل الفني من المنطق الداخلي للحكي، فالكاتب لابد أن يكون واعيا بالدوافع، وبمنطقية ردود الأفعال، وبملائمة الحوار لألسن الشخصيات، وبالطبع بإحترام قواعد الفيزياء والكيمياء، كنت أشاهد غاوي حب لمحمد فؤاد، وفي مشهد استثنائي كان يقاوم حارس أمن ضخم، وقرر أن يصعقه بالكهرباء ليتخلص من قبضته المحكمة، وبشكل حصري تعرض الحارس الشرير للصعق، دون أن تنتقل الكهرباء للبطل الطيب، ليخرج سليما، دون أن يمسه سوء. لا احترام للفيزياء، لا منطق داخلي، حينها ينشط العقل الناقد للمتلقي، جالبا سخريته، وانفصاله عن العمل الفني، وفي سابع جار منطق وملائمة فنية، استفزت المختلفين معه، للحد الذي دفعهم للتعامل مع أبطاله على أنهم أحد أفراد عائلتهم، ولابد من تربيتهم ووضع حدود لتعاملاتهم وتصويب أخلاقايتهم المنفلتة.

الثاني التمثيل

نغفر الكثير من أخطاء الإضاءة والراكور وزوايا التصوير المبالغ فيها، فقط لعيون ممثل حقيقي، فمحمود الليثي الذي يقوم بأداء دور فؤاد، ألتقط السخافة بلطف وخفة ظل نادرة، وشيرين التي لا أراها سوى لينا فتاة الصرصار الرقيقة، صارت أمرأة مركبة الشخصية تؤمن بالحب وبالعطارة وببنتيها.

الثالث الحظ

أحيانا يبدو الموضوع مشوق للغاية، وجاذب للمشاهد، ويلتزم المؤلف والمخرج والممثلون بقواعد اللعبة، ثم يخرج العمل مهترىء وشديد السخافة، أظن أن واحدة من صفات الفن الهشاشة، إلى جانب كل ذلك المنطق يحتاج إلى حظ، ولدينا “نيللي وشريهان” و “اللالا لاند” كنموذج لتقارب التكوين، واختلاف النتيجة الشاسع، “نيللي وشريهان” خفة ظل تلقائية ممتعة، واللالا لاند ثقل روح غير محتمل.

ومسلسل “سابع جار” توافرت به العوامل الثلاث، انتصرت لكل الشخصيات الثانوية في الدراما المصرية، حيث مساعد البطل الذي ينصت لمآساته بتأثر ثم يختفي في عالمه الهادىء، والمسلسل تتبع عوالمهم الهادئة بإتقان، فأوقع البعض في غرامه، واغضب الآخرين. أحببته لأنه يذكرني بمقولة كونديرا: أين اختفت لذة البطء؟ أين هم متسكعو الزمن الغابر؟. وأشاهدهم يتجاورون في عمارة السابع جار.

“سابع جار” مسلسل مصري، تأليف هبة يسري وإخراج آيتن أمين وهبة يسري ونادين خان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 روائية وكاتبة سكندرية

مقالات من نفس القسم