سألتُ مُعلمي

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

"روح نبيّ جبران تخيم على هذا النص، فسلامًا لها، وسلامٌ إلى مُعلمي الذي وضع في يدي طرف الخيط".

 

حدَّثني معلمي يومًا عن الأدب، فأخبرني أن الأدب ليس منبر خطابة، وليس محراب وعظ، ولا يعني هذا معاداته لما اصطلح عليه كثيرٌ من الناس أنه من الفضائل، ولكن الأديب لا يكون أديبًا إلا إذا أوصل لقارئه ما يريد من تحت غطاءٍ ومن وراء حجابوأضاف: مضى عهد الحكايات، ولم يعد الأديب مجرد راوٍ يكتب الحكاية بأسلوب جميل وتشبيهات بلاغية وفقط. الأديب الآن عالمٌ، وفيلسوف، وكاتبٌ ممسكٌ بلغته التي يكتب بها من أطرافها ومدركٌ لأعماقها في آن.

 

وسألته: ماذا إذًا عن القارئ؟

فقال: القارئ إما أن تقف ذاكرته عند عينيه فكأنه لم يقرأ شيئًا بمجرد أن يرفعهما عن النص، وإما أن يصل النص إلى عقله فيتذكر الذي قرأه إلى حين، وإما أن يتعمق في وجدانه فيستقر فيه ما قرأ حتى تفارق الروح الجسد. والقارئ الفطن مثل قصَّاص الأثر، يبحث بين السطور وفي زوايا الحروف، ويخرج من النص بأكثر مما أراد الكاتب أن يقول، فهو بارعٌ في التأويل، مجتهدٌ في الاكتشاف، وبهذا تتضاعف متعته، وتتراكم خبراته، ويثرى فكره. ولا يجب أن ينزعج كاتبٌ من اختلاف قارئه مع ما كتب، ولا أن يتضايق قارئٌ من أن كاتبه قد ابتعد عن خطٍّ يهواه، فكما تُظهر المرايا المختلفة الشكلَ الواحد بأبعادٍ متباينة، كذلك تتعدد وتتباين صور الحقيقة بين العقول المختلفة. ربما كان للنسبية دخل في الأمر، ربما كان لزاوية الرؤية تأثير على مدى الإدراك، لكن المُسَلَّم به أن المطلق لا يصل إليه أحد. فالصورة التي تعجبنا هي التي تعلق في الذهن، والتفسير الذي يريحنا هو الذي نغلق عليه جفوننا وننام. وكل هذا يرجع للطبيعة البشرية، التي كان الأصل فيها الاختلاف.فالقارئ الرابح هو من يعمل عقله فيما قرأ وتتعدد في رأسه التفاسير، ويخرج من قراءته بفكرةٍ لم يكن يدركها ومعلومةٍ لم يكن يعرفها وصورةٍ لم يكن يراها. وإلا فقد أضاع وقته فيما لا يفيد، واستهلك طاقته في ما هو معلوم من الحكْي بالضرورة.

 

قلتُ له: حدثني عن الفرح؟

قال مُعلمي: الفرح فكائنٌ نادر، عزيزُ المنال، خفيفُ الزيارة. لكنه إن حَلَّ ضيفًا، وَدَدْتَ لو استبدلته بأحدٍ من أهل الدار! فلَمْسَتُهُ نعيم، وكلمتُه أغاريد الجنة، وبحضوره تتمنى لو توقف الزمن. يُقرضك ضحكاتٍ تَربو ذاتيًّا وتتعاظم، فإن ردَدت له ما أعطاك، لم يأخذ إلا أصلها، وترك لك فوائدها المُرَكَّبة في صورة بسمات، ترتسم على شفتيك كلما تذكرْتَها حتى آخر العمر!

 

سألته: وماذا ترى في الحزن؟

قال مُعلمي: الحزن قاتلٌ متسلسل، يختار ضحاياه ممن تنطبق عليهم رهافة المشاعر ورقة القلب ، من لا يزال في وجدانهم مكانٌ فارغٌ لملاحظة ما يجري حولهم – وإن لم يمسَّهم – فيتأثروا له. فما بالك لو جرى لهم ؟ يكون قاضيًا عليهم ولكن ببطء. يتسلل إلى أرواحهم فيخمدها شيئًا فشيئًا حتى يتوقفوا عن الملاحظة وعن التأثر، فلا يحزنهم شيء بعد، وإن حاول شيء من الفرح أو الانشغال أن يلهيهم عما هم فيه من خمود الروح وانكسارها، فإنها رفرفةٌ ضعيفة، لا تحملهم إلى أي مكان، ولا ترفعهم عن مرقدهم إلا همسة، فيما ندعوه: حلاوة الروح!

 

ثم سألته: وماذا ترى في الفقْد؟

فقال:الفقد هو الزوال، زوال ما تعلقتْ به النفس، وبما أنها تعلقتْ أي أنها اتصلتْ بما تعلقتْ به وأصبح منها وأصبحتْ منه، فإن فقدَتْه فكأنما اقتُطِع منها ، فزال منها جزء، فأصبحت ناقصةً بعد اكتمال، وواهنةً بعد جلدٍ واحتمال، فصَعُب عليها استئناف ما اعتادت عليه وقد زال منها ما اتصلتْ به. فالحزن على المفقود في معظمه حزن الفاقد على ذاته بعده، والخوف من الفقد هو جزع الفاقد على كيفية مواصلة حياته دون من فقد. وأحيانًا يمحو الاعتيادُ ألم الافتقاد، وأحيانًا يكون الفقد كالبتر، فيظل الفاقد في حالة عدم اتزانٍ كمن فقد ساقه، أو يعجز عن رؤية نصف الدنيا كمن فقد عينه، أو تنسحب منه الحياة كمن فقد بعضًا من روحه. ولا يتساوى عند الافتقاد كون المفقود إنسانٌ أو جماد، وتُقاس مصيبة الفقد بمدى قرب المقفود من الفاقد . ومهما يكن من أمر، فالذكرى سلوى المحزون، والنسيان طبيب المكلوم.

 

وسألته أيضًا: ماذا تقول في الغضب؟

قال مُعلمي: الغضب نارٌ تحرق النفس وتكويها، وتقتطع منها أجزاءً تنقص من قدرتها على التفاعل مع الحياة في كل مرة تشبُّ فيها النار حتى تنطفئ. وحتى إن خمدت تلك النار، فإنها تترك في تلك النفس ندوبًا وتشوهاتٍ تظل مرئيةً واضحةً إلا إذا اختار الإنسان التعامي عنها. فكيف نلوم على الغاضب، الذي ألقى نفسه وسريرته الهانئة إلى ذلك الوحش المشتعل، فإنه لم يفعل إلا لأن ما دفعه كان جحيمًا أشد استعارًا وأعظم لهبًا.

 

ومس طيف الغائب روحي فسألتُ مُعلمي: أيجتمع انفصالٌ واتصال؟

فقال: نعم؛ الانفصال قد يكون في المكان وفي الزمان، والبعد في المسافات لا يكون إلا بين الماديات. أما اتصال الأرواح وإن انفصلت الأجساد فلا يقطعه إنسان، وهكذا يجتمعان.

 

ثم سألته: أي مكان أنسب للحفاظ على الأسرار؟

فقال: لا مكان للسر في الصدر، فالضلوع هشة لا تحتمل نزوع النفس للإفشاء. واحتفظ الأقدمون بالأسرار في الآبار، فشاعت وذاعت، فيوسف ألقي في الجب وأخرجه واردُ الماء. ولا يُدفن السر مع الأموات، فقبور اليوم حفائر الغد. إنما مكان السر ثقبٌ أسود، يبتلع السر، ومن أوْحى به، ومن أُوحِي له، في صحبةٍ سرمديةٍ لا تزول.

 

وانتهى إلى هنا حديثي مع مُعلمي، إلى حين.

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار