زوجة القاضي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 36
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إيزابيل أليندي

ترجمة: د. إقبال محمد علي

كان نيكولاس فيدال يعرف على الدوام، أن نهايته ستكون بسبب امرأة. هذا ما تنبأت به صاحبة المخزن العام حين سمح لها في احدى المناسبات، قراءة ما تبقى من البن المترسب في قعر فنجانه. لم يَدر بخلدهِ على الإطلاق، ان هذه المرأة ستكون( كاسيلدا)، زوجة القاضي (هيدالغو) التي وقع نظره عليها اول يوم وصولها المدينة للزواج. لم يجدها جذابة، لأنه كان يفضل النساء السليطات ذوات الشعر الأسود. بدت له هذه الفتاة الصغيرة الضئيلة، ببدلة سفرها و نظرتها الخجولة واناملها الرقيقة، غير ذات نفع، مثل حفنة رماد غير قادرة على أشباع رجل. كان حذراً من المرأة  لأنه يدرك مصيره معها، لذا قسا على قلبه بالتهرب من إقامة علاقة حب تودي بحياته، و بقي مقتصراً على علاقات عابرة، يملأ بها وحدته.

كاسيلدا ، كانت بعيدة عن ذهنه تماماً، و لم يشكل وجودها اهمية، كي يخاف منها و لكن حين حَلَت اللحظة، تناسى عاقبة النبوءة التي كانت تتحكم بقراراته. كان يجثو على سطح بناية البلدية يراقب مع اثنين من رجاله، السنيورة الصغيرة القادمة من العاصمة، تنزل من عربتها في يوم زواجها بمرافقة نصف درزينة من افراد عائلتها الذين كانوا مثلها، متأنقين شاحبي الوجوه، يستخدمون المراوح اليدوية طوال فترة المراسيم، لتحريك الهواء الراكد…. بعدها غادروا المدينة، دون رجعة.

كبقية سكان المدينة كان فيدال يعتقد ان العروس لن تقاوم الطقس و ستفطس و ستقوم العجائز قريباً، بتمديد جسدها في فناء الدار انتظاراً لدفنها…. يبدو ان الأمور سارت على العكس من توقعات الجميع، تحَمَلت الحر و الغبار الذين يخترقان الجلد ليستقرا  في القلب و استسلمت لطباع زوجها الشنيعة، الذي كان عمره اضعاف عمرها، إضافة إلى انه عاش سنوات طويلة لوحده، لم يعاشر فيها أمرأة و لم تكن له خبرة أو دراية في كيفية ارضاء زوجة!!.

كان القاضي عنيداً، قاسياً في تطبيق القانون-حتى و ان كان على حساب العدالة –، الشيء الذي أثار الرعب و الخوف في كل ركن من اركان المحافظة. حصانة منصبه، دفعت به إلى تجاوز منطق العقل و الأنسانية في احكامه… فنفس العقوبة التي يفرضها على سارق دجاجة كان يطبقها لمعاقبة مجرم ٍعاتٍ.كان يرتدي على الدوام بدلة سوداء مميزة، لتذكير الناس بعلو مقامه. رغم سحابات الغبار الدائمة التي تغطي فضاء مدينة ضاعت احلامها، كان حذاؤه الأسود ذا الكعب العالي المدهون بشمع العسل يلمع على الدوام. كانت الإشاعات تتمحور حول، أن هذا الرجل، لم يخلق للزواج، لكن تنبؤاتهم المريعة لم تتحقق، بل و خابت آمالهم بعد انجاب  كاسيلدا لثلاثة اطفال اصحاء و كانت على ما يبدو، راضية بحياتها. كانت تذهب كل أحد، لحضور قداس الساعة الثانية عشرة مع زوجها، مغطية رأسها بوشاحٍ من الحرير الأسباني. لم تتأثر بشرتها بحرارة الصيف الحار الطويل الذي لا يرحم و بدت كالشبح بوجهها الشاحب الهادئ. كانت صامتة على الدوام لم يسمع احدٌ منها غير كلمة أهلاً، تقولها بإستحياءٍ و خجل، ايماءة رأس أو إبتسامة خاطفة. كانت تحس بانها تضمحل و تنتهي، ان لن تحاول تغيير وضعها الحالي و بالسرعة الممكنة. لذا كان الجميع مندهشاً  بالتأثير و الجهد اللذين بذلتهما لتبديل طباع القاضي، المعارض الأشد، للتغيير.

رغم محافظة القاضي هيدالغو على مظهره الجنائزي و وجهه العابس، إلا ان قراراته في المحكمة آخذت منحنىً آخر، يتسم بالغرابة. صعق جمهور القاعة حين قام بتبرئة شاب قام بسرق رب عمله وكانت حجته في ذلك، أن رب العمل كان يدفع له أقل من الأجر المتفق عليه. كذلك رفض معاقبة امرأة بتهمة الزنا، لأن لزوجها عشيقة وهذا يعني، ان الزوج لا يمتلك اية سلطة أخلاقية لمطالبة زوجته بالإخلاص. و انطلقت ألسنة الثرثارين معللة هذا التغيير، بأن القاضي أصبح محبساً بيد زوجته و انه في اللحظة التي يجتاز بها عتبة الدار، ينزع بدلة الدفن ليلعب مع أطفاله و يجلس كاسيلدا على ركبته لتدليعها.و يبدو انه لم يكن لهذا النوع من الدعايات اية صحة،لأن زوجته  كانت بالفعل، صاحبة الفضل في زرع روح الخير في داخله و تحسين سمعته..

نيكولاس فيدال لم يبال بكل هذه الأمور لأنه كان خارجا عن القانون، علاوة على انه كان واثقا، مِن ان القاضي لن يرحمه حين يقتادونه إليه مكبلاً. كان كذلك يستخفّ بالإشاعات التي تدور حول مآثر دونا كاسيلدا، رغم أنها تركت في ذهنه في المرات القليلة التي رَآها عن بُعد، انطباعاً هلامياً مشوشاً.

ولد قبل ثلاثين عاما، في غرفة لا نوافذ فيها، في احد بيوت الدعارة في المدينة، لأم اسمها جوانا دي لا تريستا و اب مجهول الهوية. مخلوق لا يمت بصلة لهذا العالم و كانت امه تدرك ذلك جيداً. استخدمت عشرات الوسائل لإسقاطه من رحمها.. جربت الأعشاب.. اعقاب الشموع… حَقْن مهبلها بسوائل قلوية و طرق مريعة أخرى. لكن يبدو ان هذا الجنين كان عنيدا، لذا قرر البقاء في رحم أمه. سنوات مرت، كانت جوانا تضرب فيها اخماسا بأسداس لمعرفة اسباب اختلاف ابنها عن الآخرين لتدرك في النهاية، ان محاولاتها الرهيبة للتخلص منه بدلا من قتله اورثت في قلبه القساوة، ليصبح فيما بعد، كالحديد روحا و جسدا. عند ولادته، رفعته القابلة قُرب ضوء مصباح الكيروسين لفحصه، لاحظت في الحال، ان لديه اربع حلمات.

“نهاية هذا المخلوق المسكين ستكون بسبب امرأة”…كانت هذه نبوءة القابلة ذات الخبرة الطويلة في هذا المضمار. ظَلّ وقع هذه الكلمات يطارده و يعذبه مثل داءٍ سقيم. لربما كان لحياته ان تصبح أقل بؤسًا، لو وقع بغرام امرأة. و لتعوضعه جوانا لا تريستا عن محاولاتها العديدة في التخلص منه، اختارت له اسماً عشوائياً، يليق بنبيل. لكن هذه التسمية الأميرية لم تكن كافية لتخليصه من طالعه. قبل ان يبلغ عشر سنوات، خلّف عِراك سكاكين ندبة في وجهه، ليصبح بعدها خارجاً على القانون، في سن العشرين، أصبح يقود عصابة من المجرمين. عادة العنف صلبت عضلاته و الشارع جرده من الرحمة و العزلة التي اختارها لنفسه كان سببها الخوف من الوقوع في غرام امرأة تنهي حياته كما ذكرت النبوءة. كل من يلتقي به في المدينة سيقسم ان هذا الرجل هو أبن جوانا لا تريستا التي أورثته عينين مخضلتين بدموع حبيسة لا تهطل. كانت أية مصيبة تحدث في الأقليم تعزوها الشرطة لفيدال و عصابته. و لإسكات غضب الشارع، كانت الجندرمة تخرج بكلابها، تقوم بعدة دوريات في التلال للقبض على نيكولاس فيدال لتعود بعدها خالية الوفاض. كانوا في الواقع يتجنبون العثور عليه لأنهم لا يريدون الدخول في مواجهات معه. عصابته، وطدت سمعته السيئة بين الناس للحد الذي جعل المدن الصغيرة و مالكي المزارع  يتبرعون له بالأموال، كي يبقوه بعيدا عنهم. و هكذا تعود رجاله على حياة الكسل بسبب هذه الهبات مما حدا به إلى اشغالهم بركوب الخيل و الخوض في  زوابع من التدمير و القتل كي لا يفقدوا قدراتهم القتالية أو تتلاشى سمعتهم المرعبة من أذهان الناس. و لم يجروء أحد على مواجهتهم.

طلب القاضي هيدالغو  مرة أو مرتين من الحكومة أمداده بقوة من الجنود لتعزيز منطقته النيابية. بعد استطلاعات قصيرة غير مجدية يعود الجنود إلى ثكناتهم و الخارجون على القانون إلى ألاعيبهم القديمة.

كاد نيكولاس فيدال ان يقع مرة أو مرتين بيد العدالة، لكنه نجا بسبب احاسيسه التي لم تخدعه. خيبة القاضي وهو يرى فيدال يقوم بجولاته الوحشية على الناس غير مبال بالقانون دفعته إلى نسيان ضميره و وضع فخٍ لطريد العدالة هذا. كان يعرف قانونياً، مدى فداحة ما هو مقدم عليه. و لتنفيذ خطته أختار الأضعف بين الأثنين… انتقى جوانا لا تريستا كطعم لإصطياده إذ لم يكن لفيدال عائلة غيرها أو حبيبة. جيء له بجوانا من المبغى، الذي كانت تعمل فيه منظفة لشطف الأرض و مسح مصابيح  الزبائن لقاء مبالغ بائسة لأن صلاحيتها كعاهرة قد أنتهت. أخذوا جوانا لا تريستا من المبغى و ألقوها في قفص وسط الساحة العامة مع جرة ماء… كانت فكرته مبنية على نوع التعذيب الذي كان يمارس في الماضي لمعاقبة العبيد الهاربين:”حين ينفد الماء، ستصرخ و سيأتي ابنها، عندها سأكون انا و جنودي بإنتظاره”. وصل الخبر أسماع  فيدال، قبل نفاد آخر قطرة ماء في جرتها. كان رجاله يراقبونه بصمت. قسمات وجهه لم تشِ بأي تعبير لكأنه يرتدي قناعاً، و استمر في شحذ سكينته بهدوء. لم ير جوانا لا تريستا لسنوات و لم تكن لديه ذكريات سعيدة عن طفولته.. لكن القضية الآن لا علاقة لها بالمشاعر قدر ما لها علاقة بالشرف. و لا يمكن لرجل التسامح على مثل هذه الإهانة، هذا ما كان يدور بذهن رجال عصابته الذين كانوا على أهبة الأستعداد لإعتلاء صهوات أحصنتهم، و وضع ايديهم على اعقاب مسدساتهم و افتدائها بحياتهم بإشارة منه، غير هيابين من الفخ المنصوب لهم. لكن قائدهم لم يعطِ أية إشارة.

مرت الساعات، كان التوتر يتفاقم داخل المعسكر. كان رجاله يتبادلون النظرات، يتصبب منهم العرق لا يجرؤون على التعليق و قد نفذ صبرهم من الإنتظار، ايديهم على أعقاب مسدساتهم و اللبادة على ظهور خيولهم و لف عُقد أنشوطاتهم. حَلَ الليل، نيكولاس فيدال، كان الوحيد الذي يغط بنوم عميق في المعسكر . عند الفجر كان رجاله منقسمين في الرأي، البعض منهم يعتقد، ان فيدال لا قلب له بل و أكثر مما كانوا يتخيلون. البعض الآخر كان يظن انه  يخطط لضربة مثيرة توقع الرهبة في النفوس من أجل انقاذ والدته. الشيء الذي لم يطرأ على بالهم، ان الرجل تنقصه الجرأة التي كانت جزءً من سلوكه في الكثير من المواقف. عند الظهر، نفذ صبرهم و توجهوا لسؤاله عما يريد ان يفعل.

– لا شيء.. كان جوابه.

– و ماذا عن والدتك؟.

– لنر من يمتلك الشجاعة، أنا أم القاضي! أجابهم، برباطة جأش.

توقفت جوانا لا تريستا في اليوم الثالث، عن المناشدة و التوسل من أجل قطرة ماء، بَعد ان جف لسانها و ماتت الكلمات في حُلْقُومها. تكورت مثل الجنين على ارضية القفص، لا تعابير في عينيها، شفتاها منتفختان مشققتان، تئن مثل الحيوان في لحظات صفائها و تحلم بقية الوقت، بجهنم.كان يحرس القفص اربعة من الجنود كي يمنعوا  الناس من تقديم الماء لها.كان عويلها يصل، بيوت المدينة ، يخترق جدرانها و شقوق أبوابها ليرتطم بزوايا حجراتهم .. تسمعته الكلاب فراحت تعوي تشاركها الألم، و انتقلت عدوى البكاء إلى الأطفال الرضع و أثرت على اعصاب كل من سمعها. لم يستطع القاضي منع الناس من التظاهر في ساحة المدينة، شفقةً على العجوز المسكينة أو منع أضراب العاهرات تعاطفاً معها، الذي صادف نفس يوم، إستلام عمال المناجم رواتبهم. كانت الشوارع أيام السبت، تموج برجال المناجم الفظين، المتعطشين لصرف أخر ما ادخروه قبل العودة إلى محاجرهم تحت الأرض. المدينة بكاملها قررت في هذا اليوم الإحاطة بقفص العجوز التي كان أنينها الموجع، ينتقل من فم لفم، يعَبرَ النهر إلى الساحل البعيد. توجه القس مع مجموعة من رجال ابرشيته لمقابلة القاضي هيدالغو و تذكيره بقيم  الحب و الفضيلة المسيحية و مناشدته اطلاق سراح العجوز المسكينة من قفص الموت. لكن الحاكم اغلق باب مكتبه بالمزلاج و رفض سماعهم مراهناً ان جوانا لا تريستا ستعيش ليوم آخر و ان ولدها سيقع في الفخ. عند ذاك قرر وجهاء المدينة التوجه لزوجته دونا كاسيلدا.

استقبلتهم زوجة القاضي في غرفة الإستقبال المعتمة و استمعت لمناقشاتهم بصمت، مخفضة عينيها كعادتها. كان زوجها غائبا عن البيت في الأيام الثلاثة الأخيرة، حابساً نفسه في مكتبه منتظراً وصول فيدال. رغم انها لم تنظر من الشباك إلا انها كانت على علم بكل ما يجري في الخارج، فحشرجات صوت العجوز المليئة بالعذاب و الألم أخترقت جدران حجرات بيتها الفسيحة. انتظرت دونا كاسيلدا خروج ضيوفها، ألبست اولادها افضل ما لديهم من ملابس أيام الآحد و توجهت بهم إلى ساحة المدينة.كانت تحمل سلة فيها جرة ماء عذب و بعض الطعام لجوانا لا تريستا. لمحها الحراس تدور من زاوية الشارع  فأدركوا نيتها. كانت لديهم توجيهات صارمة، صالبوا بنادقهم حين اصبحت أمامهم، حاولت إجتيازهم- تحت مراقبة الجموع- لكنهم منعوها من المرور عند ذاك بدأ اطفالها بالبكاء. كان القاضي في مكتبه الواقع في ساحة المدينة. كان الوحيد الذي لم يضع سدادات الشمع في أذنه لأن جُلّ اهتمامه كان مركزا على الكمين… منتظراً سماع صوت حوافر خيول نيكولاس فيدال و عصابته. لثلاثة أيامٍ و ليال، تحمل بجَلد نحيب الضحية و شتائم الناس المتجمعين امام النيابة، لكن سماع بكاء أولاده تجاوز حدود تحمله. غادر المحكمة بلحيته التي لم يحلقها منذ أربعة أيام، كان التعب باديا على، عينيه الحمراوين من سهر الإنتظار و ثقل خذلان الهزيمة. عبر الشارع و دخل ميدان المدينة و وقف امام زوجته متبادلين نظرة حزينة. كانت المرة الأولى التي تعصيه منذ سبعة سنوات لكنها قررت في هذه المرة، مواجهته أمام أعين الناس. أخذ القاضي السلة و جرة الماء من يد كاسيلدا و فتح بنفسه، باب القفص لخدمة السجينة.

” أخبرتكم بانه لا يمتلك الشجاعة”، قالها نيكولاس فيدال ضاحكا عند سماعه الخبر.لكن قهقهاته تحولت إلى غمٍ في اليوم االتالي حين وصل علمه، ان جوانا لا تريستا شنقت نفسها بعمود المصباح في المبغى، لأنها لم تتحمل العار الذي جلبه عليها ابنها بتركها وسط ميدان دي آرماس. عندها أقسم فيدال قائلاً:”حانَ دورُ القاضي الآن”.

كانت خطته، التوجه إلى المدينة عند حلول الليل و مفاجأة القاضي ثم قتله بطريقة مثيرة و رمي جثته بطريقة مذلة في القفص اللعين، ليصبح فُرجة للعالمين فجر اليوم التالي. لكنه تلقى أنباء تفيد، بأن القاضي غادر مع عائلته إلى احدى المنتجعات على الساحل لنسيان هزيمته المريرة. خطة الثأر الجديدة التي وضعها فيدال ،كانت تتلخص بمباغتة القاضي و عائلته في نزل الإستراحة الذي توقفوا فيه قبل توجههم إلى المدينة. و لعدم وجود حماية معه، وجًدَ القاضي، ان المكان لن يكون آمنا له أو لعائلته،لذا قرر التوجه إلى أقرب مدينة لطلب المساعدة، مستفيدا من فارق الوقت بينه و بين عصابة فيدال إضافة إلى أن سيارته أسرع من خيولهم. أمر زوجته و الأطفال ركوب السيارة و دعس الدواسة إلى نهايتها متوجها إلى الطريق العام إذ ما زال لديه المتسع من الوقت للوصول بعائلته إلى المدينة بسلام. و يبدو ان على فيدال مواجهة المكتوب، ففي هذا اليوم قُدِر له، لقاء المرأة التي امضى معظم حياته، الهروب منها.

بسبب قضاء عطلة نهاية الأسبوع بلياليها دون نوم، و عداء الناس له في المدينة و ما مر به من الأحراجات، إضافة إلى  توتره من أجل إيصال عائلته إلى بر الأمان، توقف قلبه و انفجر دون صوت، مما أدى بالسيارة الإنحراف عن الطريق العام لترتطم بحافة  الرصيف و تتوقف. أخذت دونا كسيلدا دقيقة أو دقيقتين لتصحو من صدمتها… كانت تفكر احيانا بوضعها لو اصبحت أرملة لكبر سن زوجها، لكن لم يخطر ببالها انه سيتركها تحت رحمة اعدائه. لم يكن لديها وقت لإضاعته بالتفكير، كان عليها ان تتصرف بأسرع ما يمكن لإنقاذ اولادها. نظرت حواليها بعجلة، طلبا للمساعدة و كبحت دموعها اليائسة، فلا أثر لإنسان أو حياة. لم تكن هناك غير شمس بيضاء محرقة و أرض قاحلة و تلال موحشة. جالت بنظرها للمرة الثانية، لتلمح من البعيد خيال كهف. ركضت بإتجاهه تحمل طفلين على كلتا ذراعيها و الثالث  يمشي وراءها، متشبثا بذيل تنورتها. قاست مدى انحدار الكهف ثم بدأت بنقل أولادها الثلاثة الواحد بعد الآخر عند فتحة الكهف. كان الكهف عادياً مثل بقية الكهوف في التلال الأخرى. فتشت داخلة بعناية، خوفاً من أن يكون مسكونا ببعض الحيوانات. أجلست اولادها في نهايته و قبلتهم دون ان تذرف دمعة. “خلال ساعات ستأتي العصابة  للبحث عنكم، عليكم ان لا تخرجوا لأي سبب من الأسباب حتى لو سَمِعتُمُونِني أصرخ، هل فهمتم؟”. أحتضن صغارها بعضهم البعض، برعب… ألقت عليهم نظرة أخيرة و نزلت من التل. وصلت السيارة، اغلقت جفني زوجها، نظفت ملابسها بالفرشاة و عدلت شعرها ثم جلست تنتظر. لم تكن تعرف عدد رجال عصابة فيدال.. صلت ان يكونوا كثيرين كي يأخذوا وقتاً اطول في اغتصابها و تمنت لو كانت امرأة شهوانية، قوية لتَحمُل ما هو قادم و كسب الوقت من أجل صغارها.

لم تنتظر طويلا، إذ انها سرعان ما رأت سحابة من التراب تغطي الأفق  و صوت حوافر حصان…. جزت على اسنانها، رأت راكبا واحدا فقط يسحب مسدسه على بعد امتار قليلة منها. تيقنت في الحال، من الندبة على خده، ان الرجل هو نيكولاس فيدال الذي  قرر كما يبدو تعقب القاضي لوحده لتصفية الحساب الخاص بينهما و هنا فطنت لجسامة ما هي مقدمة عليه، بدلا من الموت البطيء.

بنظرة سريعة أدرك ان عدوه مات بسلام، دون ان يقتص منه …لكن هاهي الزوجة تعوم بأمواج الضوء. ترجل من على صهوة حصانه و توجه نحوها، لم تشح بوجهها عنه، توقف في الحال ..  لأول مرة  في حياته يجد من يتحداه، دون ان يحس بشعرة من الخوف. لعدة ثوان كانا يدرسان، قوة الآخر. وضع نيكولاس فيدال مسدسه جانبا فأبتسمت كاسيلدا له.

غرقت زوجة القاضي في متع لا تنتهي في الساعات التي تلت، أستخدمت  فيها،كل ما سمعت به من أساليب الغواية و التَهتُك التي عرفتها الخليقة. ليس هذا فحسب، بل و ابدعت في أستنباط ألاعيب جديدة لم يحلمَ بها رجل مِن قبل. و لأجل متعتها الجنسية الخالصة و الوصول بها إلى أقصى درجات اللذة، لعبت بمهارة المرأة المحترفة لتعزف على كل وتر من أوتار جسده. كان كلاهما يعي مخاطر اللعبة، التي ستنتهي بموتهما، هذا الأدراك منحهما القوة للوصول إلى أعلى درجات المتعة.

كان نيكولاس فيدال يتهرب من الحب منذ ولادته. لم تكن له علاقة غرامية، لم يعرف كُنهَ الحميمية، ضحكات العشاق الخفية أو الإحتفاء بأحاسيسه أو متعة العشق. كان يشعر بدُنُوّ أجله من أهتزاز الأرض تحت حوافر الخيل، وكان هذا الإحساس يزيده التصاقاً بهذه المرأة المذهلة، سعيداً بمقايضة حياته في أحضان كاسيلدا وما تهبه من عطايا. كاسيلدا، المرأة المحتشمة، الخجول المتزوجة بعجوز صارم لم ير زوجته، عارية يوماً.

لم تنس كاسيلدا و لو للحظة و احدة، انها من أجل كسب الوقت، اكتشفت في ذلك المساء الذي لا ينسى، ان في داخلها أمرأة أخرى قادرة على أطلاق العنان لأحاسيسها و التوهان في عالم الملذات، و كان الفضل بذلك، يعود لفيدال. لذا توسلت به، في الهرب و الأختفاء بين التلال حين سمعت اصوات الجندرمة، تدنو قريبةً منها. لكن نيكولاس فيدال، فضل ان يحتضها بين ذراعيه و يقبلها القبلة الأخيرة، أمتثالاً للنبوءة التي سطرت، مصيره.

21.03.2020

_______________

ولدت إيزابيل أليندي عام 1942، في ليما، بيرو. حفيدة  الرئيس الراحل سلفدور أليندي الذي كان رئيس اول حكومة اشتراكية في تشيلي. كان والدها(ابن عم الرئيس اليندي)، يعمل في السلك الدبلوماسي، عمرها سنتان حين هجر والدتها. انتقلت مع إخوتها وأمها للعيش مع جدها في تشيلي. تتذكر الليندي نفسها كطفل متمرد منذ السنوات الأولى من حياتها. وقالت في مقابلة مع صحيفة التليجراف: “لقد عشنا في منزل “ثري، بلا مال” : كان جدي يدفع ما يكفي من ضرورات العيش، و لم يكن لدى والدتي نقود حتى لشراء الآيس كريم. أردت أن أكون مثل جدي لأن والدتي كانت تعيش حياة مرعبة. كانت لديه امتيازات استثنائية:القوة ،الحرية و سيارة. أعتقد أنني في هذه المرحلة في حياتي بدأت بالتمرد على عالم الرجل، الشرطة، الكنيسة و كل شىء.

مقالات من نفس القسم