زوتوبيا

موقع الكتابة الثقافي writers 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

صفاء النجار

1

ترحل آخر مشتركة فى «الجيم» فى العاشرة مساء، بعدها بربع الساعة ترحل المدربات والمسئولة الإدارية، بعدها بنصف الساعة يكون علىّ أن أرحل بعد التأكد من إغلاق جميع الأجهزة الرياضية، وشاشات التليفزيون، والاستريو، وفصلها عن التيار الكهربى، وتفريغ الجاكوزى، وإغلاق قاعتى الساونا والبخار، وجمع المناشف المستعملة فى سلة لإرسالها إلى المغسلة.

أُنهى مهامى بترتيب دقيق.. غير أننى أترك شاشات التليفزيون حتى اللحظة الأخيرة قبل أن أغيّر ملابس العمل واستبدالها بملابسى، لا تلتزم المسئولة الإدارية بارتداء زى محدد، تلتزم المدربات بارتداء بنطلون كحلى وتيشيرت فوشيا، وتلتزم عاملات النظافة بارتداء البنطلون الأسود والتيشيرت الأسود للتمييز بينهن وبين المدربات.. لكن الحقيقة أن المشتركات فى الجيم لا يُخطئن أبدًا فى التمييز بين المدربات وعاملات النظافة.. فالإدارة تمنع بتاتًا هذا الخلط: تختار الإدارة المدربات: رياضيات، شابات، رشيقات، ويخلطن حديثهن بكلمات أجنبية طوال الوقت: فِتنس، هِلثى، دَايت، كَارب، سيكس باكس، ناترال… إلخ.

تختار الإدارة العاملات: سمراوات، يملن إلى السمنة، عوانس، ومكسورات الجناح أو بلا جناح أصلًا، لا تسمح لهن بالوجود فى استديوهات التدريب إلا للقيام بالتنظيف وبمعدل زمنى دقيق.. كل ٢٠ دقيقة على عاملة التنظيف أن تدخل القاعة بخفة ودون صوت وتلمع الأجهزة التى تنزل من عليها المتدربة. تلميع الأرضية وتنظيف وإفراغ سلال المهملات يتم كل ساعة. لا يوجد تعامل مباشر مع المشتركات، لا توجد إكراميات، ومن تُظهر توددًا للمتدربات بالمساعدة فى غرفة خلع الملابس، يتم لفت نظرها مرة، وفى الثانية تأخذ حسابها آخر اليوم ولا تعود للجيم.

تنتهى مهامى فى خمس عشرة دقيقة، فى العاشرة والنصف مساء، غير أننى أضطر للانتظار إلى الحادية عشرة موعد تسليم المناشف المستعملة لعامل المغسلة، وتسلم المناشف النظيفة منه.

يحكون فى «الجيم» أن عاملة فى وقت ما حاولت أن تسلم المناشف المستعملة فى العاشرة والنصف واتفقت على ذلك مع عامل المغسلة، ويبدو أن موظف الأمن لم يكن يستلطفها، فتركها تغلق «الجيم» وتسلمه المفتاح فى العاشرة والنصف وخمس دقائق. لكنها بعد أن وصلت فى موعدها صباحًا وقامت بكل المهام الصباحية، وبمجرد تأكد المسئولة الإدارية من انضباط كل شىء وتهيئة الجيم لاستقبال المشتركات، قبل الثامنة بخمس دقائق فقط، استدعت المسئولة جميع العاملات ومن بين صفهن المنضبط فى ترقب وانتظار، نادت عليها، أعطتها باقى حسابها وأمرتها بالانصراف بعد أن أخبرت الجميع بأن الأمانة والانضباط هما قوام الاستمرار فى العمل بالجيم ومَنْ لا تستطع أن تلتزم ترحل غير مأسوف عليها.

عاملة وحيدة نجحت فى رشوة موظف الأمن، لكن نصف الساعة انتظارًا لا يتساوى ثمنه مع فضيحة، لا بد أن تنكشف مع وجود كاميرات المراقبة فى مدخل الجيم، أو أن تتسع دائرة المرتشين بما لا تسمح به أخلاق إدارة «الجيم» أو أى إدارة أخرى.

ويبدو أن مسألة الانتظار نصف الساعة أثقلت على جميع العاملات، فقررت إدارة الجيم أن تجعل مهمة الانتظار من نصيب أحدث عاملة تنضم للجيم، كاختبار وامتحان لها قبل تثبيتها فى العمل. وكنت أنا هذه العاملة الجديدة.. عانس، سمراء، ابنة لوالدين مطلقين، أحدهما عامل محارة يصرف يوميته على شرب «الحشيش» وأم تخدم باليومية فى البيوت، أسكن فى «الدرب الأحمر»، وأتنقل بين أتوبيسين وميكروباص، وأمشى على قدمىّ محطة كى أصل لشارع عبدالعزيز آل سعود فى المنيل حيث مقر «الجيم».

أنا عاملة مثالية، خاضعة ومنسحقة تمامًا للتصنيفات والتقسيمات، أنا فى الخانة الأسوأ من كل شىء، لذا فليس انتظار نصف الساعة مشكلة بالنسبة لى.

أنا ملتزمة تمامًا:

فى الصباح تأتى أول مشتركة لـ«الجيم» فى الثامنة، قبلها بنصف الساعة تحضر المدربات والمسئولة الإدارية، قبلهما بساعة ونصف الساعة أحضر أنا.. فى السادسة يفتح لى «صلاح» موظف الأمن باب الجيم.. ساعة ونصف الساعة يكون فيها «الجيم» ملكى.. ويكون علىّ تلميع كل الأجهزة الرياضية، والمرايا والتأكد من نظافة الأرضيات والحمامات وقاعة تغيير الملابس وقاعتى الساونا، والبخار، وإعادة ملء الجاكوزى، وتركيب زجاجة الماء فى المبرد، وتوزيع المناديل الورقية، والمناشف النظيفة، وبخاخات معطر الجو..

أنا ملتزمة تمامًا:

وفى المساء لن أسمح لنفسى بالوقوع فى الفخ.

2

ليس بوسع أى أحد أن يكون أى شىء..
تعمل أمى خادمة باليومية فى أكثر من بيت، تحمل موبايل تعطى رقمه للبوابين وأصحاب محلات البقالة، وتتركه لدى المشرفات بالجمعيات الخيرية التى تأخذ منها شهرية.
ترفض أمى أن تكون خادمة بدوام أى تذهب كل يوم لشقة محددة، لا تريد أن تتقيد ولا أن تلزم نفسها. وعندما تحسبها تجد أن ما تتحصل عليه شهريًا يساوى القيمة نفسها.
قد يكون بيت صاحبة الجيم البيت الوحيد الذى تمنّت أمى بعد سنوات من العمل به أن تعمل به بدوام كامل، عادة ما تذهب أمى للبيت الكبير يومين فى الأسبوع للقيام بالأعمال الثقيلة، كغسل الحيطان وتنظيف الأرضيات والسجاد، أسرّّت أمى برغبتها للمُشرفة على البيت، لكن الهانم الكبيرة رفضت، ونقلت عنها الخادمة المقيمة أن لديها ملاحظات كثيرة عليها، فهى ليست خادمة «مأصَّلة»، خادمات هذا الزمن غير مؤهلات للخدمة، الحاجَة المادية هى ما دفعتهن للعمل فى البيوت، الخادمة الآن تخجل من مهنة الخدمة، لم تعد لديهن خبرات اكتسبنها من بيوت كبيرة، كل واحدة تأتى وفى أول مقابلة تقول: أنا أصلًا مش شغالة، لكن الظروف جبرتنى على كده. من اللحظة الأولى تضع نفسها من حيث لا تدرى فى مكانة أقل، هى نفسها تنظر لمهنتها باحتقار وعدم كرامة.
هذه الهانم الكبيرة التى لا ترى الشمس إلا من خلف ستائر حجرتها والتى يوحى بياضها بأنها تستحم باللبن، تتحدث عن كرامة الخدمة والخادمات.. عن أى كرامة تتحدث عنها؟ هذه التى لم تسمع «تعيير» الناس لمن تخدم فى البيوت.. وكيف تصبح متاحة للمعاكسات والتحرش فى الشارع أكثر من واحدة أخرى، تصبح متاحة، لأنه حتمًا هناك «بيه» صغير أو كبير يتحرش بها.. عند أول خناقة فى الشارع، تندلق المعايرة: «على إيه يا أختى، ده أنت حتة خدامة».
خدّامة وليست شغالة، كما تقول الهانم الكبيرة، أو مُساعِدة كما تطلق عليها ابنتاها، تعبيرًا عن تمدنهما، لكن الحفيدة تعيد الأمور لنصابها وتسمى الأسماء بأسمائها.. كلنا نعرف أننا وأهلنا نخدم فى البيوت، ونعرف عناوين المناطق التى نعمل بها، لكننا ندعى أننا نعمل فى محلات الملابس فى وسط البلد، الزمالك وجاردن سيتى والمنيل كلها وسط البلد الذى نخدم فيه.
وكما رفضت الهانم الكبيرة أن تعمل أمى بدوام كامل، رفضت أن أعمل لديهم، فتعطفت ابنتها الصغرى، وقالت لأمى: هاتيها فى الجيم، أنا محتاجة عامِلة، والمرتب واحد.
الجيم.. ماذا يفرق عن الكوافير، الهانم الكبيرة غضبت وكادت تطرد أمى من بيتها لأنها أخطأت، وقالت لها «يا مدام»، فصاحت فى الخادمة الكبيرة: اطرديها، لا أريد أن أرى وجهها، مدام!! هل تعتقد أنها تعمل فى كوافير.
ليس الجيم مجرد منتجع صحى، أو مكان لأداء التمرينات الرياضية.. إنه عالم يتوه من يدخله فى تفاصيله، فى دور أرضى كامل مساحته ألف متر، يقع «السنتر» الذى يضم الجيم، وكافيه ومكتبة، وقاعتى الندوات والمحاضرات، الجيم للسيدات فقط، أما بقية السنتر فللجميع، حتى الأطفال الصغار الذين يأتون بصحبة والدتهم، لم تنس إدارة الجيم تخصيص منطقة ألعاب لهم فى الحديقة التى تحيط «السنتر» وحولها سور من الأشجار والنباتات المتسلقة، يشغل «السنتر» دورين وفى الدور الثالث تسكن العائلة مالكة الجيم فى جزء من الألف متر، والباقى رووف.
تقول أمى إن هذا «الجيم» تأسس حديثًا منذ عشرة أعوام فقط، عندما عادت ابنة سيادة اللواء الكبرى من مدينة بورسعيد مُطلّقة ومعها طفلة. قبل ذلك كانت الفيلا تقطنها عائلة واحدة، البيه والهانم، وابنتاهما.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون