زمن المعارك والسقطات الكبرى: 1117 كورنيش النيل

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 140
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسن عبد الموجود

لتحميل الملف بصيغة pdf اضغط هنا

قبل الإيميل أو حتى الفاكس لم يكن أمام الكتّاب سوى لصق «طابع بريد» على خطابات تحمل قصائدهم وقصصهم وفصول رواياتهم إلى عناوين مجلاتهم، ومنها تلك المجلات المهمة التي تضمها شقّتان، آنذاك، في الطابق الأول من (1117 كورنيش النيل القاهرة)، ربما كانوا يرسلون موادهم إلى مجلة «الكاتب» ورئيس تحريرها أحمد عباس صالح، قبل أن يزيحه منها وزير الثقافة يوسف السباعي ويضع بدلاً منه صديقه صلاح عبدالصبور. ربما إلى الدكتور عبدالقادر القط أول رئيس تحرير لمجلة «الشعر»، ربما إلى رشاد رشدي رئيس تحرير مجلة «الجديد» والتابع المخلص للسباعي، ربما إلى عبدالرحمن فهمي رئيس تحرير مجلة «القاهرة»، ربما إلى رئيس تحريرها التالي الدكتور إبراهيم حمادة، وربما في زمن أحدث إلى الدكتور غالي شكري، ربما إلى رؤساء تحرير مجلة «المجلة» المتعاقبين، وليس من بينهم طبعاً الدكتور علي الراعي أو يحيى حقي إذ كان مقر المجلة في عهدهما في وسط البلد.

لا زال المكان حتى الآن يحتفظ بنفس طابعه القديم البسيط، لكنّ كثيراً من المجلات التي كانت في الصدارة اختفت. تعاقب عليها رؤساء تحرير وأنصاف رؤساء تحرير وأقزام. ومع الاضمحلال ذهبت إلى النسيان، لكن الذاكرة لا تنسى من شيّدوا الثقافة، أو من هدموها، وقد حاول بعض رؤساء هيئة الكتاب أن يعيدوا تلك المجلات إلى الحياة، لكنهم لم يخططوا للأمور، وبالتالي كانت المجلات تستيقظ لفترة قصيرة وسرعان ما تعود إلى نومها الأبدي. 

موقع الكتابة الثقافي ملف المجلات 01
لم يبق سوى باب واحد

 لم يكن الموت مصير كل المجلات. بعضها استمر في الصدور بدون هدف، أو لملء الفراغ، وقد فقد معظمها أهميته بفقدانها الانتظام في الصدور (ضمن أسباب أخرى)، وقد تحوّلت المجلات الشهرية في أفضل الأحوال إلى فصلية وفي بعض الحالات إلى سنوية. ظل العنوان (1117 كورنيش النيل) موجوداً، لكنه فقد أهميته تقريباً، فلم يعد ذلك المكان وجهة للمثقفين، لم يعد المكان الذي تُدار منه المعارك بين اليمين واليسار، وبين المدارس الأدبية المختلفة، كما كان يجري في زمن المعارك الكبرى، زمن السبعينات، لم يعد المكان حتى وجهة لرؤساء تحرير المجلات أنفسهم.

كانت هناك بعض الأسماء الدوّارة إن جاز التعبير، وفي خلال حقبتين أو ثلاث، تنقّل معظم رؤساء التحرير من مجلة إلى أخرى، رشاد رشدي بدأ بـ«المسرح» ثم اخترعوا له «الجديد». عبدالقادر القط كان أحد الخوارق، فمن «الشعر» إلى «المسرح» إلى «المجلة» إلى «إبداع». صلاح عبدالصبور كان موجوداً في معظم ترويسات المجلات، لكنه كبر وأصبح رئيساً للتحرير، رئيساً لتحرير «الشعر» عدداً واحداً، ثم «المسرح» ثم «الكاتب»، وهكذا..

لم يكن كل رؤساء التحرير على وفاق، كان بعضهم أصدقاء شخصيين ليوسف السباعي. مثل رشاد رشدي وصلاح عبدالصبور، وبعضهم كانوا أعداء لدودين له مثل أحمد عباس صالح، والذي أصبحت أيامه معدودة في مجلة «الكاتب» بعد مجيء السباعي نفسه وزيراً للثقافة. كان أحمد عباس من ألمع أسماء اليسار، وبالتالي لم يتحمّل الوزير وجوده في مجلة تصدرها إحدى هيئاته، لكن المؤكد أن هناك زمناً ما كان كل هؤلاء يذهبون فيه إلى مكاتبهم في (1117 كورنيش النيل) وكان رشاد رشدي بالطبع هو عمدة الدار، إذ خصّصوا له أكبر غرفة هناك، بينما انزوى أحمد عباس صالح ومعه أعضاء هيئة تحرير «الكاتب» لمدة شهور  في غرفة صغيرة تشبه زنزانة الحبس الانفرادي، لكنه غادرها بعد شهور، ليجلس على كرسيه صلاح عبدالصبور، استطاع الوزير يوسف السباعي أن «يطهّر» الوزارة من اليسار بحسب خطته. 

ولو عدتم بالزمن إلى بداية السبعينات، سيكون المشهد مثيراً للحماسة، إذ بدأت واحدة من أشرس معارك القرن. يوسف السباعي ركل أحمد عباس صالح خارج «الكاتب» لكنه لم يستسلم، واستجار بأصدقائه في مجلة «الطليعة» اليسارية، فاستحدثوا ملحقاً لـ«الكاتب» بهيئة تحريرها القديمة، وبالتالي أصبحت هناك نسختان من المجلة، واحدة يرأس تحريرها صلاح عبدالصبور، وقد أطلق عليها اليساريون بسخرية اسم «الكاتب الأميرية»، والثانية مجرد ملحق صغير في «الطليعة» برئاسة تحرير أحمد عباس صالح.

أشعل يوسف السباعي النار باستمتاع بالغ، وبدأب استمده من قناعته بخطر اليساريين على الثقافة «الوطنية»! بينما لم يصمت اليساريون واستخدموا كل أسلحتهم في فضح الوزير وجوقته، وقد أعد إبراهيم منصور ملفاً في مجلة «الآداب» التي تصدر من بيروت رصد فيه المعركة كأنه مراسل حربي يعيش مناخ الحرب وقد نجا من كل الطلقات والدانات والألغام لينقل إلينا تلك الأجواء المشحونة، التي قلل فيها كل طرف من الآخر، واحتقره بسيل من الشتائم، حتى نفد معجم الشتائم تقريباً. 

وبالطبع وبما أن صلاح عبدالصبور قبِل رئاسة تحرير «الكاتب» فقد تحوّل إلى خائن بالنسبة لليسار. كانت كلمة اليسار مسموعة في ذلك التوقيت، وحظى بتعاطف كثير من الكتّاب، لكن صلاح عبدالصبور لم يلتفت غالباً إلى ما يجري، وترك المعركة السياسية مشتعلة في الجانب الآخر من الضفة، لينشغل بمعركته هو، إذ واجه قطيعة من المثقفين، أو معظمهم، وبالتالي كانت المادة شحيحة في أدراجه، وكان عليه أن يذهب باتجاه الشباب، فليست المعركة معركتهم، وقد وجد هدفه في الأسماء التي شكّلت جيل السبعينات، ونجح في ربطهم بـ«الكاتب» وفتح لهم صفحاتها فاشتبكوا بنزق في البداية، كما فعل حسن طلب في تعليقه على ملف كتبه زملاء يصغرونه بأعوام قليلة للغاية مثل حلمي سالم وجمال القصاص، كما ترك عبدالصبور المجال لجابر عصفور الذي كان في نفس سنّهم تقريباً ليلبس ثوب الأستاذية مقللاً من شأن جميع الشعراء المصريين. كان صلاح عبدالصبور ذكياً، ترك الحرب السياسية تشتعل بعيداً عنه وصنع حربه الخاصة على صفحات «الكاتب»، لكنهم بالطبع لم يتركوه في حاله.

قصة ذلك الصراع تكشف كيف كانت الدولة تنظر إلى الثقافة وقتها، ثقافة «الاستمتاع» التي ترفض «جهامة» اليسار، وذلك الكلام الكبير الذي يردده أفراده ويكتبونه في مقالاتهم. كان السباعي يسعى لتأسيس امبراطوريته متخلصاً من كل المختلفين معه في النظر للثقافة، وكانت الحرب على أشدها. الوزير يتحدث في حوارات صحفية وكتّاب اليسار المتألمون لموقفه من «الكاتب» يسخرون منه. أحمد عباس صالح ومعه صلاح عيسى ورجاء النقاش وآخرون يظهرون كثيراً في موقف المدافعين، وكرد فعل على اتهامات كتبة الوزير وعلى رأسهم إبراهيم الورداني، لكنهم سرعان ما يحتلون مواقع الهجوم. سنتعرض بالتفصيل لهذه المعركة، وبالتالي لن نغفل أحد جوانبها، وربما سيتعيّن علينا أن نعرّج إلى بعض الحارات الجانبية، فالحرب طالت الجميع حتى من اختبأوا خلف سواتر. كل واحد انشغل بمعركته، وكل واحد استعان بأصدقائه، رشاد رشدي سلط مجلته «الجديد» للنيل من أعداء صديقه السباعي، وكذلك فعل عبدالصبور وإن كان بشكل أكثر ذكاء، كما بدا أنه ينحو بالمجلة إلى الأدب، بعد أن استثمرها اليسار في الصراع السياسي، لكن المعركة لم تهدأ واستمرت حتى التسعينات، كانت هناك رواسب، ولم ينس المشاركون في الحرب حقوقهم وحقوق أصدقائهم وجيرانهم، وإذا كان فاروق عبدالقادر على سبيل المثال قد لاحق رشاد رشدي حياً فقد لاحقه ميتاً كذلك، منكلاً به أسوأ تنكيل، لدرجة جعلته يخلط بين النقد وبين النميمة التي تخطّت رشاد إلى زوجته لطيفة الزيات.

سنبدأ من «الكاتب» حيث بداية الحرب بين الطرفين، وسننتهي بتلك المجلات الضعيفة التي قتلها رؤساء الهيئة المتعاقبون، سنبدأ من خطة السباعي لوأد أي صوت مختلف، وسنرى كم احتاج من وقت لينجح في تسييد الصوت الواحد. سنبدأ من الحرب لكننا لن ننسى هؤلاء الشهود الذين قد يعتذرون عن خطايا ارتكبوها. سنعود إلى الماضي لنفهم تلك الحسابات التي كانت مجرد «نميمة مثقفين» في الحاضر، مثل الصراع بين صلاح عبدالصبور وعفيفي مطر، سنعود إلى الماضي لنحاول أن نفهم على أي مسافة – بالضبط – نقف الآن من 1117 كورنيش النيل؟   

موقع الكتابة الثقافي ملف المجلات 03

حرب بين أخويتيْن

في عدد نوفمبر 1974 أعلنت مجلة «الكاتب الأميرية» التي تُصدرها وزارة الثقافة أنها ستواصل مسيرتها التقدّمية برئاسة تحرير الشاعر صلاح عبدالصبور، الموظف بالهيئة العامة للكتاب. كان صلاح عبدالصبور اسماً لا غبار عليه بالنسبة لغالبية المثقفين، واختياراً ذكياً من وزير الثقافة، يوسف السباعي، المعروف بكراهيته لليسار، فقد راهن على إسكات المعارضين به، بعد معركة طويلة، بين كتّاب اليسار، وفي مقدمتهم رئيس تحرير المجلة المستبعد أحمد عباس صالح، وبين اليمين الذي يقوده السباعي.

كان صلاح عبدالصبور أشبه بلاعب احتياطي حرّيف، توقّع السباعي ألا تعترض الجماهير على نزوله بدلاً من نجم الفريق، لكن الدنيا قامت ولم تقعد حرفياً، بل إن المعركة ازدادت ضراوة، ولم يعد مفهوماً فيها ما السياسي، وما الثقافي، وما الفني، وأُطلقت نيران الاتهامات بالعمالة والتخوين من جانب اليمين، بينما كان اليساريون يحاولون إثبات تحضّرهم من خلال المقدمات البرّاقة لمقالاتهم وردودهم على ما يثيره الوزير وجوقته في مجلّاتهم، أو مجلات الدولة التي تعاملوا معها كأنها ملكية خاصة، غير أن كتّاب اليسار، كذلك، ارتكبوا خطيئة التشنيع، والحطّ من قدر الأفراد في معسكر اليمين، إذ أن أقل ما كانوا يوصمونهم به هو الجهل والانحطاط والسفه، وبالتالي تحوّلت الأمور إلى حرب بين أخويّتيْن.

كما أن هذه اللحظة، لحظة قبول صلاح عبدالصبور بالمهمّة، شكّلت بداية خسارة كبيرة له، وانتهت – مع الأسف الشديد – بقصة رحيله في ليلة شديدة الحرارة من أيام أغسطس 1981، بعد جملة بهجت عثمان: «انت بعت رخيص يا صلاح»، وأياً كان ما جرى في تلك الليلة، وهذا ما لا ينشغل به التحقيق، فقد جرى بعد استضافته إسرائيل في معرض الكتاب. كان رئيس الهيئة الوحيد الذي قبِل بذلك، فلا رئيس قبله، ولا رئيس بعده، جرؤ على مخالفة الإجماع الشعبي على المقاطعة، كان عبدالصبور على ما يبدو يحاول النأي بنفسه عن الصراع السياسي، متخفياً خلف أقنعة لكن هناك دائماً بعض الزلات، كما وجد من يجرّه – بالرغم عنه – إلى هذا الصراع، كان عبدالصبور في بداياته – ربما – ساخطاً على الزعيم جمال عبدالناصر، وقد كتب قصيدته «عودة ذي الوجه الكئيب» في مايو عام 54، بعد الإطاحة بمحمد نجيب أي بعد عامين من ثورة يوليو، وهناك من قال إن العنوان الساخر الحاد يستهدف ناصر، وقد أصدر ديوانه «الناس في بلادي» عام 57 عن دار «الآداب» متضمناً تلك القصيدة، وكان اليمين يرى في تلك الدار ومجلتها محرّضاً على الأوضاع المصرية، رغم انتصارها لثورة يوليو في الخمسينات،  وبالتالي بدأ الكلام يتردد مرة أخرى عن تجنّي عبدالصبور على الزعيم وسخريته منه، لكن يبدو أنه – بعد أن صار واحداً من أشد المؤمنين بالناصرية – حذف القصيدة بنفسه من الطبعة الثانية التي أصدرتها دار «المعرفة» المصرية 1962 بمقدمة بدر الديب نفسها.

وقد نسى اليساريون صداقتهم لعبدالصبور، إذ بات كل طرف يبحث عن مصلحته، وقد كان عبد الصبور، يعلم بالتأكيد، أن النار ستشتعل، لكنه لم يعلم أنها لن تخبو لفترة طويلة. لقد حوّل عبدالصبور «الكاتب» إلى مجلة تنشغل بالأدب، ولجأ إلى زيادة مساحة النصوص، وقد كانت في عهد أحمد عباس صالح منبراً للفكر، ونافذة على ما يجري في العالم  الذي يتّسع باطّراد، كانت مجلة تسمح بتنوع الآراء، وبتفنيد وجهات النظر الأخرى، وكانت القضية في ظاهرها سياسية بين كتلتي اليمين واليسار، لكن الأمر تحول إلى معركة ثقافية بين الوزير واليسار، وكان لكل طرف وجهة نظره، وقد حاول السباعي أن يبدو مهذباً وراقياً في إطلالاته، وصاحب أفكار وطموحات، لكنه أطلق تابعيه مثل إبراهيم الورداني، في الصحف والمجلات ومنها «الثقافة» التي رأس الوزير نفسه تحريرها، و«الجديد» التي رأس تحريرها رشاد رشدي، ثم إنهم لم يتركوا منبراً حتى علّقوا فيه. كانوا يظهرون بمشاعلهم، ثم يلقونها في وجوه معارضيهم، وقد أشاعوا أن الثقافة لا تهمّ اليساريين في شيء، وأنهم يبحثون عن إشاعة الفوضى، ويكرهون الوطن، واستخدموا في معركتهم أقذع الألفاظ وأحطّ الشتائم، وانتهى الأمر إلى إلحاق الضرر بالكتّاب فعلاً، حيث زُج بمعظمهم – خلال أوقات لاحقة – في المعتقلات.

موقع الكتابة الثقافي ملف المجلات 04

 الطليعة تعلن استضافة الكاتب برئاسة تحرير أحمد عباس صالح

إلى هيئة تحرير «الكاتب» القديمة: تعالوا إلى بيتكم في «الطليعة»

بالتوازي مع إصدار العدد الأول من «الكاتب الأميرية» تحت رئاسة تحرير عبدالصبور أظهر اليساريون تضامناً كبيراً مع هيئة تحرير المجلة السابقة، فاستضافتها «الطليعة» التي تعرّف نفسها بـ«طريق المناضلين إلى الفكر الثوري المعاصر» في عدد ديسمبر 1974، واستحدثت ملحقاً لها باسم «الكاتب» بديلاً للمجلة التي استولت عليها وزارة الثقافة، وبالصدفة كان عدداً مميزاً إذ احتفلت «الطليعة» خلاله بإتمام عشر سنوات على صدورها، وحوّل رئيس تحريرها لطفي الخولي مقاله الافتتاحي إلى رسالة طويلة لتوفيق الحكيم، أثنى فيها عليه ثناء بالغاً، لكن هدف الرسالة كان كما قال الخولي توضيح أن: «اليمين المتخلّف الذي طفح على جلد الأمة، بجهله النشيط، ورعونته العمياء، يحاول اليوم أن يصنع من كتابك (عودة الوعي) وما تضمّنه من انطباعات سريعة ورؤية ذاتية لبعض السلبيات في تجربة العشرين عاماً الماضية مدفعاً ثقيل العيار ضد حركة التقدم»، وكذلك أشار الخولي إلى تخوّف الحكيم – في رسالة وجّهها إلى اليسار عبر «روز اليوسف» – أن يُوقِع ذلك اليسار نفسه – بانتقاده الدائم إنجازات ناصر – في موقف رجعي، راجياً منه أن يستجيب ويرد على رسالته.

واستجاب الحكيم قائلاً في رسالة موجزة إن أهم قضية يمكن أن تُطرح اليوم هي «مستقبل الاشتراكية في مصر»، و«قد تصل بنا الآمال إلى حد التطلّع إلى توحيد اليسار المصري بمختلف اتجاهاته الشاردة وتكتلاته المتباعدة»، و«قد يُدهش كثيرون لهذه الاهتمامات من شيخ في أواخر مراحل العمر، وقد يتساءلون: ماذا جرى له اليوم؟ فهم لا يعرفون عنّي سوى الفنان ذي البيريه والعصا، وتلك الصور والحكايات التي يصطنعها الناس عادة للفنانين»، لكنه يخاطب الخولي قائلاً: «وربما كنت أنت الوحيد بين الاشتراكيين الحقيقيين الذي لن يُدهش، ربما لأنك أنت نفسك فنان، ثم إنك أنت أيضاً بدأت حياتك في القانون، وهي سمات وظروف مماثلة لسماتي وظروفي»، ثم تنشر المجلة مقال الحكيم المرفق برسالته تحت عنوان «اشتراكيتي»، وهذا المقال يُشكّل وثيقة صالحة للتطبيق في أي زمان، وهو يقول بوضوح إنه ليس شيوعياً لكنه يريد أن «تتحقق في بلادي ثلاثة أشياء»، الأول: «أن يكون كل ولد يولد، وكل مواطن يوجد، ملكاً لنفسه وملكاً للوطن في آن، كما أن الخلية في الجسم ملك لنفسها وملك للجسم، فالوطن مسؤول عن الصحة الجثمانية والذهنية لكل مولود وموجود، فالتطبيب بالمجان والتعليم بالمجان، إن لم يتحقق هذا فلا قيمة لوجود الوطن»، والثاني: «أن تمتد يد الضرائب التصاعدية بقوة إلى رقاص ساعة العيش، فلا يتطرف من نهاية الثراء إلى نهاية الفقر، ليهدأ في الوضع المقبول الذي يقارب ويجانس بين أبناء الوطن»، والثالث: «أن لا نطالب الآن بالقضاء التام على الرأسمالية، ولا أن نتركها تمرح وحدها في ثمرة الاستغلال، ولكن نجعل في رأيي للعمل شعاراً يواجه به رأس المال: استغلني وأشركني في الربح».

وقد تطور الأمر إلى حوار شهري مع الحكيم، واستمر لمدة تسعة شهور، وجمع الخولي أقطاب اليسار من طراز لطيفة الزيات وعبدالعظيم أنيس وشهد الحوار انعاطفات حادة، حيث نوقشت فيه تجربة الثورة وتطوّراتها والميثاق الوطني الصادر عام 61 والتنظيمات التي أنشأتها الثورة ابتداء من الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي، إلى التنظيم الطليعي، وكان توفيق الحكيم يتحدث على راحته، وقد جمع الخولي المادة وأصدرها في كتاب «ملف المثقفين عن ثورة يوليو.. حوار مع توفيق الحكيم» عن دار «القضايا» في بيروت.

وفي هذا العدد من «الطليعة» عرض ملحق «الكاتب» الشبيه بشرفة صغيرة رسالة مفتوحة من ثلاثة أصوات شعرية جديدة، محمد يوسف، ومحمد محمد الشهاوي، وحسن النجار، لم يخل عنوانها من السخرية: «إلى الشاعر صلاح عبدالصبور رئيس تحرير مجلة الكاتب الأميرية التي تواصل مسيرتها التقدمية»، وكانت الرسالة تنطوي على اتهام عبدالصبور بخيانة الأمانة، وإن لم يُطرح الاتهام بشكل مباشر، وسنفهم من خلال مقدمة الملحق أن عبدالصبور لم يجد مادة حينما قبِل رئاسة تحرير «الكاتب» واضطر بالتالي إلى أن يمد يده في الأدراج القديمة، مستعيناً ببعض قصائد كانت قد وصلته أثناء رئاسته لتحرير «الشعر»، (وهذه المجلة صدرت برئاسة تحرير عبدالقادر القط عام ١٩٦٤ وقد شارك في الإشراف على تحريرها ابتداء من فبراير ١٩٦٥ الشاعر محمود حسن إسماعيل، وتوقفت لعدة سنوات، حتى صدرت برئاسة تحرير عبدالصبور، ولم يصدر منها في عهده سوى عدد واحد ربيع ١٩٧٢، وتوقفت لأسباب لم يُعلن عنها، وكان صاحب «أقول لكم» يصرح للمحيطين به أن العواصف قامت عليه دون أن يحدد المقصود بالضبط ولا من يقف خلف إطلاق هذه العواصف، ثم عادت المجلة في أوقات أخرى، برئاسة تحرير محمد عبده بدوي ثم فتحي سعيد، ثم خيري شلبي رغم أنه كاتب روائي، ثم أحمد هريدي، وأخيراً فارس خضر) وبالتالي وجد الشعراء الثلاثة – المنشورة قصائدهم مع ثلاثة آخرين – أنفسهم في مأزق، يقترب من حدود الخيانة، فقد كان هناك ما يشبه الإجماع – في ذلك التوقيت – على مقاطعة المجلة باعتبار أن الوزير يعادي الثقافة الطليعية، ويستخدم نفوذه لإقصاء من لا يأتمرون بأوامره، ولا يدينون لوجهة نظره التي ترى أن «الثقافة ترفيه وتسلية»، وكان تقديم «الكاتب» للرسالة حريصاً على إظهار انسحاب أسرة التحرير «مسجلة على الوزارة خنقها للحقوق الديمقراطية للمثقفين التقدميين واليساريين والوطنيين في مصر، الأمر الذي ساندها فيه كل الكتّاب والمثقفين الجادين الذين يرون أن الكاتب والشاعر ليس بائع كلمات يعرضها على أي منبر، وفي أي ظروف، دون اعتبار لمن يساندهم بما يفعله، ومن يروج لعملهم بما ينشط في سبيله. من هنا قاطع كل المثقفين الحقيقيين من أجيال مختلفة ومدارس مختلفة الكاتب الأميرية حرصاً على التقاليد الديمقراطية وإرساء لها»، كما قالت هيئة التحرير إن أعضاءها كانوا قد اندهشوا بسبب إقدام ثلاثة شعراء على نشر قصائدهم بالمجلة المختطفة، لكن هذه الدهشة سرعان ما زالت عندما أرسلوا هذه الرسالة. 

موقع الكتابة الثقافي ملف المجلات 05
رسالة شديدة اللهجة من الشعراء الشباب إلى صلاح عبد الصبور

إلى السيد صلاح عبدالصبور:

لسنا في حاجة إلى رضاك ونطالبك بالغضب علينا

بماذا يمكن وصف تلك الرسالة؟ ربما.. قوية وواضحة ومؤلمة.

«السيد صلاح عبدالصبور: لم نفاجأ بالسقطة التي هويت فيها بقبولك رئاسة تحرير مجلة الكاتب الأميرية، مشكّلاً عنصراً من عناصر الضعف في موقفها الدفاعي خلال معركة الديمقراطية التي تخوضها فصائل الشرفاء ضد أعداء الثقافة والمستقبل، لم نفاجأ ولم نُفجع فيك، فقد وقفت نفس الموقف في كل تاريخك ومواقعك التي حاربت وحاصرت من خلالها كل ما يزدهر في مصر ويتفتح، لتبقى الأكذوبة الشعرية التي تمثلها رائجة ومطلقة في الساحة تلتهم كل بشائر الحساسية الجديدة وتسد الطريق أمام جيل كامل باصطفافك ورعايتك للمواهب الهزيلة، وما حدث في العدد الأخير من مجلة الكاتب الأميرية تجسيد لكل المواقف المبتذلة».

وتقول الرسالة بنفس اللهجة الحادة إن «حديثك الغثّ عن المواهب والأصوات الشعرية الجديدة ومحاولات الاستقطاب والتظاهر بالتعاطف الزائف مع شعراء أنت أحد قاتليهم يدفعنا لتوضيح المسألة للقراء، حتى لا يظنوا أننا يمكن أن نسقط إلى هذا الحد في أوحال المواقف اللاديمقراطية والانتهازية العارية من الشرف. أولاً: إننا نرفض تقديمك لنا بهذه الصورة اللاأخلاقية لتعلن على الملأ رضاك عنا. إننا لا نطالبك بالرضا، فلسنا في حاجة إلى رضاك، بل نطالبك بالغضب علينا. ثانياً: إننا نرفض تحقيق أي مكسب مهما كان عن طريق الوقوف ضد الديمقراطية، وحرية الرأي تلك التي تتباكى على موتها وبيدك خنجرك المسموم الذي يتوغل في قلبها».

ثم تبدأ الرسالة في ذكر ما تصفه بـ«القصة المضحكة وراء نشر هذه القصائد»: «بالنسبة لقصيدة الشاعر محمد يوسف (بانتومايم) فإنها كانت في حوزة سكرتير مكتبك السابق حسن توفيق من عام 1971 لتُنشر بمجلة الشعر، أما قصيدة الشاعر محمد محمد الشهاوي (معزوفة متداخلة على شطآن السقوط) فقد أُعطيت لك – هي الأخرى – ضمن مجموعة من قصائده لتُنشر في مجلة الشعر أيضاً، وبالنسبة لقصيدة الشاعر حسن النجار (المدخل إلى التراجيديا الريفية) فقد أرسلها قبل عام 1970 لتُنشر بمجلة (الكاتب) قبل أن تُجهض، وبناء عليه فإن نشر هذه الأعمال الشعرية في هذه الفترة يمثل اغتصاباً مبتذلاً لهذه الأصوات التي ترفض التعامل بهذا الأسلوب، واستيلاء غير مشروع على إبداع، هو في الحقيقة فوق مستوى الكلام والمهاترات التي وردت في تعليقكم، الذي يتظاهر بالتعاطف الزائف، والذي هو استمرار لسياسة القتل لحساسية شعرية تتجاوز مقدرتكم على استقطابها أو محاولتكم لتشويهها وطمس ملامحها»، وإمعاناً في التنكيل بصلاح عبدالصبور اختارت «الكاتب» مقطعين له، واحد من قصيدة وآخر من مسرحية، وكأنه يصف نفسه بهما، تحت عنوان «يا للإنسان الورقة»، وكان المقطع الأول من ديوان «أحلام الفارس القديم» 1964: «قد كنتُ فيما فات من أيام، يا فتنتي محارباً صلباً وفارساً همام، من قبل أن تدوس في فؤادي الأقدام، من قبل أن تجلدني الشموس والصقيع، كي تذل كبريائي الرفيع»، ثم المقطع الثاني وهو سطر واحد من مسرحيته الشعرية «ليلى والمجنون» 1970: «في شهرين سقطت.. يا للإنسان الورقة».

صلاح عبدالصبور:        

محمد محمد الشهاوي اشتكى لي من علّة جسدية ونفسية

ولم يرد عبدالصبور على هذه الرسالة، مع أن تقديمه لأصحابها على صفحتين كاملتين 80 و81 في عدد نوفمبر 1974 من «الكاتب الأميرية» احتوى على حقائق يمكن البناء عليها، ومنها ما كتبه عن محمد محمد الشهاوي، حيث وصفه بـ«صوت لشاعر لقيته ولقيني في تلك الآونة»، مضيفاً: «أودعني كراسة شعره، وكنت قد قرأت له بعضه في المجلة المذكورة بحسن الأثر وطيب الصيت (سنابل) وكنت قد أُعجبت بهذا الصوت الجديد، رغم تأثره بشاعر من شعرائنا المعروفين هو الشاعر محمد عفيفي مطر في تماسكه ومقدرته على بناء القصيدة، وما أظن ذلك القول يُغضب عفيفي مطر، فإني أعرف أن الآباء يحبّون لأبنائهم أكثر مما يحبون لأنفسهم»، ويبدو أن الشهاوي وجد في عبدالصبور صاحب مشاعر دافئة شجعته على أن يبثّه همومه وأوجاعه، فصاحب «مأساة الحلاج» قال إن من يقصده هو «محمد محمد الشهاوي من كفر الشيخ»، ثم «لا أدري ما شأنه الآن، ولكني أرجو أن يكون خيراً كله، وأن يكون صحيح الجسم والنفس، فقد اشتكى لي في ذلك الوقت علّة بهما معاً»، كما مضى عبدالصبور في تقديمه للأصوات الجديدة وظروف حصوله على قصائدهم، متطرقاً إلى الشاعر حسن النجار: «كان ذلك الوقت مقاتلاً، وهو الآن يعمل بوزارة الصحة في طنطا، ويرجو أن يُنقل إلى جهة ثقافية بالقاهرة، ويتخذ منها منبراً لصوته، وإني لأحسّ في حسن النجار شيئاً مني، وأرجو أن يكون قد تجاوزني منذ ذلك الحين»، ثم كانت المفاجأة في الصوت الثالث، الذي لم يوقّع مع الموقّعين على رسالة «الطليعة»، إنه الشاعر رفعت سلام: «وقصيدته التي أوردها هنا تتحدث عن تجربة حب عصرية، حيث ينمو في وجه القهر، وقد كُتبت هذه القصيدة قبل هبوب رياح الحرية على بلدنا الحبيب»، ثم كان الصوت الرابع لحلمي سالم: «وفيه نبرة رومانتيكية عذبة، ما أسعده وأغناه بها إذا استطاع أن يحفظها على نفسه، وأن يمنحها عمقاً وأصالة باختبارات حياته وصورها»، ثم كان الصوت الخامس للشاعر حسام الدين الفوّال، الذي يقول عبدالصبور عن قصيدته إنه استمتع برقّتها، وأخيراً الصوت السادس للشاعر محمد يوسف: «وهو صوت كنت أعرف صاحبه، وأراه بين حين وآخر.. كان فيما أذكر طالباً مخضرماً في إحدى كليات الجامعة، وطامحاً للسفر إلى بلاد الله، ولعل الله أسكنه من بلاده حيث يحب».

موقع الكتابة الثقافي ملف المجلات 06
 عفيفي مطر

نجيب سرور: الشاعر الذي يسير «مائل الرأس» اسمه عفيفي مطر 

وهناك إشارة لازمة قبل إكمال قصتنا الرئيسية، ففي كلام عبدالصبور عن عفيفي مطر، يبدو الأول متحسباً من غضب الثاني لمجرد قوله عن شاعر شاب إنه تأثر بأسلوبه في بناء القصيدة، فيحاول أن يغلق أمامه طريق الغضب. هذه الحساسية المفرطة في تعامل عبد الصبور مع مطر تكشف عن صراع مكتوم بين الشاعرين الكبيرين، تناقل تفاصيله أصدقاؤهما المقربون جيلاً بعد جيل حتى وصلت إلينا، وكان من بين فصوله أن لاحق نجيب سرور – صديق عبدالصبور المقرّب – عفيفي مطر كالكابوس، فكتب عنه سلسلة مقالات لاذعة، في مجلة «الكاتب» استمرت على مدار أربعة أعداد، أولها كان في العدد 207، وقد ركز سرور في هذه المقالات القاسية على تخفي عفيفي مطر وراء المعاني غير المفهومة، إذ كان، بحسب ما ذهب إليه، يهرب من الواقع إلى الشعر، وفي الشعر المغلق، الصعب، لا تستطيع أن تستنبط موقفاً، أو رسالة، وحتى وإن استنبطت، كما استبط نجيب سرور نفسه، فإنك ستحكم عليه بأنه «مدّعي بطولات» و«مدعي فروسية» و«مدعي نضال». يكتب نجيب سرور في الحلقة الثانية، المنشورة في العدد 208، أغسطس 1978 عن قصيدة مطر «شهادة الضحك في زمن البكاء» قائلاً إن «القصيدة المذكور عنوانها على رأس هذه الفقرة هي خطوة انحدار أخرى نحو الهاوية التي لا قرار لها، فالشاعر في الواقع سيصادر فيها على المصير وعلى الشعر وعلى كل شيء لحساب أشياء أخرى تماماً، حريصاً في نفس الوقت على الاحتفاظ بأقنعة التمرد والرفض والغضب والثورة والفروسية كوسائل للتغطية والتمرير، الأمر الذي يحتّم على القارئ أن يكون غاية في التيقظ والحذر، وخصوصاً أمام الكلمات الحارة، أو المفرقعات التمويهية من الكلمات والإيقاعات والفواصل»، ثم يضرب نموذجاً بجزء من القصيدة يبدأ بـ«الشاعر الذي يسير مائل الرأس محاذراً في الطرق المشبوهة، يقتات من جهامة الصوت» معقباً: «إن الشاعر الذي يسير (مائل الرأس) هنا هو عفيفي مطر نفسه، الذي نكّس رأسه أمام الأمر الواقع، وأمام الظروف، ولاذ بالشعر»، ثم يمنحنا نموذجاً ثانياً من القصيدة يبدأ بـ«حاكمني الصباح والمساء» ليصل إلى أن «الشاعر الذي يضيق بالمحاكمة هو الشاعر الذي لا يشعر بالمسؤولية، أو الذي تخلى عن المسؤولية أو يحب التخلي عنها، أما الشاعر الذي يتحمل المسؤولية فلا يسير (مائل الرأس) محاذراً في الطرق المشبوهة»، كما أنه يصوّر عفيفي على أنه «يدّعي في نفس الوقت أنه جرؤ بفروسية وبطولية زائفة ومعكوسة على أن يدخل الأبواب المحرمة»، ويضرب مثالاً بهذين السطرين الشعريين: «كيف جرؤت في هذه اللحظة أن تمر عبر بابنا المحرم، لا أنت من طينتنا ولا على ثوبك شارة الدخول» معقباً من جديد: «ولكن الدخول من الأبواب المحرّمة أمر مجرد من الجرأة نهائياً، كما أنه ليس اقتحاماً لها، وإنما هو استسلام – كما سيقول هو نفسه بعد قليل – لأن الشاعر أصبح فعلاً من نفس طينة حرّاس تلك الأبواب»، كما جزم بأن «الحرام لديه مباح، والمباح لديه حرام، والسلب كالإيجاب، والعكس وعكس العكس»، وبعد مقطع جديد لمطر، مقطع يقول فيه: «أنا مسافر أدخل في البواية الممنوعة، وشارتي التي أرفعها: قصائدي الطيّعة المطيعة» يعقّب سرور: «وهكذا أصبح – كما قلت – حيواناً أليفاً مستأنساً ممتثلِاً، ومن ثم دخل بعد أن (غسل) طينته كما يقول، واحترف الرقص في الأعراس، كما احترف (مدح الفحول) وكما احترف الرثاء (بكل مأتم) وأصبح يسكب (النبيذ الذي يُدفع من عصارة الدم) وتحول إلى حنجرة لكل نابح وصاهل وشاحج (غليظ الصوت) للندب والطبول» متسائلاً في النهاية: «أعرفتم الآن من ذلك الشاعر المائل الرأس؟!».

موقع الكتابة الثقافي ملف المجلات 07
 إعلان للطليعة في الأهرام قبل الغضب عليها

الشاهد الأول 

محمد الشهاوي: كتبنا البيان ضد عبدالصبور في شقة عفيفي مطر بكفر الشيخ

لا يتذكر محمد محمد الشهاوي بالضبط العام الذي قابل فيه صلاح عبدالصبور، وهل كان أثناء رئاسته لتحرير مجلة «الشعر»، وهي فترة لم تدم سوى عدد واحد، أم لا، ولكنه متأكد من أن اللقاء كان قبل 72، لأن مجلة «سنابل» توقفت في هذا العام، وقد جاء إلى القاهرة لزيارة عبدالصبور في مكتبه على كورنيش النيل، إذ كان قد تناول قصيدتين له نشرتهما «سنابل» في إذاعة «البرنامج الثاني» – البرنامج الثقافي حالياً – متنبئاً له بأنه سيكون شاعراً كبيراً، ونظراً لوفاة محمد يوسف وحسن النجار يقول الشهاوي: «لا أستطيع أن أتحدث بضمير الجماعة الآن، ولكنني سأتحدث كرجل وحيد يعترف بخطأه، سأعترف بصوت عال، وأنا الآن رجل في الثمانين، أنني أخطأت في حق عبدالصبور، وأنا نادم، جد نادم ولحسن الحظ أنك لحقتني قبل أن أموت».

يحكي الشهاوي: «كنت مسؤولاً عن مهرجان شعري أقمناه في كفر الشيخ، ودعونا إليه معظم الأسماء الكبيرة، كان هناك حلمي سالم، وعفيفي مطر، ومحمد يوسف وحسن النجار، وكذلك الصحفي محسن الخياط ، أنا لم أكتب البيان، ولكن الجميع شارك في كتابته، كان أحدهم يقترح جملة، ويتدخل الآخر لحذف كلمة أو إضافة كلمة أخرى، وهكذا، وقد وافقت على التوقيع تحت ضغط اللحظة الانفعالية، وذهب الضيوف ليبيتوا ليلتهم في استراحة المحافظة، وذهبت إلى بيتي، لكني لم أنم، وفي الفجر قررت أن أذهب إلى محسن الخياط الذي يحتفظ بنسخة البيان، لأطلب منه شطب توقيعي، لكنني لم أجده وأخبروني أنه سافر مباشرة بعد انتهاء اليوم الأول من المؤتمر، ولا أدري لماذا صمت بعدها!».

يذكر الشهاوي لقاءه بعبدالصبور جيداً: «هناك محطات يستحيل أن أنساها، إنني قادر على تذكر كل التفاصيل حتى لو كانت تتعلق بورقة مهملة في مكان شهد لقاء قديماً، استقبلني حسن توفيق وسألني: لماذا تأخرت كل هذا في المجيء لتشكر الرجل؟ المهم أنني خطوت إلى مكتبه في هيئة الكتاب فوجدته يستقبلني بحفاوة بالغة وبابتسامة عظيمة، وحدثني مجدداً عما أكتبه، ثم سألني فجأة عن رأيي في شعره، تخيل؟! وقلت له بانبهار: كان كل حلمي أن أراك، أن أرى هذا الشاعر العظيم، فكيف أسمح لنفسي بأن أقول رأياً في شعرك؟! والآن وأنا أتذكر هذا اللقاء أعلن مجدداً بعد حوالي 45 عاماً على نشر بياننا أنني أعتذر لصلاح عبدالصبور، وكنت أتمنى أن أفعل ذلك في حياته. لقد فكرت كثيراً في الذهاب إليه لأعلن ندمي بين يديه، لكنني أبيت حتى لا يظن أحد أنها محاولة لاسترضاء عبدالصبور وليست اعترافاً بالخطأ مني، لكن يا ليتني فعلت».

انتهت مقابلتي مع الشهاوي لكنه بعد فترة أعاد الاتصال بي ليضيف معلومة يعتقد أنها مهمة، وهي مهمة بالتأكيد في السياق الذي نتحدث عنه، الصراع بين عبدالصبور وعفيفي مطر: «نسيت أن أقول لك إن كتابة البيان تمت في بيت عفيفي مطر بكفر الشيخ، كل شيء تم هناك».  

والمعروف طبعاً أن عفيفي مطر ولد في « رملة الأنجب» بالمنوفية، لكن هناك إشارة لابد منها لتفسير كلام محمد الشهاوي، وهي أن عفيفي مطر عُيّن مدرساً في إحدى مدارس كفر الشيخ، وبالتالي انخرط في الحياة الثقافية هناك، وأصبح رئيساً لتحرير مجلة «سنابل» منذ العدد الثاني، واكتشف كثيراً من الشعراء خلالها، وبما أن حياته ارتبطت بكفر الشيخ سكن في إحدى الشقق هناك، وهي الشقة التي يتحدث عنها الشهاوي.

الشاهد الثاني

رفعت سلام: عدد «الكاتب» صدر أثناء خدمتي العسكرية في سيناء

حين صدر عدد مجلة «الكاتب» متضمناً إشادة صلاح عبدالصبور بقصيدته كان رفعت سلام في منتصف مدة خدمته العسكرية في سيناء، وعرف به بالصدفة، يقول: «حينما عثرت على العدد وجدت به قصيدة كنت قد أعطيتها لصلاح عبدالصبور للنشر في مجلة (الشعر) التي لم يصدر منها سوى عدد واحد، لكن علاقتي بصلاح عبدالصبور الشخصية كانت قد بدأت عام 71، فقد استقبلني في بيته بالمهندسين لأول مرة وأنا في الكلية، ولم أنشر قصيدة واحدة بعد، وقضينا ست ساعات كاملة نتحدث في شؤون الثقافة والشعر دون أن يُشعِرني للحظة واحدة بأن هناك مسافة أو فجوة بين الشاعر الكبير وهذا الطالب الصغير الذي يحبو في عالم الشعر».

في مرة تالية كان رفعت قد أخذ منه المسوّدة الأخيرة لمسرحية «بعد أن يموت الملك» قبل نشرها، وحين ذهب إلى جامعة القاهرة شارك في المظاهرات هناك، وأغلقت الجامعة وتوقفت الدراسة حوالي ثلاثة أسابيع، وعاد سلام إليه بالمخطوط – بعد شهر كامل – واعتذر له على التأخر بسبب المظاهرات وإغلاق الجامعة وفوجئ به يقول له: «لا عليك، المخطوط ليس مهماً، كنت قلقاً عليك لا عليه، فأنا أعرف أنك لا بد ستشارك في المظاهرات ولم أجد من يدلني على سلامتك، وانتظرت تحسن الأوضاع إلى أن أراك». يعقب سلام: «علاقتي به كما قلت لم تكن علاقة بين شاعر ناشئ وشاعر يمثل لي آنذاك رب الشعر الجديد، وبالتالي حين نشر القصيدة ضمن العدد الأول من مجلة الكاتب أكبرت فيه أنه احتفظ بالقصيدة حتى ذلك الحين ولم يبددها أو يهملها على مدى سنوات، كما يحدث في كثير من الحالات، ولم يكن لي أن ألومه على شيء، فلم نكن على علاقة وثيقة بمجلة (الكاتب) اليسارية آنذاك فهي مجلة فكرية بالأساس، كنا نقرأها في بعض الأحيان وليس دائماً، لأننا في منتصف النصف الأول في السبعينيات كنا منكبّين أكثر على التأسيس الشعري، ولم ندخل في هذه الحارات والأزقة والشوارع الرئيسية. نعم كنا نتابع، لكن عن بُعد، هذه التحولات، دون أن ننغمس بها، وبالنسبة لي على المستوى الشخصي لم أخرج إلى الحياة الطبيعية إلا في يناير 77، وبالتالي فقد عرفت بالصدفة عن هذا البيان المضاد لصلاح عبدالصبور، ولو كان قد عُرض عليّ آنذاك لرفضت التوقيع عليه».

موقع الكتابة الثقافي ملف المجلات 08
عدد الآداب الذي نشر فيه إبراهيم منصور قصة الأزمة

إبراهيم منصور يؤرخ للمعركة

نعود إلى عبدالصبور، الذي شعر، ربما، بأن معركته ستكون خاسرة، حيث لم يملك سلاطة لسان أصحاب الرسالة، وكان صمته يتسق مع شخصيته التي مالت – على الدوام – للبُعد عن المشاكل، لكن المشاكل كانت تبحث عنه، وتم اتهامه كثيراً بالانسحاق أمام مسؤولي الثقافة، ومؤسساتهم، في ذلك الحين، ولم يخرج ليقول: «لا. لست هذا الشخص»، لقد كان مؤلماً لكثير من الكتاّب وقتذاك موقفه، ووصفوه بـ«الانتهازي» فقد رضى بأن يكون سلّمة يسند عليها يوسف السباعي، الذي كتب افتتاحية أول عدد  من «الكاتب الأميرية» تحت رئاسة تحرير عبدالصبور، نوفمبر 1974، مشيداً بإنجازات عبدالناصر ومن بعده أنور السادات، وربما أراد أن يؤكد للجميع أن الدولة تسترد مجلتها ممن تعتبرهم «خارجين على الإجماع الوطني»، ولم يكن أحد من اليساريين على استعداد ليتفهم حقيقة أن عبدالصبور كان موظفاً كبيراً بـ«هيئة الكتاب» إحدى مؤسسات وزارة الثقافة، أما عبدالصبور نفسه فقد كان هناك من ينوب عنه في الرد، كما فعل خيري عزيز، حين كتب مقالاً في عدد يناير 1975 من «الطليعة»، وكان من هيئة تحريرها، تحت عنوان «دفاعاً عن الحقيقة لا عن صلاح عبدالصبور»، وهو وإن بدأ بالاعتراف بحق محمد يوسف، ومحمد محمد الشهاوي، وحسن النجار، في عدم نشر قصائدهم بـ«الكاتب الأميرية» إلا أنه أعلن بوضوح أنه لا يستطيع أن يقرهم بما ذهبوا إليه من أن عبدالصبور «حارب وحاصر في كل تاريخه ومواقعه ما يزدهر في مصر ويتفتح»، وإنما «كان دوماً جزءاً لا يتجزأ من حركة الشعراء والكتّاب الوطنيين التقدميين الساعين إلى وطن أكثر تقدماً وإنسانية وعدالة» ولذلك «من الإجحاف والتزيّد تصوير شاعر كبير لا يملك سوى قوة كلماته، وحتى مكانته الأدبية الإدارية، بكل قوة البطش هذه، التي راح ضحيتها: كل ما يزدهر ويتفتح في بلده بأسره».

لقد كان هذا الرد غريباً من أحد كتّاب «الطليعة» التي استضافت «الكاتب» في محنتها، إلا أنه عموماً كان مجرد حلقة في صراع استمر طويلاً، وقد أرّخ الكاتب الستيني إبراهيم منصور للقضية برمّتها في مجلة «الآداب» البيروتية، عدد نوفمبر 1974، وكان ملفه، بخلاف أنه جمع كل الوثائق والكتابات التي نُشرت حول تلك القضية، يحوي شهادات لأسماء من العيار الثقيل، مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإبراهيم أصلان، ورضوى عاشور، وقد رحل أصحاب الشهادات جميعاً باستثناء الكتّاب محمود الورداني وسعيد الكفراوي وعبده جبير.

بدا إبراهيم منصور مثل أرشيفجي، لا يملك مشاعر بخصوص القضية، لكنه أرشيفجي ممتاز، يجيد استخراج المعلومات، ووضعها في سياقات مفهومة ومباشرة وشديدة الوضوح، والأهم أنها موثّقة، وبعد عقود من الآن، يمكن لأي شخص أن يعود إلى هذا الملف وحده ليفهم ما كان يجري، وما المجلات والأشخاص الذين استخدمهم اليمين في معركته، وكذلك الحال بالنسبة لليسار، وكل شيء مدعوم بالتاريخ. كانت الآداب منحازة بالطبع إلى اليسار، لكن ذلك الانحياز لم يكن فجاً، حيث أفسحت المجال كذلك لشهادة كتّاب اليمين المتطرفين مثل ثروت أباظة، لكن الملف ورغم أنه شمل الفترة من أبريل إلى سبتمبر إلا أنه لم يكن جامعاً مانعاً، ولم يضم كثيراً من المقالات والحوارات والتحقيقات الصحفية التي كُتبت في تلك الفترة، ومنها حوار صلاح حافظ مع الوزير يوسف السباعي في «روز اليوسف»، وأيضاً مقالات «الطليعة» التي استضافت هيئة التحرير القديمة لـ«الكاتب».

وبحسب إبراهيم منصور: «صدرت مجلة الكاتب عن دار التحرير، التي تصدر عنها صحيفة الجمهورية الآن، في أول أبريل عام 1961، وكان رئيس تحريرها آنذاك الأستاذ أحمد حمروش، وضم مجلس تحريرها الدكتور لويس عوض والدكتور محمد مندور» و«في أول يناير سنة 1964 تولى الأستاذ أحمد عباس صالح رئاسة تحرير المجلة، وضم مجلس التحرير آنذاك الأساتذة: كامل زهيري، محمد عودة، يوسف إدريس، نعمان عاشور، محمد محبوب، وصدرت المجلة تحت شعار: مجلة المثقفين العرب، واتخذت منذ ذلك الحين خطاً يسارياً قومياً واضحاً»، و«في سبتمبر، عام 1964 عُيّن الصحفي حلمي سلام رئيساً لمجلس إدارة التحرير، فقام بنقل الكتّاب اليساريين الذين يعملون بدار التحرير إلى شركات القطاع العام المختلفة، ونقل رئيس تحرير الكاتب إلى شركة لتجارة الأخشاب، كذلك تم نقل معظم أعضاء مجلس التحرير، وأغلقت الكاتب بقرار من الصحفي حلمى سلام، غير أن رئيس الجمهورية الراحل جمال عبدالناصر أمر بأن تصدر الكاتب خارج دار التحرير، وعلى نفقة وبجهد مُصدِريها، وهم تقريباً رئيس التحرير وأعضاء مجلس التحرير»..

و«في أول أكتوبر، عام 1964 صدر العدد التالي من الكاتب بمجهود أسرة التحرير الذين تضامن معهم بعض العناصر التقدمية في القطاع العام، الذين ساعدوا المجلة عن طريق تزويدها بالإعلانات» و«في أوائل عام 1966 أراد الدكتور عبدالقادر حاتم الذي كان نائباً لرئيس الوزراء للثقافة والإرشاد القومي في ذلك الحين، أن يسيطر على المجلة، فطلب من أسرة التحرير أن تنضم إلى وزارة الثقافة، ونظراً للمتاعب المالية التي كانت تواجهها المجلة، رغم أن توزيعها وصل إلى اثنى عشر ألف نسخة، قبلت أسرة تحرير المجلة إصدارها عن طريق وزارة الثقافة، ومنذ اليوم الأول بدأ الصدام المتوقع بين المجلة وبين السيد نائب رئيس الوزراء حين طلب (أيضاً!!) أن يطلع على أصول المقالات قبل نشرها، ولكن أسرة المجلة رفضت ذلك، ولم تمض أكثر من ثلاثة شهور حتى أصدر السيد النائب قراراً بأن تكفّ الوزارة عن تمويل المجلة، وعادت المجلة مرة أخرى إلى الشارع» و«استمرت المجلة رغم ذلك في الصدور بالمجهود الفردي لأسرة التحرير، حتى عُيّن الدكتور ثروت عكاشة وزيراً للثقافة (كانت المجلة قد نشرت عدة تحقيقات طويلة عن الأوضاع المتردية في مؤسسات وزارة الثقافة، وبخاصة في قطاع النشر، قُبلت على إثرها استقالة الدكتور حاتم، وشُكّلت ست لجان للتحقيق فيما ورد بتحقيقات المجلة عن هذه المؤسسات وطلبت المجلة أن تنضم مرة أخرى إلى وزارة الثقافة»..

و«في سبتمبر عام 1971، عُيّن الدكتور حاتم مرة أخرى نائباً لرئيس الوزراء، وأصدر فور تعيينه قراراً بإغلاق جميع المجلات التي كانت تصدرها وزارة الثقافة بما فيها مجلة الكاتب» و«أصرّت أسرة التحرير على مواصلة إصدار المجلة، وتبرّع كتّابها ومجلس تحريرها بأموال من جيوبهم الخاصة، وفى مقدمتهم الدكتور عبدالعزيز الأهواني الذي كان يتولى رئاسة التحرير بالنيابة عن الأستاذ أحمد عباس صالح لوجوده في الخارج» و«أثبتت الكاتب بطلان القول بأنها تخسر مادياً، بتقديمها لكشوف توزيع المجلة، فاضطرت الهيئة العامة للكتاب التابعة للوزارة، أن توافق على إصدارها بشرط ألا تعطي أي مكافأة مالية. قبلت أسرة المجلة ذلك واستمر هذا الوضع مدة ثلاثة عشر شهراً، إلى أن طلبت وزارة الإعلام العراقية الاشتراك في خمسة آلاف نسخة من المجلة، وكان العراق سوقاً رائجة لمجلة الكاتب» و«في فبراير عام 1974 أصدر الرئيس أنور السادات قراراً برفع الرقابة عن الصحف، وصدر عدد مارس عام 1974 من المجلة، يتضمن باب (شهرية السياسة العربية) الذي كان يكتبه الأستاذ حسنين كروم، ووردتْ فيه عبارة حول المساعدات الإيرانية للأكراد المتمردين في العراق. اتصل الأستاذ طلعت خالد وكيل وزارة الإعلام لشؤون الرقابة برئيس التحرير، وأبلغه أن السفير الإيراني احتج على هذه العبارة، وأنه لذلك لا بد من مراجعة أصول المجلة قبل طبعها، ولما رفض رئيس التحرير أبلغه الأستاذ وكيل الوزارة المذكور أنه سيتولى مراجعة أصول المجلة بالطرق الإدارية حيث أن المجلة تُطبع في مطابع حكومية، وظلت المجلة على ذلك موضوعة تحت الرقابة حتى شهر يونيو 1974، وقد تعرضت مجلة الطليعة لنفس الموقف حين طلب الأستاذ علي أمين الذي كان رئيساً لمجلس إدارة الأهرام آنذاك، أن يراجع أصول المجلة قبل طبعها»..

و«صدر عدد أبريل سنة 1974 من مجلة الكاتب، وبه مقالان للأستاذين أحمد عباس صالح وصلاح عيسى…وعقب ذلك، وفي الرابع من أبريل سنة 1974 نشر الأستاذ إبراهيم الورداني، وهو من أصدقاء الأستاذ يوسف السباعي المقرّبين مقالاً في جريدة الجمهورية طالب فيه بإغلاق مجلتي الكاتب والطليعة، وفي الحادي عشر من أبريل 1974 رد عليه الكاتبان عباس صالح، وصلاح عيسى، في جريدة الجمهورية» و«في نفس اليوم، أي في الحادي عشر من أبريل 1974، عقد مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب اجتماعاً أثار فيه الأستاذ صالح جودت، الذي عيّنه الأستاذ يوسف السباعي عضواً في مجلس إدارة هذه الهيئة، مسألة أن مجلة الكاتب رغم أنها تصدر عن وزارة الثقافة فإنها تهاجمها، وطالب بأن تتوقف الوزارة مرة أخرى عن تمويل المجلة، ولكن رئيس مجلس إدارة الهيئة الدكتور محمود الشنيطي اقترح كحل وسط أن يكتفي برفع اسم الهيئة باعتبارها جهة الإصدار من ترويسة المجلة» و«في شهر مايو 1974، وأثناء مناقشة دارت في نقابة الصحفيين المصريين، حضرها السيد وزير الإعلام الدكتور أحمد كمال أبوالمجد أُثير موضوع وضع مجلة الكاتب تحت الرقابة، خلافاً لقرار السيد رئيس الجمهورية بسبب موقفها من وزارة الثقافة، ووعد السيد وزير الثقافة، والسيد وزير الإعلام ببحث الموضوع» و«في شهر يونيو 1974، عقد مجلس تحرير المجلة اجتماعاً برئاسة الدكتور محمد أنيس قرر فيه ممارسة حقوقه التي يكفلها رئيس الجمهورية برفع الرقابة عن الصحف وأرسل خطاباً رسمياً إلى الهيئة العامة للكتاب يبلغها فيه أنه اعتباراً من عدد شهر يوليو 1974 سيتولى رئيس التحرير مسؤوليته الكاملة عن كل ما يُنشر في المجلة» وأخيراً «في عدد شهر يوليو 1974، نشرت المجلة إعلاناً عن أنها ستُصدر ملحقاً أدبياً يشرف عليه الأستاذ رجاء النقاش، وعلى إثر ذلك استدعى السيد وزير الثقافة رئيس التحرير بالنيابة الدكتور محمد أنيس وأبلغه بعدم موافقته على إصدار هذا الملحق وعلى الشخص المشرف عليه».

موقع الكتابة الثقافي ملف المجلات 02

إبراهيم الورداني: أعوذ بالله منها ثقافة بروليتاريا!

كانت الأمور سجالاً بين معسكري اليسار واليمين، بل إن بعض الفترات كانت تشهد تفاهمات، لكن بمجرد حلول يوسف السباعي في منصب الوزير بدأ ما يشبه حرب التطهير ضد المسؤولين عن المجلات، وكان لكل طرف مفهومه عن الاشتراكية والحريات والوطنية، وصار التلاسن عنواناً لتلك المرحلة، غير أن «هتيفة» السباعي كانوا الأعلى صوتاً، فبينما يقول أحمد عباس صالح في عدد أبريل 1974 من «الكاتب»: «لعل الذين يتصايحون الآن من أجل الحرية هم أقل من أصيب، والحق أنهم كانوا يباركون القهر تحت أفكار ولافتات لا تختلف عن التي يرفعونها الآن» يرد عليه إبراهيم الورداني في عدد 4 أبريل من «الجمهورية» مستخدماً ألفاظاً نابية وعبارات شديدة القسوة، لكنه يبدأ أولاً بالهجوم على «الطليعة»: «لا تقل عنهم مجازفون شرفاء، بل قل مسترزقون مستميتون»، ثم عرج إلى «الكاتب» وإلى رئيس تحريرها أحمد عباس صالح ليصفه بأنه «مغتاظ وحانق ويفتك به الغل من إفساح الطريق للفكر الوطني» ثم طالت كلماته الكاتب صلاح عيسى دون أن يسميه كذلك، حيث بدا الورداني مغتاظاً للغاية من تقريظ عيسى الشديد لكتاب نقدي نشره رجاء النقاش، لم يسمّه كذلك، وهو كتاب «العقاد بين اليسار واليمين»، وكذلك بدا غاضباً لأنه بحسب ما ذكره فإن النقاش هاجم العقاد «الذخر القومي الكبير» قائلاً عنه: «إنه متعيش ومسترزق، وبلا مبادئ، ورجعي، ومنافق، وحقير، وشتام، ومتعصب» ثم ينهي مقاله قائلاً: «أعوذ بالله منها ثقافة بروليتاريا»، وبعد أسبوع على هذا المقال، 11 أبريل 1974، يكتب إبراهيم الورداني مجدداً عن اتصال أجراه معه أحمد عباس صالح دون أن يذكره بالاسم، وربما كانت نوايا «صالح» طيبة وجيدة مثل اسمه وإلا ما أقدم على هذه الحركة، التي استخدمها الورداني في مزيد من التنكيل به: «صباح الخميس الماضي يا عزيزي القارئ، أيقظني جرس تليفون لحوح، وكان المتكلم المذعور هو رئيس تحرير تلك المجلة الشهرية التي اقتبستُ لك منها فقرات تشتم في صحافة ما بعد الرقابة، وتقول إنها باتت تمتلئ بكل مرتجل وفج وتافه وجاهل ورخيص» ويقول إنه نقل فقرات من مقالات «الكاتب» وهو يغلق عينيه مستغفراً غير آبه بما يسمونه زمالة أو علاقة أو صداقة، ثم ينهي تلك الفقرة بنفاد صبر: «كفاية أمراض للشعب المصري يا كوليرا الأقلام»، ثم يبدأ في رسم بورتريه ساخر، أو يحاول أن يبدو ساخراً، لكنه في حقيقة الأمر كان يسعى للنيل من ذمة أحمد عباس صالح: «العقائدي المكتنز، حنون الكادحين، ورمش عين المستنزَفين»، وهو يستسمح القرّاء، وكأنهم يجلسون أمامه، في أن يرفع بعض المكياج الاشتراكي عن وجه صديقه أو زميله هذا ليعطيك بعض المعلومات العامة عنه، فما تلك المعلومات؟ يكتب الورداني: «يذرع شوارع القاهرة بعربته المرسيدس الفارهة، وليس في ذلك ملام طبعاً، عندما تعرف أنه كثير المشاوير، متعدد المنافع، متنوع الأعمال، شاطر وفهلوي وأريب، فهو مثلاً رئيس تحرير تلك المجلة الشهرية، وله منها مرتب أو فوائد طبعاً، وهو ملتحق بإحدى دور الصحف الكبرى، وله منها مرتب كبير طبعاً، وهو صاحب إيراد سنوي ضخم من سيناريوهات أفلام الجنس والحقد والإثارة، التي يرميها له أحد المخرجين في عيون الجمهور كل موسم، وهو منتشر دؤوب ما بين بغداد لبيروت، في الاستثمار العقائدي، ولديه من يسهّلون له القبض أو من يخزنون له القرش الأحمر لليوم الأسود، أما عن سلوكه الثقافي فهو من نوع (قلم بلا قرّاء) يعني من فصيلة هؤلاء الكتّاب الذين يضطهدون الشعب المصري، بأنواع كتابة أو ثقافة كالكلاكيع، عقربية أخطبوطية تفزع البني آدم من أي ثقافة أو كتابة وتنفّر من أي فكر أو فن!»..

ثم يأتي الورداني إلى المكالمة، ساخراً من صالح ومن كلماته ويصفها بأنها كالطرْق العاطفي المتوسل: «بدا لي منهاراً، ومثل كل المصريين ذبت معه في سخونة هذا الطرْق العاطفي، ومعلهش يا فلان، خد الأمور برياضية، معلهش أرجوك، اشتمني ما شئت، وإذا كان هذا يهدّئك فسوف أشتم نفسي أمامك، خد الأمور برياضية، المسألة ليست شخصية، نحن في ساحة عمل عام، وما غاظني إلا تلك النبرة التي علت فجأة عندك وعند أصحابك، لم تعد تُطاق يا فلان، شبابيك الحرية التي فتحها السادات يقفزون إليها ويزعقون كأنهم قراصنة أو فتوات أو بلطجية، ناصريون متشجنون الآن بلا سبب، وأذكّرك  بألقاب طاردوا بها الرجل في حياته، مثل السفاح والعميل، متغطرسون ومتبجّحون جداً يا فلان، فأي قلم يكتب ماعداهم جاهل ورجعي وتافه وخائن، متطاولون جداً يا فلان، ومن بغداد يكتبون العرائض ضد نصر 6 أكتوبر، ومن طرابلس يزعقون في الميكرفونات، ومن بيروت يبيعون علينا المؤامرات».

ثم رد أحمد عباس صالح في نفس العدد من «الجمهورية» ولكن على المقال الأول للورداني بمقال تحت عنوان «محاكم التفتيش»: «من أعجب العجب أن يخوفني إبراهيم الورداني بالسلطة، وكالمرشدين والمخبرين يبلغ عني، اضبطوا هذا ماركسي» ويعلن صالح التحدي وأنه لا يهاب أحداً حتى ولو كان السلطة ذاتها، وهو كذلك لا يترك حقه وإذا كان الورداني قد لطمه فإن صالح دهسه بقطار: «الورداني قد يحتاج للتملق فله صفحات مطولة في مديح من قاموا بتعذيب المصريين ومن أهانوا كرامتهم ومن كان ينفع معهم التبليغ عن الناس»، ثم يعدد الأسباب التي دعت الورداني لمهاجمته، ومنها أن «المصري الكريم، الإنسان المحب لشعبه وأمته لم يقبل إهدار الكرامة»، وأن «أسلوب الوصاية أسلوب كريه، حتى ولو كان يتضمن خير الأمة» وأن «تدهوراً ثقافياً حقيقياً يزحف كالمرض على عقل هذه الأمة»، وكتب صلاح عيسى في نفس العدد كذلك رداً تحت عنوان «من هم المسترزقون المستميتون؟!» قائلاً: «ليس صحيحاً أن كتاب الأستاذ رجاء النقاش يصف العقاد بأنه متعيش ومسترزق وبلا مبادئ ورجعي وحقير وشتّام ومتعصب كما جاء في مقال السيد الورداني، إذ الواضح أنه لم يقرأ الكتاب وأراد بهذا الافتراء أن يمهد لهجومه عليّ، لأنني مدحت هذا الكتاب بما يستحقه، ولست طرفاً في هذه الخصومة القديمة التي بينه وبين الأستاذ رجاء النقاش، والتي يصرّ السيد الورداني على إعطائها بُعداً سياسياً باتهام كل من كان طرفاً فيها بأنه ضد الوطنية ومعاد لحركة التصحيح، ولعله يتصور أن إلحاحه هذا سيجوز على الدولة فتتدخل للانتقام من كل الذين لا يرضون عن أعماله الأدبية، ولمَ لا والأستاذ في كل ما يكتب يحاول أن يصور حركة التصحيح كأنها من فعله، وكأنه ناضل من أجلها، وأن له فيها ما ليس لأي إنسان في هذا البلد».

وقد كان هذا قطعاً قبل سنوات طويلة من الوقيعة التي جرت بين رجاء النقاش وصلاح عيسى بسبب «القاهرة»، التي صدر منها عدد واحد برئاسة الأول، قبل أن يظهر الثاني على الخط، ويقفز على المجلة، وقد قام عيسى في هذه الحالة بنفس الدور الذي قام به صلاح عبدالصبور، الذي قَبِل برئاسة تحرير مجلة «الكاتب» بعد طرد كتّابها، بل إن عبدالصبور أفضل حالاً، فلم تربطه صلة قرابة أو مصاهرة مع أحمد عباس صالح، كما هو الحال مع عيسى الذي تزوج من أمينة النقاش شقيقة رجاء، كما أن عبدالصبور لم يعلن يوماً أنه كاتب يساري، وكان موظفاً بالهيئة العامة للكتاب، بينما طرح عيسى نفسه طوال الوقت باعتباره مناضلاً من الطراز الرفيع، إلا أن الاثنين كانا يشتركان في علاقة وطيدة بوزيري الثقافة، عبدالصبور ويوسف السباعي، عيسى وفاروق حسني، وإن كانت العلاقة الأخيرة صادمة ومفاجئة للوسط الثقافي، إذ بدت بالنسبة لكثيرين كأنها تزاوج غريب ولا يجوز أو – بمعنى أدق – غير منطقي بين السلطة واليسار، لكن صلاح عيسى باع الكل في هذا التوقيت، على ما يبدو، وعلى رأسهم رجاء النقاش، لحسبة لا تخص أحداً غيره.

صلاح عيسى لصلاح عبدالصبور: مبروك عليك وكالة الوزارة

وكتب عبدالعزيز الدسوقي في ملحق «التحرير» لمجلة «الثقافة» 19 أبريل 1974، التي كان يشغل منصب نائب رئيس تحريرها آنذاك، مستهجناً اللهجة العدائية لأحمد صالح عباس ضد إبراهيم الورداني، ولوهلة يمكن أن تنخدع في كلماته، خاصة مع أسلوبه الرصين، لكنه يعيد نشر شتائم الورداني في حق صالح، معقباً في النهاية: «ومع أنني لا أقر هذا الأسلوب في الجدل حول القضايا الفكرية إلا أنني أشد على يد إبراهيم الورداني وأحيّيه، فلا يفلّ الحديد إلا الحديد، وعندما يكتب أحمد عباس صالح بأسلوب علمي محدد مفهوم يمكن أن نرد عليه بأسلوب موضوعي هادئ»، ورد عليه صلاح عيسى في عدد يوليو 1974 من «الكاتب» دون أن يسمّيه، ولكن ليس عن هذا المقال، وإنما عن مجمل مقالاته خلال عدة شهور، قائلاً: «يبدو التناقض الواضح على الجبهة الفكرية عندما نقرأ لكاتب أنه يتخيل العالم بدون طعام أو شراب ولا يتخيله بدون حرية الفكر وحرية العقيدة وحرية الضمير (التحرير – الملحق الأسبوعي لمجلة الثقافة الشهرية 22/2/1974) وبعد أقل من أسبوعين يسارع نفس الكاتب ليقول عن مجلة تختلف معه في الرأي إنها: تُمارِس دوراً بغيضاً في إفساد حياتنا الفكرية والأدبية وتتصرف كمؤسسة سياسية مستقلة تصدر البيانات وتدين الناس، وتستخدم الفلول الباقية لمراكز القوى الغاربة التي لا تزال تتلكأ في ساحاتنا الأدبية والفكرية (التحرير – 8 مارس 1974). إن حرية الفكر والضمير والعقيدة هي حرية الكاتب وحده، أما من يمارس حرية رأيه غيره – بما يختلف معه في الرأي – فلا بد من إبلاغ أجهزة الأمن أنه من عملاء مراكز القوى، وعلى صفحات الصحف (راجع أمثلة لهذا أيضاً في التحرير 7/12/1974 وفي الجمهورية 7/3/1974) ويتزايد الإلحاح الآن في بعض المنابر لتطهير الصحافة وطرد عدد من الكتّاب منها بزعم أنهم أيديولوجيون، وأنهم لا يعبّرون عن رأي الشعب»، ثم بدأ صلاح عيسى في مهاجمة المسؤولين بهيئة الكتاب الذين يضعون العراقيل لعدم إصدار «الكاتب»، وبحسب عيسى إذا سألته عن الحكاية سيتحدث عن الورق والعملة الصعبة، ويمضي ساخراً: «فإذا قلت له إن الويسكي موجود، أكد أن ذلك من اختصاص وزارة السياحة، ويبتسم شريكه صلاح عبدالصبور (مبروك وكالة الوزارة) ولا يرد، وتشعر أن الكلام مع المسؤولين في هيئة الكتاب يحتاج إلى مترجم يعرف الإسبرانتو (لغة مصطنعة اخترعها أليعزر زامنهوف کمشروع لغة اتصال دولی) وتُدهش إذ تكتشف أن الهيئة لديها ورق توفره لمجلات يكتبها جيل واحد من الكتّاب وتيار واحد من تياراتهم، وأن الأدباء الشبان عندهم هم صحفيون لا أدباء تجاوزوا السبعين، وفي هذه المجلات مقالات كأنما تسعى إلى تحريض وزير الداخلية على اعتقال عدد وافر من كتّاب مصر ووضعهم في السجن، في حين أن مقالات هؤلاء السادة يعاقب عليها المساكين الذين يقولونها دون أن يكونوا محررين في مجلات الوزارة بمقتضى قانون حماية الآداب لأنها تخدش الحياء العام ومع ذلك فهي تُعتبر عند المسؤولين من كل هذه المجلات نقداً أدبياً، وهكذا يضيع الورق يا سادة!».

وفي عدد 29 أغسطس 1974 من «الجمهورية» يكتب عيسى مجدداً عن قرار الوزير بالتخلي عن تمويل المجلة بعد عدد أكتوبر، ثم لقاء هيئة التحرير به، حيث أبلغه أعضاؤها بموقفهم في ثلاث نقاط، أولاً أن الوزارة ليست طرفاً في الصراع بين تيارات الأدب والفن والثقافة والفكر، وبالتالي يجب أن تأخذ مسافة واحدة من الجميع، وثانياً، أن الكاتب مجلة يسارية، وقد مارست هذا الدور عشر سنوات وينبغي أن تبقى لتمارسه، وثالثاً، أن صدور مجلة ما عن الوزارة لا يعني أنها ستتحول إلى بوق دعاية لها، لقد وقف فاروق حسني بعد هذا الاجتماع بأكثر من ثلاثين عاماً ممسكاً بأحد أعداد «أخبار الأدب» في البرلمان متسائلاً بمزيد من الدهشة والحنق والغضب كيف لجريدة تصدر بأموال الدولة  أن تهاجم وزارة في حكومتها، فكأن الزمن يكرر نفسه مع عقول تم تصميمها وتغليفها وتعبئتها في مصانع الدولة الشمولية القديمة، المهم أن يوسف السباعي قال إنه محايد كوزير لكنه غير محايد كشخص أو أديب، وإن اليساريين قد أفسدوا الثقافة في مصر عشرين عاماً، الأمر الذي أدى إلى وفاة أكثر من أديب قهراً، مثل عبدالحليم عبدالله، وباكثير، ويوسف غراب، وإن من حقه والمجلة تصدر عن الوزارة أن يراجع أوضاعها لأنه مسؤول عنها، ثم ضرب قنبلته مثيراً عاصفة ضخمة في الاجتماع: إما تخلي الوزارة عن دعمها أو تغيير رئيس تحريرها أو مجلس تحريرها بالكامل، وقد تنصل عن مسؤوليته عما يُنشر في مجلة «الجديد» اليمينية المتطرفة برئاسة صديقه وتابعه رشاد رشدي، وسيأتي دوره بالتفصيل لاحقاً، وتساءل صلاح عيسى: «ما هو المبرر الذي يدفع الوزارة للتفكير في تغيير المشرفين على الكاتب؟ هل فقد عباس صالح مؤهلاته لرئاسة تحريرها بعد عشر سنوات من العمل الناجح أم أن هناك موقفاً شخصياً منه؟ هل لدى الوزارة اقتراحات بأشخاص يمكن أن يفضلوا مجلس تحريرها الحالي الذي يضم اثنين من الضباط الأحرار، هما كمال رفعت ولطفي واكد، وأستاذاً جامعياً محل احترام وتقدير دوائر الثقافة في العالم هو د. محمد أنيس، وناقداً لامعاً هو رجاء النقاش، وهل هؤلاء أقل قيمة أو علماً من مجلس تحرير مجلة (الثقافة) أو (الجديد) مثلاً؟» و«بماذا تبرر الوزارة أن الكاتب تطبع ضعف ما تطبعه (الثقافة) وإذا كانت المسألة مسألة خسائر فلماذا لا تكف عن تمويل الخاسر؟ وإذا كانت الوزارة تخسر فلماذا تتحمل الوزارة خسارة مجلتين تتبنيان نفس الاتجاه هما الثقافة والجديد ولا تغلق إحداهما؟».

وعاد عبدالعزيز الدسوقي في مجلته «الثقافة» سبتمبر 1974 ليواصل شتائمه بحق عباس صالح ومساعديه: «… على أن الذي زاد في سعادتنا بصورة مضاعفة ما لاحظناه من انزعاج الفلول الباقية من خدّام مراكز القوى وبعض أصحاب الانتماءات المعيّنة الذين فرضتهم الظروف السياسية في عقد الستينات، عقد الهزيمة اللعين، على قمة الحياة الأدبية والفكرية، ومن الغريب أن هؤلاء، وهؤلاء هم الذين أفسدوا الحياة الثقافية وخربوا مؤسسات المسرح والسينما والنشر، وحوّلوها إلى أنقاض، لا نزال حتى الآن نعاني مما أحدثوا من دمار، ونحاول أن نرفع الأنقاض ونطهر الأرض، ولهؤلاء قصة يجب أن تُروى بصراحة وبالأسماء حتى لا يذرف عليهم بعض المخربين دموع التماسيح مرة أخرى».

وقد كتب الدكتور محمد أنيس في عدد سبتمبر 1974 من «الكاتب» مشيداً بتحذير «روز اليوسف» من إغلاق المجلة، وإن كان ينصحها بأن تنعيها لو استمر الأمر ونجح مخطط الوزير والكارهين في إبعاد رئيس تحريرها، وهو يرى أن الحملة ضد أحمد عباس صالح تبدو غير موضوعية وتحمل في ثناياها الكثير من الحقد والكراهية، وانتقد طريقة كتّاب «الثقافة» اليمينية في الهجوم على رئيس التحرير قائلاً إنها «تحمل شيئاً من العنف لا يرتاح له القارئ»، وينصح في نهاية مقاله المسؤولين عن المجلات الأسبوعية والشهرية والصحف اليومية التقدمية التي تصدر في مصر: «لا تنظروا إلى أزمة الكاتب بروح الانفراد، وكأنكم سوف تستوعبون قرّاء الكاتب المشردين. هذا خطأ فادح والأفضل لتلك المجلات والصحف وليس للكاتب وحدها أن تنظر إلى القضية نظرة غير ذاتية، فتعي أن ما تتعرض له الكاتب الآن سوف تتعرض حتماً كافة الأقلام والمنابر الفكرية ذات الصبغة اليسارية»، وينشر إبراهيم منصور الوثيقة رقم 12 في الملف وهي نص استقالة رئيس تحرير «الكاتب» أحمد عباس صالح، ومجلس التحرير: لطفي واكد، د. محمد أنيس، رجاء النقاش، صلاح عيسى، وسكرتارية التحرير: أحمد القصير، وحسنين كروم، إلى يوسف السباعي، مفندين كل ما واجهوه من مصاعب وأكاذيب وتجنٍ وكراهية مطلقة وصلت إلى الضرب تحت الحزام وتشويه السمعة، لكن أخطر ما جاء في نص الاستقالة هو إشارتهم إلى حرب سرية يمارسها شخص ما لصالح الوزير: «اكتشف مثلاً رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب أن نسخ مجلة الكاتب تخرج من المطبعة إلى المخازن دون أن تتسلمها شركات التوزيع حتى يُمنع تداولها، واضطر رئيس الهيئة إلى التحقيق مع المسؤولين عن هذا العمل المشين الذي لا يقيم وزناً للجهد البشري ولا للمال في سبيل منع المجلة من التداول، وبطريقة سرية» وبربط بسيط بين تصريح الوزير الساخر لرئيس تحرير «روز اليوسف» صلاح حافظ بأن المجلة كانت تصدر وتذهب إلى المخزن مباشرة، وهو التصريح الذي لا يعني أنها لا توزع بشكل جيد، وبين هذا الكلام الخطير في نص الاستقالة، يمكن فهم ما كان يجري في الكواليس، واللعبة التي يتم خلالها تنحية الأخلاق والمبادئ والمثل والقيم.. إلخ، حتى يتم تحقيق الانتصار بأي شكل، حتى ولو كان ذلك أيضاً نوعاً من إهدار المال العام، فلا رقيب ولا حسيب لأكبر رأس في وزارة الثقافة.

وتحت عنوان «عصا الوزير» جاء مقال كامل زهيري في عدد 17 سبتمبر من «الجمهورية» وقد حاول أن يكون موضوعياً كعادته، لكن ميله إلى اليسار كان واضحاً من السطر الأول وإن اكتست كلماته بأكبر قدر من التهذيب: «لست أريد أن يتفق الجميع على أن هذا الأديب الوزير يدخل الأدب من بابين: باب الرواية والكتابة والتأليف، وباب الأدب بمعنى التأديب والتهذيب والإصلاح وإغلاق المجلات. ما بيني وبين وزير الثقافة لحسن الحظ ود معقود، غير مفقود! وقد يكون ذلك لأنني طوال عشرين عاماً لم أحترف النقد الأدبي، فأتناول رواياته وأفلامه بالنقد والتقييم. لا بالخير ولا بالشر» حتى يصل إلى مراده: «أخشى أن أقول إن ما اتخذه أخيراً من إجراءات إدارية في تغيير إدارة مجلة (الكاتب) الشهرية، وتعيينه لشخصين في إدارة المجلة إجراءات غير مفهومة، ولا تجد تبريراً معقولاً سوى أن الوزير يستخدم عصاه بدلاً من أن يستخدم قلمه أو قلبه أو عقله»، وقد نشرت «الجمهورية» رداً مطولاً من السباعي في عدد 22 سبتمبر 1974 ولا يعنيني منه، وقد احتوى على كثير من المعلومات التي عرضها هذا التحقيق، سوى أمرين، الأول إشارته إلى صلاح عبدالصبور الذي لم يكن قد تم تعيينه رئيساً للتحرير حتى هذه اللحظة، حيث قال الوزير إن إحدى المناقشات مع أحمد عباس صالح – وقد كان شاهداً عليها الأستاذ أحمد زين مدير تحرير جريدة الأخبار وعديل أحمد عباس صالح – انتهت بالاتفاق على أن يُشكّل مجلس التحرير من الأعضاء الحاليين، مضافاً إليهم الأساتذة يوسف إدريس وصلاح عبدالصبور وسعدالدين وهبة وإدوار الخراط، وأن يكون صالح رئيساً للتحرير، وعبدالعزيز صادق مديراً للتحرير، والمعلومة الثانية أن السباعي لجأ للإيحاء بأن صلاح عيسى يكره انتصار 6 أكتوبر، وقد كان هذا أقرب إلى بلاغ، حيث قال بالنص: «في مقال عن مستقبل الديمقراطية في مصر للأستاذ صلاح عيسى (عدد 163 سبتمبر صفحة 11 فقرة 3) ينوه صاحب المقال بأن انتصار 6 أكتوبر إنما هو تحقيق لأسلوب الحل الإمبريالي وبمساعدته» إلى أن يصل لهدفه من ذلك قائلاً: «وأنا أرى – وأحتكم للشعب المصري في هذا – أن هذه محاولة لتدمير كل ما بذله الشعب المصري والجيش المصري من أجل تحقيق انتصار استعدنا به كرامتنا»، ورد صلاح عيسى في عدد 24 سبتمبر من «الجمهورية» قائلاً إن السباعي «يستعدي عليّ كل السلطات في الدولة: قوات الجيش والأمن والشعب المصري والشعوب العربية، لكنه نسى – أكرمه الله – أن يطالب بشنقي» وهو يتعرض كذلك في مقاله الطويل لتفاصيل الخلاف بين «الكاتب» والوزير، التي جعلت الأخير يلجأ، بحسب ما قاله، للأساليب الملتوية، ومع هذا يوضح عيسى المعنى من وراء جملته «الحل في إطار الجبهة الإمبريالية» التي تحولت على يد الوزير ومستشاريه إلى «الحل الإمبريالي» ليستغلها السباعي فرصة في اتهام عيسى بإهانة الشهداء والتشكيك في الحرب، ويتساءل عيسى: «ولا أدري كيف ينسجم قولي هذا مع قولي إن ما حدث في أكتوبر كان (انتصاراً) ولا من توصيفي للاستراتيجية السياسية التي على أساسها اُتخذ قرار العبور» إلى أن يصل إلى التأكيد على أن «الخلاف في الفهم بيني وبين الوزير يؤكد فيما يبدو أن سيادته يظن أن الجبهة الإمبريالية شيء.. وأمريكا شيء آخر، فهل يعتبر سيادته أن ما أقوله يختلف مع ما يقوله كل من كتبوا عن الحرب وإستراتيجيتها السياسية؟ هل يريد أن يقنعني بأن الضغط على أمريكا ليس ضغطاً على الجبهة الإمبريالية؟».

وكتب أحمد حمروش في عدد 23 سبتمبر من «روز اليوسف» تحت عنوان «أعيدوهم إلى الكاتب» إن في قلبه مرارة شديدة لأنه شارك في إصدار هذه المجلة مع المرحوم الدكتور محمد مندور والدكتور لويس عوض، ورأس تحريرها منذ عددها الأول الذي صدر في أبريل 1961 عن دار التحرير، بعد أن كانت في بداية الخمسينات هي مجلة «أنصار السلام» التي يرأس تحريرها سعد كامل، وقال في رسالته: «غياب هيئة التحرير المسؤولة عن مجلة الكاتب يعني أنها سوف تغير اتجاهها الفكري وتنضم إلى سلسلة مجلات أخرى تصدرها وزارة الثقافة وكأنها تعبّر عن مدرسة فكرية واحدة»، أما أحمد حرك الذي يبدو من عنوان مقاله «ليس دفاعاً عن وزير الثقافة» المنشور في عدد 23 سبتمبر 1974 من جريدة «العمال الأسبوعية» فإنه يدافع باستماتة عن السباعي، وهو يبدو مكتوباً على طريقة «حبّوا بعض» إذ يقول: «ماذا يزعج الكتّاب الذين استقالوا من الكاتب من الذين أتى بهم وزير الثقافة إلى المجلة.. إذا كانوا يؤمنون بحرية الفكر والكلمة؟ لماذا لا يتعايشون جميعاً ويكتبون جميعاً في مجلة يقرأها أدباء ومثقفو مصر؟ لماذا؟ ألا يستطيع الفكر الماركسي أن يُعبّر عن نفسه إلا إذا كانت القيادة كلها ماركسية؟»، وعاد الدكتور محمد أنيس ليكتب مجدداً تحت عنوان «عندما يخطئ الوزير يُتّهم» في عدد 24 سبتمبر 1974 من «الجمهورية» وإن كانت نبرته أكثر قوة تلك المرة، وقد كان كل حرف ينطق به يشير إلى كذب الوزير غير أنه لم يقل ذلك صراحة، وبحسب ما كتبه «لا ينبغي لوزير الثقافة الذي استأمنته القيادة السياسية على إدارة سياسة الثقافة في مصر أن يكون غير صريح فيما يرويه عما جرى بينه وبين هيئة تحرير الكاتب» لقد كان مدهشاً بالنسبة له، كما هو الحال بالنسبة لكثيرين، أن يعطي الوزير أمراً لمدير مطبعة الهيئة العامة للكتاب بعدم جمع أي مقال للكاتب إلا بإذن منه شخصياً دون أن يُخطر رئيس التحرير، ثم يشير إلى أن السباعي أصرّ في كل محاولات التسوية على تعيين عبدالعزيز صادق مديراً لتحرير المجلة، معقباً: «وما نعلمه عن قدراته الثقافية لا تشجعه على أن يتولى هذا المنصب الهام والحيوي» وبالتالي «أبسط حقوق الكاتب إزاء هذا الموقف أن تطلب إعفاءها من تحمل المسؤولية»، ثم ينشر نص الاستقالة التي عرضها هذا التحقيق.

موقع الكتابة الثقافي ملف المجلات 09
 إعلان مجلة الثقافة التي يرأسها يوسف السباعي في الأهرام

نجيب محفوظ للسباعي: التراجع يعتبر تقدماً ونصراً وكرامة

وقد بدا ثروت أباظة وسط الأدباء الذين يشهدون لصالح «الكاتب» في ملف «الآداب» كالغراب الذي حطّ على طاولة يجلس حولها مجموعة من الأصدقاء متقاربي الأفكار، وليست هناك فوارق ضخمة في فهمهم للفن أو قضايا الحريات. فما الذي يمكن انتظاره منه؟ لقد قالت ابنته أمينة ذات يوم في «الوفد» إنهم يهاجمون أباها حياً وميتاً، ومن الطبيعي أن ينبشوا قبره، ومن الطبيعي كذلك أن لا ترى الابنة أي سوء فيما كان يفعله حتى لو كان يذبح خصومه بدم بارد، خاصة وأنه كان مثل كثير من كتّاب اليمين صاحب حجة ومنطق، لكنه منطق لا يرى في المخالف سوى عميل. يكتب في شهادته: «ومجلة الكاتب تصدر عن وزارة الثقافة، فليس عجيباً أن يكوّن الوزير المسؤول هيئة التحرير التي يراها صالحة، وأول ما يجب أن يتوفر لهذه الهيئة أن تكون مصرية، تصدر في مشاعرها وآرائها عن الفكر الوطني، وهناك جانب من اليسار ينتمي إلى الشيوعية العالمية التي ترفض الوطنية وتطلق عليها الشيفونية، وترى في الوطنية جريمة لا تغتفر»، وفي شهادته أثنى نجيب محفوظ على المجلة، إذ وصفها بأنها «تمثل تياراً فكرياً جديراً بالتعبير عن ذاته، لأنه تيار موجود له الحق – في نظري –  في التعبير عن ذاته، وفضلاً عن ذلك فهو لا يتناقض مع تيار الدولة التي تسير في طريق الاشتراكية»، ويتساءل: «كيف ينبغي أن يتصرف الوزير فيما يعتقد أنه خروج على الخط الوطني؟ هل يمنعه بوساطة موظف في المجلة من أهل ثقته؟» وهو يجيب قائلاً «إنه لحل معقول لو كان الوزير وزيراً للإعلام مثلاً، ولكن سيادته وزير للثقافة»، والثقافة بحسب ما ذهب إليه نطاقها ضيق وجميع روادها على درجة من الوعي تجعلهم يفكرون فيما يقرأون، ويصل محفوظ إلى ما يريده، لكنه لم يستخدم كعادته كلمات حادة أو حلولاً قاطعة، صحيح أنه يتبنى أن «يجيء التصحيح عن طريق القلم والكلمة لا عن طريق الرقيب» إلا أن أقصى ما اقترحه على «الوزير الأديب» بلهجته الحكيمة البسيطة التي طالما ميّزته: «أن يدعو مجلس المجلة القديم إلى لقاء جديد، وألا يعتبر التراجع عن قراره هزيمة، فطالما قابل هجوم أعدائه بالتسامح الكريم، فضلاً عن أن التراجع إلى ما يعز الفكر والثقافة يعتبر تقدماً ونصراً وكرامة».

وحينما تنتقل من شهادة محفوظ إلى شهادة إدريس يبدو كأنك انتقلت من مشاهدة غزال وديع لا يُسمَع له صوت، إلى مشاهدة أسد غاضب، لا يكف عن الزئير: «إن قطع اللسان ليس عقوبة، إنه جريمة تقشعر لها الأبدان، وإن مصادرة الكاتب جريمة في حق تحالف قوى الشعب العامل، ولا أعتقد أنه سياسة الدولة مطلقاً، تلك التي عبّرت عن نفسها في ورقة أكتوبر وغيرها، إنما هو إجراء من تلقاء ذات الوزير، إجراء يستهدف القضاء على نقطة ذكية ثورية مخلصة كي يسود المجلة ما يسود كافة أجهزة وزارة الثقافة من تسطيح وغثاثة وسلفية»، أما رضوى عاشور فقد أطلقت رصاصة باتجاه الوزير: «أشعر – وأعتقد أن الغالبية العظمى من المثقفين المصريين الشرفاء يشاركونني في هذا الموقف – بأن وجود السباعي كوزير للثقافة أمر مهين للغاية»، كما أن نبرة إبراهيم أصلان كانت عالية، فالأمور لا تحتمل الوسطية: «إن المشكلة كما نعرف جميعاً تتعلق بتلك النظرة الدونية الجهولة التي تحكم العمل الثقافي في مصر خلال هذه الأيام» ثم يتساءل: «هل نتكلم ونفكر بوصفنا رجالاً أحراراً أم كمستبدين؟» إلى أن يصل للقول: «إن عدم التعاون مع مجلة الكاتب في ظل هذه الظروف الجديدة، وبذل أي جهد من أجل مساعدتها على الاستمرار، بعد أن أُجبر رجالها على الرحيل، واحدة من الكبائر التي لن يغتفرها التاريخ لأي كاتب عربي، ذلك أنها ليست أقل من خيانة دنيئة في حق كل ما جاهد الإنسان من أجله، عبر سنوات طويلة من المظالم والانتهاكات»، أما شهادة عبده جبير فقد أكدت على وجود مخطط واضح منذ صدور «الجديد» و«الثقافة» و«المسرح والسينما» من قبل المسؤولين على مؤسسات وزارة الثقافة، مخطط «يعمل على تغليب تيار متخلف من المرتزقة والجهلة دعاة التجهيل، إلى حد يجعلنا نتردد في تسميته باليمين»، مخطط يمكن القول معه بوضوح إن «السيد الوزير ليس فقط يقف بصلابة في صف هذا التيار المتخلف، بل وفي موقف معارض تماماً للديموقراطية»، وسخرت شهادة محمود الورداني من الأمور، إذ يفاجئنا بأنه يرى ما يجري لـ«الكاتب» أمراً طبيعياً، ومفهوم طبعاً ما يقصده الورداني، أن السلطة وقتها كانت تسعى للهيمنة على أجهزة الثقافة، وبالتالي فإنه يصعب تصديق تركها المجال لمجلة جادة وكتّاب يسعون لإحداث التغيير، حتى أنه يقول ببساطة، بنفس لهجته الساخرة في نهاية المقال: «وعليه فلتغلق مجلة الكاتب بمنتهى البساطة»، ووجّه سعيد الكفراوي رسالة بليغة وحادة إلى الوزير لا تتناسب مع بدايتها بـ«يا سيادة الوزير»: «بعد أن أقفرت الحياة الثقافية في عهد د. عبدالقادر حاتم وعلا فيها صفير الخراب وشُكلت لجان النظام، وتمت تصفية كل التيارات التقدمية والمعارضة بدءاً بحركة الطلبة والعمال، وانتهاء بعزل المثقفين المصريين الشرفاء، والذين لولا ضغوطهم الحقيقية ما كانت اتضحت الرؤيا لدخول حرب أكتوبر المجيدة بعد تلك الفترة. جئت أنت فماذا قدمت؟ أتيت لتصفي مجلة (الكاتب) محاولاً ضرب تيار أنت ترى نفسك ضده من موقف الوزير المسؤول، واصطنعت لذلك شتى السبل كتغيير هيئة التحرير، وفرض هيئة جديدة من موظفي وزارة الثقافة ممن يحملون في أعماقهم الولاء لشخصك، ثم تكليف السادة ملتزمي الاسترزاق وجوقة المداحين التي ترى ضرورة غلق (الكاتب) وفي الوقت الذي قرر فيه رئيس الجمهورية رفع الرقابة عن المجلات والصحف كانت (الكاتب) المجلة الوحيدة التي تُفرض عليها الرقابة، ويُفرض عليها أشخاص حتى تتساوى مع مجلات الوزارة، مع بقية الجهات الأخرى في النشر والمسرح والسينما. يا سيادة الوزير: لقد اخترت مجموعة من الجياد الخاسرة، جياد لعقت – على طول تاريخها – نعال الملوك ووزراء الداخلية والمخبرين، بالله.. لقد اخترت الناحية الأخرى من التاريخ!».

الشاهد الثالث

محمود الورداني: السباعي ورجاله أرغمونا على ثورة الماستر

حينما طلب إبراهيم منصور من محمود الورداني المشاركة في ملف «الآداب» كان في ذهنه أن يكون هناك كاتب شاب في الملف، إذ كان يبلغ من العمر وقتها 24 عاماً، وقد كان إبراهيم منصور حريصاً – كذلك – على تمثيل كافة التيارات، بما فيها اليمين، ويقول الورداني إنه ينبغي النظر لما جرى للكاتب في سياق انقلاب القصر الذي قاده السادات بعد توليه، حيث لم يُطح فقط بمن كانوا يشكّلون مراكز القوى، بل أطاح أيضاً بمؤسسات الثقافة، التي كانت سائدة آنذاك، وصحف ودور النشر العريقة. في هذا السياق كانت الكاتب شوكة في ظهره: «كان يكنّ عداء شخصياً، فضلاً عن عدائه كممثل للدولة آنذاك، لليسار ولاستقلاله».

كان السباعي يتخيّل، أن نقاد اليسار لم يكتبوا عنه، بحسب الورداني، بسبب عدائهم لشخصه، وليس لأنه كاتب متوسط القيمة: «لا أنسى أنه نشر في مجلة (الجديد) التي أصدرها وربما في مجلة (الثقافة) ترجمة لمقال ناقد روسي يشيد به، وعلّق على هذا المقال متهماً نقاد اليسار بالغباء، لأنهم لا يلتفتون إلى أعماله بينما (أصحاب التوكيل) ذاتهم أشادوا به».

ويقول إن «السباعي انتظر الفرصة للتخلص من (الكاتب) المجلة المرموقة التي كان لها شأن فعلاً على المستوى العربي وليس على المستوى المصري فقط، ولذلك بدأ بعرقلة صدورها، وافتعال أزمات، وقدّم بلاغاً في صلاح عيسى، وفي محمد كامل القليوبي، وعزالدين نجيب، وكل كتّاب جمعية الغد. كان يحب البلاغات جداً».

كان الناس في هذا الوقت يقاومون مقاومة ضارية، وثمة نظرة متدنية للنشر في مؤسسات وزارة الثقافة، وعلى سبيل المثال كان إبراهيم أصلان يرى أن «ذلك النوع من النشر انتقاص من الكاتب»، كما قابل الورداني صديقه إدوار الخراط الذي أصدر للتو عملاً في سلسلة «ماستر» وسأله الورداني ضاحكاً: «ده أضعف الإيمان يا أستاذ إدوار، مش كده؟!» وردّ عليه الخراط بجدّية: «ده بقى الإيمان كله»، ولم يكن غريباً أن تحدث ثورة «ماستر» كاملة، حيث يتكاتف الجميع من لحظة الإعداد لإصدار المجلة وحتى توزيعها باليد: «أغلبنا كان يرفض في هذا التوقيت التعامل مع مؤسسات وزارة الثقافة، وعلى سبيل المثال كان مدهشاً لنا للغاية أن ينشر ثروت أباظة لنفسه قصة بعنوان (الشيوعي) في جريدة بحجم الأهرام، بعد أن تولى القسم الثقافي فيها، يكيل فيها التهم للشيوعيين ويقول إنهم أشخاص يفتقدون إلى الأخلاق». يتذكر الورداني كذلك شخصاً ثانياً من الأشخاص الذين طفوا على الساحة فجأة في ذلك التوقيت: «باح السادات بحزنه في أحد اللقاءات مع مثقفيه، ففزّ صالح جودت واقفاً، وقال بحماس مبالغ فيه: سيدي نحن نحمل حزنك عنك، فقال له السادات بامتعاض: اجلس يا صالح.. هذا حزني وأنا كفيل به»، أما الشخص الثالث فهو رشاد رشدي: «ظهر فجأة كنبتٍ شيطاني، أصبح صاحب مسرحيات تصدر في كتب، ثم تُمثّل على مسارح الدولة، لقد كان هذا الشخص عنواناً على طبيعة تلك المرحلة، وقد تولى مناصب مخيفة، منها أكاديمية الفنون لكنه خربها، كانت فترته فترة تعاسة كاملة بالنسبة للعاملين بها. ولم يكن هو وأصدقاؤه مثقفين أو أصحاب مشروع أو رغبة في بناء شيء، وإنما جاءوا لينهشوا في أجساد المختلفين وليمزقوا أي فرصة للاختلاف، وانظر مثلاً إلى نبيل راغب الذي كتب عملاً بعنوان (أنور السادات رائداً للتأصيل الفكري) لقد كانوا مدهشين في ريائهم»..

من «الطليعة والكاتب»:

ما رأيكم في الاحتكام إلى المعلومات؟

وكانت أول استضافة لـ«الكاتب» في «الطليعة» خلال العدد الحادي عشر، نوفمبر 1974، وقد توسط الغلاف برواز أسود، مدوّن فيه بخط أزرق واضح، وهو لون لوجو المجلة: «الطليعة تستضيف الكاتب» وكان العنوان الرئيسي للغلاف «اليمين المتخلف الذي طفح على جلد الأمة» وهو كذلك عنوان افتتاحية لطفي الخولي رئيس التحرير، وقد تساءل: «كيف وقعت ثورة يوليو في براثن هذه السلبية الخطيرة، التي تمكّنت من الاختباء تحت جلدها وداخل مؤسساتها، طوال هذه السنين؟» مجيباً: «يبدو أن الثورة ظنت أنه بمجرّد مصادرة أراضي كبار الملاك والمصالح الرأسمالية الكبيرة، فإن ذلك يعني التصفية لطبقة النصف في المائة المسيطرة والسائدة، غير أن التصفية المادية للمصالح، على الرغم من ضرورتها وأهميتها، ليست كل شيء، وإنما يستلزم الأمر أن يرتبط ذلك بتصفية اجتماعية تجتثُ بذور الطبقة – لا الأفراد – من الحقل الاجتماعي والسياسي والفكري، ويأتي ذلك من خلال حركة ديمقراطية شعبية واعية تمارس نشاطاً سياسياً وفكرياً مؤثراً وفعالاً، وتملك تنظيماً سياسياً طليعياً، يمثل فكر ومصالح القوى العاملة وتحالفها الوطني التقدمي. إن ما حدث هو أن الثورة اكتفت بالتعامل من فوق، وبالقرارات الإدارية العلوية، مع حالات فردية من أبناء هذه الطبقة. وظل الإجراء الإداري، وأحياناً البوليسي، هو الذي يُلجأُ إليه استسهالاً. وأُهمل العمل السياسي والفكري، فكانت النتيجة أن الطبقة الرجعية خسرت مواقعها الاقتصادية وبعضاً من نفوذها الاجتماعي، ونفوذ عدد من شخصياتها وزعاماتها البارزة، لكنها بقيت، كقوة اجتماعية، بقيمها الاستغلالية، ونشاطها الطفيلي، وعلاقاتها الاجتماعية، حية كميكروب مستكن بالجسم».

إن خروج هذا التحقيق في بعض الأماكن عن خطه الرئيسي لا يهدف لاستعراض المصادر المتوفرة، بقدر ما يسعى للتأكيد على أن المواجهة الرئيسية بين اليمين واليسار في ذلك التوقيت كانت على فهم كل معسكر لمفاهيم السياسة.

وقد كتب لطفي الخولي كذلك مقدمة ملحق مجلة «الكاتب» في ذلك العدد، من باب أن الضيوف كبار، ولا بد أن يقابلوا بترحاب من أكبر رأس في المكان، كما كان ذلك يمثل رسالة لكل القوى الوطنية، حيث كان يُنظر إلى لطفي الخولي بتقدير. يكتب: «بكل إعزاز وتقدير للمسؤولية، تفتح أسرة تحرير (الطليعة) أذرعتها بترحاب أمام أسرة تحرير (الكاتب) كي تشاركها منبرها وهذا أضعف الإيمان، نحن و(الكاتب) نقف جنباً إلى جنب على أرض الوطن التقدمية والقومية. من موقع كل منا ومنهاجه في الرؤية والتحليل، نختلف حيناً ونتفق حيناً آخر. لكن يجمعنا في النهاية مصير واحد. مهنياً: الجدية والموضوعية. فكرياً وسياسياً: الولاء لقضايا العمال والفلاحين والجدود والمثقفين في مصرنا ووطننا العربي. سواء فيما يتعلق بالنضال ضد الإمبريالية والصهيونية. أو ما يتعلق بالتغيير الاجتماعي الذي يعادي استغلال الإنسان للإنسان. أو ما يتعلق بقضية الديمقراطية وحرية التعبير لجميع القوى الوطنية والتقدمية دون استثناء» وحرص الخولي على توضيح أنه ليس بين «الطليعة» ووزارة الثقافة أي عداء شخصي، بل أوضح أنه لطالما ربطته علاقة تقدير واحترام مع يوسف السباعي الكاتب والوزير، مستدركاً: «غير أن الطليعة، من منطلق فكري وسياسي، يختلف موضوعياً عن منطلق الأستاذ السباعي كاتباً ووزيراً، ترى أن وزارة الثقافة قد أساءت استخدام سلطتها تجاه (الكاتب) وأسرة تحريرها. وذلك بالخروج على الخط الرئيسي للتحالف الوطني الذي يقوم على تعدد المنابر والآراء والاتجاهات وكفالة حرية التعبير المسؤول لها جميعاً» إلى أن يصل للختام قائلاً: «وذات صباح، يصيح ديك سقراط، وتشرق (الكاتب) من جديد».

وخصصت أسرة تحرير «الكاتب» مقدمتها كذلك عن «الطليعة» تحت عنوان «الكاتب.. والطليعة!» مؤكدة امتنانها البالغ لموقف زميلة في هذا الظرف العصيب الذي تتعرض له: «إن موقف (الطليعة) يتميز في هذه الظروف بنضج وطني وثوري، تشعر أسرة (الكاتب) أنه تعبير عن أوضاع إيجابية في ساحة الفكر والثقافة في بلادنا، وتتأكد معه حتمية هزيمة كل محاولات حصار الفكر الثوري والتقدمي»، وتحت هذه المقدمة ترويسة المجلة وتضم رئيس التحرير أحمد عباس صالح، وسكرتيري التحرير حسن سليمان، أحمد القصير، حسنين كروم، ومجلس التحرير كمال الدين رفعت، لطفي واكد، د. محمد أنيس، د. يوسف إدريس، رجاء النقاش، وصلاح عيسى.

وبالتوازي مع مقال لأحمد عباس صالح تحت عنوان «حرب الردة في الثقافة المصرية» تنشر المجلة هوامش بعنوان «حقائق»: «قبل أن تُضمُّ الكاتبُ لوزارة الثقافة وعلى مدار ثلاث سنوات ابتداء من أواخر سنة 1964 إلى أوائل سنة 1967 كانت تطبع اثنى عشر ألف نسخة» و«يُطرح في مصر ثلاثة آلاف نسخة توزع منها 2500 نسخة» و«تطرح في العراق خمسة آلاف نسخة عن طريق الموزع الحر تباع جميعاً!» و«تطرح في البلاد العربية الأخرى أربعة آلاف نسخة تباع جميعها» و«حرمت مجلة الكاتب من أية مكافأة للتحرير مدة ثلاثة عشر شهراً» و«لمدة ثلاثة شهور متوالية لم تتسلم شركات التوزيع نسخة واحدة من مجلة الكاتب» و«غير مصرح للكاتب إلا بإعلان واحد ليوم واحد في جريدة الأهرام مساحته x 1010سم » و«تبيّن أن نسخ الكاتب تخرج من المطبعة إلى المخازن مباشرة» و«طلب الموزعون في الجزائر وليبيا وسوريا زيادة عدد النسخ التي تُرسل إلى هذه الأسواق من الكاتب، ورفضت الهيئة الاستجابة إلى هذه الطلبات» و«كُشف هذا التلاعب الخطير ورفع أمره إلى الدكتور محمود الشنيطي رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، فأجرى تحقيقاً وفصل الموظف المسؤول» و«محروم على مجلة الكاتب أن يُعلن عنها في التلفزيون مثل سائر مجلات وزارة الثقافةۚ»، كما نشر الملحق بالتوازي مع مقال صلاح عيسى «مستقبل الرجعية في مصر» هوامش أخرى تحت عنوان «حقائق»: «تطبع الكاتب عشرة آلاف نسخة توزع كالآتي: خمسة آلاف نسخة في العراق، 2500 نسخة في البلاد العربية الأخرى، 300 نسخة اشتراكات، باقي النسخ توزع في السوق المصرية، المجموع في المتوسط 8800 نسخة، كل ما تسمح الهيئة العامة للكتاب بطرحه في السوق المصرية من نسخ الكاتب هو 1500 نسخة تبيع منه في المتوسط حوالي ألف نسخة! طبعت الكاتب عشرة آلاف نسخة في آخر عدد لها والذي صدر في أول سبتمبر 1974، طرحت في مصر 2171 نسخة نفدت بعد 48 ساعة، عادت الكاتب فطرحت 1500 نسخة بناء على طلب شركة الأخبار للتوزيع فنفدت جميعاً، مجموع ما بيع من الكاتب في شهر سبتمبر داخل مصر 3671 نسخة، ووزع الباقي في العالم العربي».

وعرض الملحق «نماذج من أدب الحوار» للتدليل على سقوط اليمين في الوحل، وبدأت بفقرتين لفوميل لبيب عدد 27/ 9/ 1974 من «المصور»، الأولى: «… هم الذين كانوا لا يرضون بأن يكتب في عهدهم من لا يتفق وهواهم، ثاروا ثورة كبرى، لأن يوسف السباعي وزير الثقافة وضع في منصب مدير تحرير المجلة زميلاً يدير تحرير أكبر مجلات أفريقيا وآسيا انتشاراً وتقدمية.. وضم إلى عضوية مجلس التحرير أديباً هم أنفسهم يعترفون بمكانته. ماذا عليهم لو قبلوه؟ كلا.. اجتمعوا وأنكروا على الوزير أن يراقب ما تقوله مجلة تمولها الوزارة مع أن له عليها هذا الحق البديهي، وهو أن تكتب ما ليس ضد مصر،  وقد علمت أن عدداً من السفارات الأجنبية تلقى هذه الشكوى الجماعية فما شأن السفارات بقضية داخلية؟ ولعلي أتساءل متى تأخذون القضية إلى مجلس الأمن، بل متى تتحرك من أجلها الأساطيل؟» والثانية: «… النغمة الكاتبية سمعناها من إذاعات ما بعد منتصف الليل، وقرأناها في صحف بيروت الممولة من الحاقدين على انتصار مصر، والنغمة الكاتبية فرضاً عن سوء النية نشاز لا ينبغي أن يُدس في أنغام مصر».

ونشرت فقرة من مقال لنبيل راغب في نفس العدد من «المصور»: «وعندما وقعت هزيمة 5 يونيو المنكرة ظن اليسار المصري أن هذه فرصة العمر لإثبات أن إنقاذ مصر لن يتأتى إلا بالسير في موكب الأتباع والذيول، وخاصة أن مصدر السلاح الرئيسي يشترط تصديره مع المبادئ والأفكار»، كما نشرت فقرة أخرى لعبدالعزيز الدسوقي في عدد 7 أكتوبر 1974: «… من أخطر الظواهر المرضية التي فرضت لها حياتنا الثقافية والفكرية طوال عقد الستينات، عقد الهزيمة اللعين، ظاهرة التزييف الأدبي والفكري، بعد تلك الحملة الضارية على كل قيمنا الفكرية والروحية التي قام بها قرامطة الفكر وزبانية الثقافة ولهؤلاء قصة سأرويها بعد ذلك، ولكني اليوم سأسلي القارئ بشخصية اسمها الدكتور محمد أنيس…» و«أما تابعه قفة – يقصد الكاتب هنا زميلنا صلاح عيسى – ذلك الصبي التعيس الذي عُيّن في الصحافة على قصاصة ورق من شعراوي جمعة، فأمره غريب، وله قصص كقصص ألف ليلة وليلة، سترويها لنا شهرزاد في نفس المعاد.. ولكني لن أكتبها حتى ألقي اللوم على الأخ العزيز مصطفى بهجت بدوي الذي يحيرني موقفه الظاهر، والذي يسمح لمحمد أنيس وتابعه قفة باتهام الشرفاء بالكذب على صفحات كاملة من جريدة الجمهورية».

وينشر الملحق قصيدة للشاعر كامل أمين في عدد 26 سبتمبر 1974 من مجلة «الثقافة الأسبوعية» وتقول في ملحوظة أسفل القصيدة إنه: «من الواضح أن المقصود بذلك هو الأستاذ لويس عوض» وإلى القصيدة:

«وأحول في عينيه شرق ومغرب     

يقـــــــولان عنــه إنــه لمذبذب

عدو لــــدود للعروبـــــــــة ينعب   

وأي غــــــراب للبلابل يطـرب

له كلمـــــــــــات كالبثور بوجهه  

وفي كل معنى كلمة منه أجرب

وتعجب منه وهو مســـــخ مشوه    

بها أنه من قيحــــــــــها يتطبب

إذا ذُكر الشعر العـــــمودي ظنه    

عموداً حديدياً به سوف يضرب

يدل انزواء الضاد في آخر اسمه   

على أنه فيه غريــــب ومتعب»

وينشر أيضاً فقرة من مقال لصالح جودت بتاريخ 4 أكتوبر 1974 في «المصور»: «إن من يكون ماركسياً لا يمكن أن يكون مصرياً.. فالماركسي مجبول على الإلحاد بينما المصري مجبول على الإيمان»، ويقول إن إخوان ماركس يعيشون في الفيلات الفاخرة ويمتلكون العمارات الشاهقة ويستقلون السيارات الفارهة.

موقع الكتابة الثقافي ملف المجلات 10
يوسف السباعي إلى جوار مارلين مونرو على غلاف روزاليوسف

من يوسف السباعي إلى صلاح حافظ: اشرب الليمون!

والسابق يمثل مقبّلات المائدة الكبيرة العامرة لملحق الأدب والفن داخل «الكاتب» الذي جاء تحت عنوان «مناقشة أفكار وزير الثقافة حول المسرح والسينما والفن التشكيلي» وقد رد فيه ثلاثة كتّاب هم فريدة النقاش، وسمير فريد، وعزالدين نجيب، على ما ورد بحوار يوسف السباعي لمجلة «روز اليوسف»، وقد كان لـ«روز اليوسف» دور عظيم في هذه القضية، فقد أفردت صفحاتها للتحذير من إغلاق «الكاتب» بل إن رئيس تحريرها صلاح حافظ كان كمن يضع الوزير يوسف السباعي في كمين، في العدد 2412 الإثنين 2 سبتمبر 1974، إذ نشر حواراً معه، ولكن ذلك الحوار امتد على أربعة أعداد كاملة حتى 23 سبتمبر، وهو ليس حواراً بالشكل التقليدي، وإنما ريبورتاج، أو سمّه حواراً متضمناً، كان صلاح حافظ يخرج منه أحياناً ليعلق على جولته مع الوزير في مدينة الفنون «أكاديمية الفنون حالياً»، يعلق على تصرف قام به مثلاً كأن يقول: «صلاح يقرأ البريد»، فما الكمين الذي نقصده؟ إنه افتتاحية العدد نفسها التي كتبها صلاح حافظ، وكانت العنوان الرئيسي للغلاف «تحذير إلى اليمين»، بل إنه لم يكن هناك سوى عنوان آخر هو «عدد خاص: عالم الفن» بالإضافة إلى صورة للوزير وإلى جواره صورة لفتاة جميلة بالمايوه وأخرى لمارلين مونرو وإلى يساره رسمة مأخوذة من جدار قصر الجوسق بسامرا، وهو من طراز الفن العراقي المتأثر بفنون وسط آسيا، وفي تلك الافتتاحية تبدو انحيازات رئيس التحرير واضحة، فهو يعلن أن اليمين يجاهد لإخفاء الحقيقة: «وهي أن الذين كافحوا عملياً من أجل التصحيح والديمقراطية والوطنية، ودفعوا الثمن قبل الثورة وبعدها من حرياتهم وأرزاقهم وسنوات عمرهم، كان معظمهم من اليسار الوطني، لكن عيب اليسار الوطني أنه لا يجيد عرض جراحه وإصاباته، ولا يطلب تعويضاً عنها من أحد، بينما اليمين يجيد ركوب الموجات، وادعاء البطولات، ويتقن فن الشحاذة بذراع ملفوفة في الجبس وهو سليم»، وقد بدت هذه الافتتاحية كأنها لكمة في وجه الوزير، خاصة وأن صلاح حافظ حاول بقدر الإمكان أن يظهر عنف أسئلته أو طريقة تعامله مع الوزير، وقد خيّره حافظ بين أن يرد شفاهياً أو كتابياً واختار الوزير الكتابة، لكننا عبر ديالوج بين الاثنين نستمع إلى ما هو أهم من الأسئلة، إلى اقتناع حافظ بأن الوزير يخرّب الحياة الثقافية، فحين سأله السباعي: «هل نسيت أني كاتب؟» أجابه حافظ: «لو نسيت ما جئت إليك أصلاً، إن ما يزعجني هو أنك كاتب، وصحفي، ومسرحي، وسينمائي، وسياسي، ومع ذلك يشكو في عهدك الكتّاب والصحفيون والمسرحيون والسينمائيون والسياسيون»، وفي هذا الحوار يبدو مفهوم السباعي البسيط للثقافة جلياً: «الثقافة في رأيي معرفة جذابة، معرفة يجد الناس فيها متعة، معلومات يتذوقونها بلذة»، ورد عليه حافظ بسخرية: «أليست هذه نظرية شباك التذاكر؟!»، وفي هذا الحوار يعرّج السباعي إلى المجلات، مردداً نفس العبارات التي فندها صلاح عيسى عن خسائرها: «هذه المجلات كانت تصدر من المطبعة إلى المخزن»، وفيما يتعلق بـ«الكاتب» يقول السباعي: «ليس صحيحاً أنني أصدرت قراراً بإغلاقها، هذه مغالطة، لقد توليت الوزارة وأنا أتصوّر أن المجلة مستقلة عنها، ثم تبينت أننا ننفق عليها، فطلبت كشفاً بحساباتها. هذا كل ما حدث. ولا أظن أن أحداً في هذا العالم يقبل أن ينفق على مجلة دون أن يراقب أين تذهب أمواله، وفي سبيل ماذا؟»، ويرد عليه صلاح حافظ: «ألا يجوز أن تكون هذه خطوة نحو التحكم في اتجاه المجلة، خاصة وأنه اتجاه يساري قد لا يروقك؟»، فيرد السباعي: «هذه تهمة أخرى، لاحظتها في أحد الأسئلة التي قدمتها لي، وأنا في الحقيقة مندهش» ويمضي في التأكيد على أنه لا يكره أي تيار فكري في هذا العالم، وأنه أديب، وقد تتغير آراؤه بين يوم إلى يوم، فلا أقل من أن يحترم حق الآخرين في اعتناق هذا الرأي أو ذاك، ويُرجع كراهية اليسار له إلى خلافات شخصية، وحينما يرى أن رسالته وصلت، رغم أنه يظهر لنا عدم انطلاء كلامه جملة وتفصيلاً على رئيس التحرير، يقول له خاتماً الحوار: «اشرب الليمون».

وتكتب فريدة النقاش تحت عنوان «رسالة وزير الثقافة على المسرح»: «في أحاديثه المتصلة طيلة شهر كامل على صفحات مجلة روز اليوسف يتحدث يوسف السباعي وزير الثقافة بثقة مطلقة عن اتجاه الوزارة بكل مؤسساتها ورجالها ومشروعاتها إلى تحقيق رسالتها الثقافية، وفي ميدان المسرح يصرّح بأن (وزارة الثقافة تقدم الرسالة على التجارة. وهي كما يقول سؤالك قد قامت من أجل هذه الرسالة، وعملاً بواجبات آداء الرسالة شكلت لجان القراءة والرقابة.. وأعلنت عن مسابقات في كل الفنون.. إلخ) ونحن نتفق مع السيد الوزير أن ما يقوم به الآن في مجال المسرح هو تأدية لرسالته على خير وجه، ولكن أي رسالة تلك؟». فريدة ترى أنّ هناك مدرستين في فهم دور الثقافة وتناول إنتاجها، والمسرح طبعاً أحد أنشطتها الهامة: «المدرسة الأولى ترى في الثقافة لهواً وعبثاً وتزجية لأوقات الفراغ الزائدة، وهي في أرقى حالاتها وأشكالها المتماسكة تجسّد عدم الثقة في قدرات الإنسان، والتشاؤم الكامل بخصوص مستقبله ومصيره، وتعد مواصفاتها بوعي كامل لتخدم أغراضاً محددة، هي إما أن تلعب دور المهضّم – ونحن نستخدم كلمات الوزير نفسها – الذي يساعد المتخمين على هضم الطعام خوفاً عليهم من التلبك المعوي، أو أنها لغير المتخمين، هؤلاء الذين يعيشون بالكاد فإنها تلهيهم ببراعة عن واقعهم» أما المدرسة الأخرى بحسب فريدة النقاش فهي: «تلك التي تؤمن إيماناً لا يحدّ بطاقات الإنسان وقدرته على تحسين واقعه حين تقيم صلة عميقة متوغلة في حياة الشعب، لا على السطح وإنما في أعمق الأعماق»، ومفهوم طبعاً أن يوسف السباعي لا يعرف شيئاً عن المدرسة الثانية، بل إنه يحاربها كما يقول جميع معارضيه في هذا التوقيت.

وبمناسبة المسرح في عهد السباعي، وقبل إكمال قراءة مقالات (الكاتب) هناك مقال شديد الأهمية في عدد «الآداب» العاشر، لسامي خشبة، يلي ملف إبراهيم منصور عن «الكاتب»، ويأتي تحت عنوان «الثقافة الرمضانية والوظيفة الفسيولوجية للفن!»، وفيه يسخر خشبة بدوره من مفهوم ثقافة «الهضم والتلبك المعوي» التي يعتنقها الوزير، ساخراً من مقولة إن «الشعب المصري ينبغي أن يحارب وهو يقهقه» عارضاً للمسلسلات والأفلام التجارية التي انتشرت في ذلك التوقيت، وكذلك المسرح. يتساءل خشبة: أليس من واجب الفن أن يساعد على هضم الطعام لا أن يسبب التلبك المعوي؟» موضحاً أن «هذه الوظيفة الجديدة للفن ليست من ابتكاري، ولا أنا أتفكه بها، وإنما هي من ابتكار الأستاذ يوسف السباعي، في حديثه مع صلاح حافظ في روز اليوسف»، وتعقيباً على افتتاحية السباعي لمجلة «الثقافة» في شهر سبتمبر 1974 يعقّب خشبة ساخراً: «لست أعتقد يقيناً أن وزير الثقافة المصري مقتنع بأن ما تقدمه أجهزة وزارته الآن (ربما باستثناء جهاز الثقافة الجماهيرية نسبياً) هي من قبيل الأشياء التي حددها لكي تساهم في (بناء الإنسان) على حد تعبيره، في افتتاحية تلك المجلة في ذلك العدد. أدعوه مثلاً إلى مشاهدة (أهلاً فار السبتية) على مسرح مصطفى كامل، وليكن مقياسنا المتواضع هو (كلام فارغ) التي تُعرض في نفس الوقت على مسرح يوسف وهبي، شريطة أن يذهب متخفياً، حتى لا تتحول سهير الباروني إلى راهبة محتشمة، وحتى لا يكفّ ممثلون آخرون عن تبادل أكثر ما يتخيله من كلمات القافية بذاءة، عندما يعلمون بوجود السيد الوزير، والتخفي من جانب الحكام شيء في تراثنا على ما جاء في ألف ليلة. وأدعوه أن يذهب ليتفرج على (بمبة كشّر) أو (في الصيف لازم نحب) وليذهب معلناً عن نفسه هذه المرة، فالشريط المعلب لا يمكن تغييره»، ويطالبه بأن يكون المقياس تلك المرة «خلي بالك من زوزو».

ونعود إلى ملحق «الكاتب» في مجلة «الطليعة» ومقال سمير فريد تحت عنوان «سينما هضم الطعام وسينما التلبك المعوي» والسينما كما يراها لا علاقة لها كما يقول السباعي بهضم الطعام، ولا عدم هضمه، غير أن التشبيه، بحسب سمير، يعكس مدى كراهية الوزير – ثم الوزارة – للسينما الملتزمة (والسينما الملتزمة التي يقصدها هي السينما الجادة إذ أن التعبير اكتسب حالياً سمعة سيئة فقد أصبح يشير إلى السينما النظيفة الخالية من الأحضان والقبلات وغيرها) وموقف الوزير من الالتزام في الأدب والفن موقف قديم من قبل أن يتولى الوزارة، غير أن الواجب على أي وزير للثقافة أن يتيح الفرصة لازدهار كل الاتجاهات الفكرية في بلاده، وليس الاتجاه الذي يؤمن به شخصياً، والربط بين الوزير والوزارة قائم في أغلب الدول النامية على أية حال، وهو من سمات التخلف المرعبة، وتعقيباً على قول السباعي لصلاح حافظ إنه «لم يحدث أن وقفت الرقابة تناقش أفكار المؤلفين ووجهات نظرهم الاجتماعية والسياسية، وأنها رقابة موظفين حقاً، ولكنهم موظفون مثقفون. ولست أدري ماذا تفعل الرقابة إذا لم تكن تناقش أفكار المؤلفين ووجهات نظرهم الاجتماعية والسياسية؟» يعقب سمير فريد: «قضية الرقابة في مصر ليست قضية الموظفين الذين يتولون المنع والإباحة فقط، ومهما كانت درجة ثقافاتهم، وإنما هي قضية قانون الرقابة المتخلف، وملحقاته السريّة، وتعدد الأجهزة التي تستطيع أن توجّه الرقابة شفوياً أو تحريراً. وقد اعترفت وزارة الثقافة بالقصور في إدارة الرقابة، وشكّلت لجنة عليا يُحتَكم إليها، ولكن هذه اللجنة تضم أيضاً نفس العناصر الوزارية ذات الاتجاه الواحد».

وخصص عزالدين نجيب مقاله «الفن بين الواجهة والضرورة» للرد على الجزء المتعلق بالفن التشكيلي والتبادل الثقافي والآثار والمتاحف، ويتساءل: «هل تمت في عهد السيد الوزير دراسة لواقع الفنون التشكيلية بأطرافها الثلاثة وهل وضع التخطيط أو البرنامج الذي يلبي الاحتياجات في الحاضر والمستقبل؟ وبأي رؤية ينظر إلى دور الفن؟ أن يسعى إلى الترفيه عن الإنسان أم أن يسعى إلى بناء الإنسان؟ لو كانت الأولى: فلا مجال للحديث عن (الضرورة) إزاء ضرورات أكثر أهمية للمواطن. ولو كانت الثانية: فإن هذا يجعل من مسؤولية الوزير أن يكافح للحصول على الدعم الضروري من الدولة لتنفيذ برنامجه، من زاوية أنه لا يقل أهمية عن بقية برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية»، وعبر عدد من النقاط يبدو كما لو أن عزالدين نجيب يضع دستوراً مصغّراً لدولة الثقافة: «إن بناء متحف للفن لا يقل أهمية عن بناء مصنع أو مدرسة» و«إن إنشاء قاعة للمعارض أمر لا يقل أهمية عن إنشاء فندق سياحي» و«إن إقامة مكتبة أو مسرح أمر لا يقل أهمية عن إمداد قرية بالكهرباء» و«إن إعداد بيت للإبداع الفني أمر لا يقل أهمية عن عشر بعثات لدراسة التكنولوجيا» ويختم مقاله الطويل: «هكذا أدركت كل الأمم المتحضرة أو الساعية إلى التقدم، شرقاً أو غرباً، ولم تقف دون ذلك الظروف الاقتصادية، أو حتى العسكرية.. فما بالنا لو كان المطروح هو الاختيار بين بيت للإبداع الفني، أو ملهى سياحي!» ويوجّه تساؤله للوزير: «هل الفن عندنا ضرورة جماهيرية.. أم نشاط ثانوي يعني استكمال الواجهة؟!». 

ما الذي فعله عبدالصبور بمحرر «الكاتب»؟ وهل استخدم شعراء السبعينات؟

وقد دانت السيطرة لصلاح عبدالصبور على «الكاتب» ولكنه – مع هذا – كان حريصاً على أن يحرّك الأحداث من خلف الأبواب، وحتى حينما كان يريد أن يكتب رأياً سياسياً في المجلة فإنه يكتبه باسم «المحرر» وقد يتساءل أحد: وكيف نعرف أنه هو المحرر؟ لقد كان عبدالصبور ببساطة يكتب في كثير من الأحيان عن نفسه، عن قضايا ذاتية، وبالتالي وبعد مرور وقت طويل من كتابة الافتتاحيات صار الجميع يعرف أنها تخصه، كتب مثلاً في العدد 176 نوفمبر 1975: «في عطلة العيد الماضي خرجت من زحام القاهرة وضوضائها إلى مدينتي القديمة، الزقازيق، وقضيت فيها يومين كسولين، وخرجت في ثاني أمسية لأطوف المدينة، ولتمتد خطاي إلى شط هذه الترعة التي رعت صبانا وأحلامنا، والتي كنا نظنها في زماننا القديم ثامنة بحار العالم السبعة، ونتنادى وصحابنا أن نخرج للنزهة حين يسقط ظل الأصيل على شط البحر، بحر مويس، حيث نرعى ذكريات أوهام الهوى، ونحلم بأقمار المستقبل الغافية وراء السحاب، ونتناشد شعر معلمينا، من سادة شعراء الزمان» ومعروف طبعاً أن عبدالصبور وُلد في مدينة الزقازيق في 3 مايو 1931، وكان يخرج أحياناً في تلك الافتتاحيات عن الخط الذاتي إلى الخط السياسي، مشهراً أظافره، لكنها كانت أظافر مقلّمة، ومجرد محاولات لخربشة الوجوه في المعسكر الآخر، معسكر اليسار. يكتب مثلاً عن الطريقة التي تفسد بها الاشتراكية في العدد 170 مايو 1975، وقد يكون معه كل الحق فيما يذهب إليه لكن هناك إمكانية لفهم أنه يقصد جبهة أحمد عباس صالح: «مهما تختلف السبل نحو الاشتراكية، ستظل غايتها هي الإنسان. بل إن الإنسان.. سعادته ورخاؤه.. هو الغاية التي يجب أن يتوخاها كل فكر سياسي مهما تعمق بعد ذلك أو قبل ذلك في البحث التاريخي أو التحليل الاقتصادي، ومهما يرفع بعد ذلك من شعارات وأقوال. والغريب حقاً أن كثيراً من المذاهب تتحدث كثيراً عن الوسيلة، وتنسى الغاية. وتكون النتيجة المحققة آنذاك أن تنمو بذور فسادها في داخلها، وتنشغل بالشعارات والأقوال عن الواقع. ويسقط حُسن نيتها في سوء تطبيقها»..

وفي ذلك القبو الضيّق من 1117 كورنيش النيل كان صلاح عبدالصبور يصنع ما سيتحول على مدار عقود قادمة إلى أحد أكثر الأجيال الشعرية إثارة للجدل في تاريخ الشعر العربي. أي جيل السبعينات.

وقد لجأ عبدالصبور إلى هؤلاء الشباب الباحثين عن فرصة للنشر، إذ أنهم ربما لن يكونوا مدينين لأحد بشيء، ولن يحتاجوا لدفع فواتير معارك لا تخصهم، كما أن طموحهم في الذيوع والانتشار ربما سيجعلهم يغضّون النظر عن الصراع الدائر، وقد كان السبعينيون مجموعات غير متجانسة، مجموعات اجتمعت تحت شعارات كبرى، شعارات جمالية غامضة، غموض المستقبل. لقد وصل إلينا أنهم اجتمعوا على أفكار جمالية وأخلاقية لكن الحقائق التي تحفظها الأوراق تقول كذلك إنهم اجتمعوا على أرضية المصالح، وليست الكلمة عيباً بالنظر إلى شباب يشقون طريقهم، ويحاولون إثبات أنفسهم وسط عالم مغلف بالأفكار الضخمة التي صاغها الستينيون، لقد بدا أن الستينيين قد ابتلعوا المجال، لكن السبعينيين جاءوا وحفروا لأنفسهم سككاً بسيطة، وقد بدأوا متفرقين، لكنهم تجمعوا ثم تفرقوا مجدداً، وهكذا تمضي الحياة بهم، فرادى أحياناً، جماعات أحياناً.

حسن طلب يقيّم ملف حلمي سالم عن على قنديل

وعلى سبيل المثال سمح حسن طلب لنفسه بأن يقيّم جهد زملائه، وأن يقلل منه، وأن يأخذ موضع الأستاذ في تعقيبه على الملف الذي نشروه في العدد 175 أكتوبر 1975 عن صديقهم على قنديل الذي مات في حادثة قاسية، وقبل التطرق لما كتبه حسن طلب نستعرض ما كتبه الشعراء في الملف، الشعراء الذين سيشارك بعضهم تجربة إصدار «إضاءة 77» بعد عامين على هذه الواقعة.

جاء الملف الذي أفرد له عبدالصبور مساحة معقولة وأعده حلمي سالم تحت عنوان «موت شاعر شاب»، وكانت مقدمته تقريرية ومنسوبة لمجلة «الكاتب»: «في الشهر قبل الماضي اختطف الموت الشاعر الشاب علي قنديل الذي سبق أن نشرنا إحدى قصائده وكان موت الشاعر الشاب ضربة ساخرة من ضربات القدر. فهو لم يمت على فراش أو عقب مرض، وإنما مات في الطريق ضحية لسيارة عمياء وسائق مجنون. وكان علي قنديل موهبة تعدُ بالكثير، وتستقطب الكثيرين من زملائه وأبناء سنّه.. ولد بقرية الخادمية، مركز كفر الشيخ في 5 أبريل 1953 وتفوق في دراسته الإعدادية، فالتحق بالمدرسة الثانوية للمتفوقين بالقاهرة التي أهلته للالتحاق بكلية الطب عام 1971. وفي كفر الشيخ اشترك في تأسيس جماعة أدبية باسم (حوريس) وفي القاهرة اشترك في تأسيس ندوة مجلة الشباب الأسبوعية، وفي المدينتين معاً كتب شعره المتدفق الوهاج، وتعلق بحلم جميل: أن يجدد في القصيدة العربية وأن يشحنها بكهرباء جديدة. وفي محاولته الدائبة لتحقيق حلمه – الذي شاركته فيه مجموعة من زملائه وأصدقائه – راح يجدد ويغامر بحب بالغ للشعر وإيمان صوفي برسالته. ثم مات علي قنديل، فجأة وبغير مقدمات.. ومع الدهشة واللوعة تجمّع أصدقاؤه وزملاؤه، وراحوا يجمعون شعره، ويتأملون فيه، حتى صار لديهم، ما يقرب من (الملف) جاؤونا به بغية أن يظل قنديل زميلهم متوهجاً ومضيئاً».

وكتب حلمي سالم ما يشبه المقدمة الثانية: «إن هذه الصفحات القليلة التي نقدمها بين يدي القارئ لا تهدف إلى رثاء علي قنديل بل إلى أن يقترب القارئ من عالم شاعر حقيقي لم يتجاوز الثالثة والعشرين، لم يكد يدخل ساحة الاقتتال الشعرية شريفاً وجسوراً حتى اختطفته عربة من الصفيح والجهالة، كما أن اختيار القصيدة المقدمة لا يقوم على أساس تقويمي بل على أساس تذوقي، مع حرصنا على أن نساعد القارئ على الدخول إلى عالم هذا الشاعر الذي يقول في براءة وارتقاء. خلقت من نفسي كهرباء نفسي» ووصف جمال القصاص «قنديل» بأنه: «الشاعر الحالم بالرياح المغامرة وبالمخاض إذ يجيء من رعدة الطين وتشققات الحجارة، وبالطبيعة إذ تنمو وتصحو مليئة بكائنات التحول، مطلقة روح الأشياء كي تخاصر العناصر البريئة، وتكسر عقم الترصد والضرورة وينزل كل شيء ساحة الإشراق»، ويتجاهل سيد حجاب «حسن طلب» في تأريخه للشعر المصري عبر أجياله بادئاً بأحمد شوقي الذي جاء بعده شعراء قصار القامة: «كانوا منكفئين. بعضهم انكفأ على ذكريات وادي عبقر وجبل الأولمب، وبعضهم انكفأ على أناشيد الرعاة، وبعضهم على ذاته المهيضة انكفاء، والبعض عكف على شعراء الرومانسية الإنجليزية مع حلم محبط يوصل هؤلاء الرومانسيين بنصاعة الكلاسيكية العربية لخلق القصيدة الحديثة!!»، ثم «جاءت موجة الخمسينات الجارفة، أخلاط وأمشاج من الشعراء أنصاف الشعراء وأرباعهم» ومن بين البعض الذي يرضى عنه سيد حجاب هنا صلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وصلاح جاهين، ثم أمل دنقل، ومحمد إبراهيم أبوسنة، ويضع نفسه ضمن القائمة (سيد حجاب) وعبدالرحمن الأبنودي وزين العابدين فؤاد، ثم عفيفي مطر، ثم علي قنديل وحلمي سالم وأمجد ريان، ثم يمضي إلى تحليل بعض قصائد علي قنديل ومنها ما نشر في ذيل الملف مع رسومات لبكري محمد بكري.

وفي تعقيبه على الملف في العدد التالي كتب حسن طلب مقدمة جميلة عن الشاعر الميت، وحاول أن يفعل نفس الشيء مع الشعراء الأحياء الذين كتبوا في الملف وغيرهم، غير أنه بدأ في إطلاق نيران مسدس الماء الذي بحوزته لإغاظتهم، وكنوع من التمهيد لرأيه كتب: «مع التسليم بحسن نيّة المشتركين في الملف، ومع التقدير لجهدهم، فإني أرى أن هناك بعض الإشارات الضرورية التي يجب تسجيلها لهم أو عليهم» ثم: «ما كتبه حلمي سالم ليس مقالاً بالمعنى الدقيق، بل هي ديباجة موجزة مرتكزة على حقيقة يتيمة، هي أن علي قنديل كان واحداً من حركة أدبية شابة تسعى لخلق حساسية جديدة من خلال فهم استراتيجي للفن على أنه مجرد تشكيل، ولعل حلمي سالم لم يكن معنياً بخصوصية الكتابة عن علي قنديل بقدر ما كان مهتماً بالإشارة إلى تلك الحركة التي ينتمي إليها» ثم يكتب صاحب «الخازباز»: «ما كتبه جمال القصاص يخرج عن دائرة المقال تماماً هو الآخر، ويدخل في أي باب إنشائي آخر، كالخواطر أو الانطباعات مثلاً، من حيث اشتماله على التهويمات والشطحات دون الأفكار والمفاهيم ومن حيث اعتماده على الوصف دون التحليل» ثم يلقي مسدس الماء من يده ويتناول شاكوشاً يهوي به على رأس سيد حجاب الذي استبعده من قائمته، لكنه بالطبع يتشاجر دون أن يذكر أمر الاستبعاد، ولا نستطيع الدخول في ضميره لنحكم بدورنا على أن هذا ما ضايقه فعلاً، أم لا، لكن الإنسان ضعيف بالطبع، يقول بعد مدخل ثناء بسيط في حق سيد حجاب: «في المقال سرد تاريخي طويل لم يكن يحتمله مقال صغير عن علي قنديل، فقد احتل حوالي ثلث الحيز، علاوة على أنه اشتمل على سلسلة من المغالطات آخذ بعضها برقاب بعض، ولم يكن ثمة ما يدعو أن يبدأ المقال بشوقي، وحتى إن بدأ، بحجة السياق التاريخي، فلم يكن هناك مبرر لأن يتطرق إلى شعر العامية، وحتى إن تطرق بدعوى أن الشعر لا يتجزأ، فما كان يصح أن ينتقي الكاتب لنفسه مكانة بارزة في السياق إلى جانب الأبنودي تماماً، وحتى إن انتقى بفعل ذاتي محض، فما كان ينبغي أن يتجاهل شعراء من أمثال فؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم وفؤاد قاعود ومصطفى الشندويلي ومجدي نجيب، وحتى إن تجاهل بحجة التخصص، فإن حديثه عن شعر الفصحى كان يجب أن يتم بموضوعية أكثر وبحساسية أشد، فلا يحكم على جماعات كاملة من الشعراء بالنسيان، صحيح، المسألة ليست مجرد إحصاء ببليوجرافي ولكنها مع ذلك ليست مجرد هوى شخصي، والإسهامات الشعرية منذ مهّد صلاح عبدالصبور الطريق كثيرة ومتنوعة، وتشمل إنتاجاً للشعراء: ملك عبدالعزيز، نجيب سرور، كمال عمار، محمد مهران السيد، عبدالحليم توفيق، ومحمد أبودومة.. إلخ، صحيح أن فيهم من توقف ومن هو محدود العطاء والموهبة ولكن حذفهم من سجل الشعر وطردهم من حظيرته أمر ليس بيد سيد حجاب ولا بمقدور أحد من أبناء جيله، فهو موكول للأجيال القادمة. وبعد أن ينشأ الفاصل الزمني الذي يضمن سلامة الحكم وموضوعية التاريخ، فضلاً عن أن من هؤلاء من لا يزال في مقتبل العمر، وفرصة التجريب، وفسحة الإبداع ممدودتان أمامه بلا حدود». وواصل هجومه على سيد حجاب معترضاً على مجيء اسم محمد عفيفي مطر، الذي بدأ بنشر إنتاجه منذ حوالي عشرين عاماً، في ذيل قائمته، وقال بالمرة إن دراسته لقصيدة «القاهرة» لعلي قنديل: «خلت من أية دراسة فنية للغة والبناء والإيقاع والصورة، واقتصرت على شرح المعنى».

ولم يستثن حسن طلب من جيل السبعينات كله إلا شاعراً لميزيتين اثنتين فيما يبدو، أولاهما أنه مات، والثانية أنه قبل وفاته عمل لآخرته بدراسة عن حسن طلب نفسه. ذلك هو الشاعر علي قنديل، الذي يستحق الاحتفاء لكن ليس لهذين الميزتين فقط: «ولقد تركت مثل هذه الدراسات بالإضافة إلى المناقشات الطويلة التي اشترك فيها علي قنديل، بصمات واضحة على إنتاج أصدقائه والمحيطين به من الشعراء وعن كاتب هذه السطور، فقد أفاد كثيراً من دراسة علي قنديل لقصيدة (نجلاء.. الحلم والحقيقة) تلك الدراسة التي ظل علي قنديل – ولآخر لحظة قبل أن يموت – يكافح من أجل نشرها في مجلة الشباب».

موقع الكتابة الثقافي ملف المجلات 11
علي قنديل رحل في حادث مأساوي

الشاهد الرابع

عبدالمنعم رمضان: حسن طلب كان أحد ممولي إضاءة

حسن طلب لم يرد على تليفونه حينما حاولتُ الاتصال به لأسأله: هل ضايقك استبعاد سيد حجاب لاسمك من قائمته المختارة للشعر المصري؟ كيف كان تأثير انتقادك للمجموعة؟ وهل حدث شرخ في علاقتكم؟ وكيف اندمل الجرح بعد ذلك؟  وهل كنت تموّل مجلة «إضاءة» فعلاً كما سيخبرنا عبدالمنعم رمضان؟ وهل جاء ذلك بعد سفرك للدوحة أم أن المعلومة غير صحيحة؟

بحسب عبدالمنعم رمضان فإن الحياة – في هذا التوقيت – شاءت أن تقسّم جيل السبعينات إلى فريقين أصوات وإضاءة: «والحقيقة أن الفارق كبير بين الفريقين، ففي وقت كان فيه أفراد (إضاءة) يساريين يتغنّون بقوميتهم العربية، ويؤمنون بأن الشعر المصري جزء من الشعر العربي، وضرورة صناعة الجسور التي تصل هذا بذاك، كانت (أصوات) تضم يساريين ضد الانتساب لتلك القومية، وكانوا يمثلون الجناح الأكثر يسارية من التروتسكيين، لذا فإن فراشة (إضاءة) كانت أقدر على الطيران في وسط ثقافي غير قادر على تحمل نزق وتطرف (أصوات) ضد القومية».

وقد بدأ الانقسام في ندوة سيد حجاب بين الطرفين، جناح من اليسار المتطرف، ضد القومية، وجناح من اليمين يرى أن الأبدع ما يزال في الإمكان، وكانوا ينادون بعدم تكسير كل شيء في الحياة، وأنه لا بد من القومية العربية، وعندما توفى علي قنديل – يقول رمضان – لم تكن قد  تشكلت بعد جماعة (إضاءة) ويعلق: «كان أفرادها يهجسون بالأب، وثمة تقاربات جرت بينهم لها علاقة بالحياة، كالمفهوم القومي عند حلمي سالم، والعودة إلى التراث عند حسن طلب، وأمر آخر هو التمويل، ربما سافر حسن طلب إلى الدوحة، وكان أحد ممولي إضاءة، وقد كان صديقاً حميماً لحلمي سالم أكثر من الباقين، بينما كان حلمي صديقاً لكل فرد على حدة، وقد استمر معهم رفعت سلام لمدة عدد واحد، الأول، وكتب في العدد الثاني ينتقد إضاءة نفسها مقالاً تحت عنوان (نقد العقل الميكانيكي) وردوا عليه في العدد الثالث بمقال تحت عنوان (نقد نقد العقل الميكانيكي) بعدها أصدر رفعت كرّاسة (كتابات) وأتيح له أن يكون رئيس تحريرها وكتب اسمه ببنط أكبر من محمود نسيم وشعبان يوسف، كما كان اسمه يعلوهما».

ولم تستمر «أصوات» كثيراً، وكانت مهتمة بإصدار ديوان لكل شاعر وكأنها تحتفل بالتعدد بينما «إضاءة» تعني الوحدة، إن المفردة ذاتها الإضاءة أو الضوء تشير إلى شيء واحد، بينما تشير كلمة (أصوات) إلى التعدد. كما أصدرت «أصوات» مجلة «الكتابة السوداء» لكن لم تعش لأكثر من عدد واحد، يعلّق رمضان:«خرج محمد سليمان من (أصوات) فاقتصرت عليّ أنا وأحمد طه وعبدالمقصود عبدالكريم ومحمد عيد إبراهيم الذي اختار اسمها أصلاً، فقد كان شهيراً بيننا بالمصكوكات اللغوية، وكنا ملتصقين نسبياً بتراث السريالية المصرية، وأصدرنا كتاباً لجورج حنين، ورفضنا الانضواء تحت لواء القومية الذي سيخفي مصريتنا، كنا معتزين بمصريتنا إلى حد أننا اعتقدنا أيامذاك بأنه لا توجد لغة عربية واحد، وإنما لغات عربية، لغة عربية شامية، وعربية مصرية، وعربية مغربية، إلخ، وكنا حريصين بالتالي على كتابة شعرنا بلغتنا العربية المصرية».

بعد موت علي قنديل أصدر السبعينيون أعماله بمقدمة لعفيفي مطر. يقول رمضان: «كانت مقدمة نادرة، لأننا لم نره يكتب مقدمات أبداً، حتى أننا في شجار قلنا له: أنت لم تكتب أبداً عن الأجيال التالية عليك، فقال: لا.. أنا كتبت عن علي قنديل، فقلنا رفعت سلام وأنا: لقد مات وشبع موتاً، وحين نموت ربما تكتب عنا، وأنا أتذكر أن هذا التلاسن كان في بيت أحد الأصدقاء في مارسيليا».

موقع الكتابة الثقافي ملف المجلات 12
احتفال بعيد ميلاد جابر عصفور بحضور أمل دنقل

جابر عصفور يسخر من عبدالصبور  ويقلل من دنقل ويعاير حجازي

وفي نفس العدد من مجلة «الكاتب» الذي طبخه عبدالصبور داخل غرفته الصغيرة، في 1117 كورنيش النيل، يقدّم الدكتور جابر عصفور قراءة نقدية في قصائد العدد الماضي، وينجو من هجومه البالغ «علي قنديل» فقط، ربما لأنه مات و«الضرب في الميت حرام»، بينما يتوقف فقط عند نموذجين لشاعرين هما عبدالمنعم عواد يوسف الذي يلمزه بأنه يعمل «في بلاد البترول القصيّة» ويس الفيل، ويقول إنه لن يفعل ذلك مع قصائد أخرى، فالمزلق واحد «تقليدية المعجم وسطحية الصور التي تتحول إلى نثر خطابي».

ويهاجم الشعر المصري كله، فلا ينجو من هجومه أحد، بمن فيهم صلاح عبدالصبور، رئيس تحرير «الكاتب» الذي يُحسب له السماح بتمرير السخرية منه في مجلة يديرها، كما يعاير حجازي بقلة ما يكتبه، ويبدو أن حجازي يعاني من الندرة منذ كان طفلاً في الشعر، كما أنه يشن هجوماً بالكيماوي على شعراء الستينات فلا يُبقِي على أحد منهم، يقضي عليهم برشّة واحدة، بينما يرتدي قناعه الواقي وبالطو طبيب المشرحة: «المؤكد – في تقديري – أن ثمة حالة وخم شعري سائدة تشي بها قناعة الكثير من الشعراء – على تفاوت أجيالهم – بما أُنجز على مستوى الرؤية أو على مستوى الأداء الشعري. عليّ أن أشير – فحسب – إلى استرخاء الشعراء الرواد، صلاح عبدالصبور قانع بيوميات كاتب مسالم أو مستسلم – لا أدري – تشغله مشاهدة زوربا للمرة العاشرة، والبحث عن الشباب المفقود، ورواية مؤدّبة لهنري ميللر، وعتاب الأصدقاء ولقاء النجوم وحسب»، و«أحمد حجازي مغترب يكتب في عامين قصيدتين. ويشغله تدريس العربية في السوربون ومراسلة صحيفة مصورة»، ثم يصل إلى «تكرار شعراء الستينيات لأنفسهم (ولا جديد عند أمل دنقل، أو عفيفي مطر، أو إبراهيم أبي سنة) ووفرة من التجارب المسطحة لأسماء يضنيها السعي وراء النشر أكثر مما تضنيها المعاناة الإبداعية. وكأن حركة الشعر الحر في مصر قنعت بما أنجزت فلا تتجاوز إطار: محلك سر».

ويستثني الدكتور جابر الشعراء العرب من مذبحته مقارناً حالة الشعراء المصريين بهم: «بينما يواصل الشعراء في الوطن العربي إبداعهم ويتجاوزون ما أنتجوا (سعدي يوسف) في قصائده الأخيرة، تجارب أدونيس في (المفرد بصيغة الجمع) وغيرها، ويتجاوز الشباب ما صنعه الرواد (يواصل حسب الشيخ جعفر تأصيل القصيدة المدوّرة كما يواصل عبدالعزيز المقالح وعلي عبدالله الخليفة وممدوح عدوان تطوير قصيدة الرفض في العراق واليمن وسوريا والبحرين). وفي مصر حالة غريبة من الوخم الإبداعي وكأن النيل غير النيل والدم نقيض الدم – ومعذرة للتضمين»، والدكتور جابر عصفور الذي يسخر من عبدالصبور الموظف بالدولة، وأمل دنقل المحسوب على اليسار، كتب بعد سنوات عنهما عدة أعمال، أحدها عن عبدالصبور وهو «رؤيا حكيم محزون» وقد صدر عن هيئة الكتاب، واثنان عن أمل هما «قصيدة الرفض.. قراءة في شعر أمل دنقل» عن هيئة الكتاب كذلك، والثاني «أمل دنقل ذكريات ومقالات وصور» عن «بتانة» وتناول في كتاب أصدره بعنوان «ذاكرة الشعر» جانباً كبيراً من أعمال دنقل، لكنه لم يكتب عن أمل عموماً إلا بعد رحيله بخمس سنوات، وكان أول مقال في جريدة «الحياة»، بعد أن أصبح أمل أيقونة الجميع، فلماذا هاجم الدكتور جابر عصفور الجميع ولم يستثن أحداً؟ وهل كان يخشى الكتابة عن أمل لأنه محسوب على اليسار؟ وهل كان في موقع يخوّل له تقييم كل هؤلاء الكبار خاصة وأنه كان مجرد معيد في الجامعة؟

يقول عبدالمنعم رمضان: «دعنا نسأل: في عام 74 هل كان جابر عصفور في موضع يسمح له بتقييمنا؟ كان مثله مثلنا، كنا نبدأ جميعاً أولى خطواتنا في ذلك الوقت، ولا أستطيع أن أعيبه بسبب تأخر كتابته، سواء عن صلاح عبدالصبور أو أمل دنقل، لم يكن جابر قد طلع علينا بكتبه التي توقفنا أمامها بعد ذلك، ربما كان أكبر منا بقليل، كان يعادل حسن طلب تقريباً في السن، ولا يمكن أن تحاسبه إذ كان وجهاً جديداً، وخريجاً للتو من الجمعية الأدبية التي تتلمذ فيها على يد فاروق خورشيد وصلاح عبدالصبور، وأنا لا أستطيع أن أحاسبه كذلك على ما قاله، لأنني لا أستطيع أن أحاسب نفسي على ما قلته في فترات بعيدة. لقد ظهرت فتوحات جابر عصفور في الثمانينات، ولم ننتبه إليه إلا بعد مرور سنوات».

الشاهد الخامس    

د. جابر عصفور: لم أكن رجل دولة وأمل دنقل علّمني الصعلكة

قلت للدكتور جابر عصفور: «أتمنى أن تتحمّلني، فربما ستكون أسئلتي صعبة بعض الشيء!» فقال ساخراً: «ما أنا متحمّلك من سنين!» ورغم أنه وعدني بالتحمل إلا أنه هاجمني مع انتهاء أول سؤال: «لم تكتب عن أمل دنقل لأنه كان محسوباً على اليسار، في وقت ربما كنت تفكر فيه أن تصبح رجل دولة، أو لديك طموح بمنصب ما فيها، أو طموح بترقية في الجامعة وهذا حقك، فما ردك؟!» فقال: «تفكير عبيط»، ثم عاجلني مهيلاً الكلام على توصيفه السابق: «هناك كثيرون لم يعاصروا علاقتي بأمل دنقل. كانت صداقتنا عظيمة، كنت شاباً لا يعرف شيئاً عن حياة الشارع حتى عرفته، هو من علّمني الصعلكة حتى الصباح. كنت لا أخرج من المنزل حتى أخرجني، لم أكن رجل دولة، إذ كنت مجرد معيد في جامعة القاهرة، ولم أكن أفكر بهذا الشكل أبداً. وحينما مات أمل عانيتُ من حبسة كتابة لمدة خمس سنوات، وذات يوم وبينما أطالع اليوم في النتيجة تذكرت أمل وعادت إليّ الكتابة، ونُشر ما كتبته في الحياة».

سألته: «هل تقبّل صلاح عبدالصبور سخريتك منه برحابة صدر؟ وهل يُحسب له وهو رئيس التحرير نشره لتلك السخرية في مجلته؟ وما رد فعل حجازي؟» فقال: «طبعاً يحسب ذلك لعبدالصبور، وقد أخبرني هو بعد ذلك أن حجازي (اتقمص). كان مقال (حالة وخم شعري) عنيفاً، ويحمل اتهاماً صريحاً لأحمد حجازي وجيله بأنه أفلس تقريباً، ولم يكن هناك سوى جيل السبعينات، وأبرز شعرائه شاب اسمه علي قنديل مات في حادثة مؤسفة، ورأيت أن هؤلاء الشباب سيعيدون الجماعة الكسالى من غفوتهم، وسيمنحونهم العافية اللازمة للإكمال. كان إحساسي أن شعراء الخمسينات أفلسوا، وشاب مثل علي قنديل كان يمثل شعلة بمفرده، فلم يكن أحد يسمع وقتها عن حلمي سالم أو حسن طلب، حلمي كان يحاول في بداياته لكن النموذج الصارخ على الموهبة كان علي قنديل. وقد أسفت بسبب رد فعل حجازي لكن عبدالصبور قال لي: اللي يزعل يزعل. لقد أخبرني عبدالصبور بصدق أنه مقتنع بما كتبته، وسأل نفسه ماذا أفعل؟ ولماذا أكرر نفسي؟».

ما يحكيه جابر عصفور كان مدهشاً إذ أنه كان لا يزال في بداية طريق النقد.. فمن أين استمد جرأته تلك، خاصة وهو ينال من أسماء كبيرة؟ يقول: «دعني أحكي لك موقفاً ربما يوضح قليلاً من الأمور. بالطبع كنت في بداية الطريق، وكتبت دراسة عن (تطور الوزن والإيقاع عند صلاح عبدالصبور) وقد نشرتها (المجلة) أيام يحيى حقي، لكنه قبل أن ينشرها جلس أمامي وتفحّصني أنا الشاب النحيف، وفهمت بعد قليل أنه يشك في أنني لم أكتب هذه الدراسة، وربما يكون صاحبها شخصاً آخر، وربما ينشرها فتصير فضيحة في الوسط الثقافي، لكنه لم يقل كل هذا، كان يسألني أسئلة متعاقبة عن تفاصيل الدراسة وأنا أجيبه، ثم شعرت فجأة أنه يمتحنني ليعرف إن كنت أنا من كتبها أم شخص آخر؟ وسألته: انت بتمتحني؟! فضحك ضحكة فيها لؤم خفيف، إذ كان شخصاً طيب القلب، وقال لي: أنا عايز أستفيد منك باعتبارك أستاذنا! فقلت ضاحكاً: أستاذنا؟! أنا أستاذك؟! المهم أنه اطمأن، وهكذا كانت أول دراسة لي تُنشر في مجلة محترمة، وكانت عبارة عن اتجاه جديد في النقد الأدبي، فلم تسبقها دراسات في تقنيات الأدب كالوزن، وقد أسهمت في ذيوع اسمي، ومنحته ثقلاً بسرعة شديدة، وبعدها بدأت أكتب تعليقاً في مجلة (الآداب) على قصص العدد الماضي، وأصبحت ناقداً معروفاً، كان الناس يتعاملون معي بمنطق أنني سأصير شخصية كبيرة».

ويضيف: «وأنت تذكّرني بكل هذه الأمور عندي إحساس بالامتنان تجاه هؤلاء الكبار، لقد عاملوني كندٍ، وواحد منهم، وكنت مندهشاً من (حمقة) حجازي لأنه كان لا يزال في فترة روح التسامح، ولم يكن قد دخل مرحلة العصبيّة الغريبة التي دخلها فيما بعد، إنما عبدالصبور وحقي فأدين لهما بذلك، أنهما زرعا بداخلي ثقة عظيمة، حتى أنني وصفت علي قنديل بموهبة كبيرة، أكبر من صلاح وحجازي»، ويضيف ضاحكاً: «كان صلاح يحدثني عن دواوينه لكنه لم يكن يأتي على سيرة مسرحيات يكتبها، صحيح أن لديه شعراً عظيماً، لكن ذلك الشعر ذهب باتجاه الميتافيزيقا، بينما المسرح متصل بالناس، وفيه تمرد صلاح على الاستبداد، وقدم رؤية واضحة للعالم، إذ أن المسرح يخاطب الناس، وكانت الحياة فيها بقايا ليبرالية زرعها طه حسين وعباس العقاد، ولذلك كان يتم تقبّل الآراء برحابة صدر، ولا تنسى أنني نشأت في قسم طه حسين، وحينما كتبت رسالتي للدكتوراة اختلفت مع أستاذتي سهير القلماوي».

يتذكر عصفور موقفاً آخر يخص عبدالصبور: «أول عام لي في رئاسة تحرير مجلة (فصول) لم أكتب حرفاً عن عبدالصبور الذي كان رئيساً لمجلس الإدارة، بل إنني في عدد خصّصته عن الشعر، كتبت عن أدونيس وعمله (أغاني مهيار الدمشقي)، وهذه الدراسة هي التي عرّفت أشخاصاً أمثال عبدالمنعم رمضان وكذلك أحمد طه بأدونيس. لقد كان صلاح عبدالصبور قيمة كبرى، كان كذلك صديقاً عزيزاً لم يتدخل في عملي أبداً».    

تعال نذهب إلى العظماء

ما الذي تغيّر في مقرّ المجلات على كورنيش النيل؟ هذا السؤال البسيط يجر خلفه حكايات خاصة عن «الكاتب» تكمل صورة المجلة ومعركتها الضخمة، يرويها شعبان يوسف..

الشاهد السادس

شعبان يوسف: صلاح عبدالصبور غنّى للسلطة ولم يكن مطلوباً منه سوى الصمت

ذات مرة قرر شعبان يوسف ومحمود نسيم، الذهاب إلى مقرّ مجلة الكاتب في «1117 شارع كورنيش النيل»، كان ذلك عنوان مغارة علي بابا، هناك تتجاور أهم المجلات وأكثرها تفاهة، مجلات يقودها يساريون ويمينيون. يقول: «عندما تصعد إلى الدور الأول، تجد شقتين أمامك، الأولى فيها مجلات الكاتب والجديد والمسرح، ثم الأخرى ملاصقة للأولى مباشرة وبها مجلات الشعر والقصة والإذاعة والتلفزيون، وكانت الشقة الثانية هذه، تضج بأدباء وشعراء كثيرين، لهم حضور ملحوظ في الساحة الأدبية آنذاك، منهم الشعراء محمد مهران السيد، وفتحي سعيد، والكاتب خيري شلبي، والقاص فخري فايد وغيرهم».

صعد الاثنان وسألا عن «الكاتب» على وجه التحديد، وقيل لهما: «أول أوضة على الشمال»، يكمل شعبان الحكاية: «بمجرد أن هممت بالدخول، وكان خلفي محمود نسيم، إذا به يعود للخلف كأن عقرباً لدغه، ويخرج من المكان مسرعاً، وهرولت خلفه، وسألته باندهاش شديد عن سبب مغادرته، فقال إنه فوجئ بصلاح عبدالصبور، لم يقو على الدخول، فقد كان عبدالصبور نجماً كبيراً، والهالة التي أحاطت به أربكت نسيم، لكنه بعد أن تماسك، وكان قد مضى وقت على وقوفنا في الشارع، صعدنا مرة أخرى، وللأسف كان عبدالصبور قد خرج وترك المجلة، واستقبلنا شخص وديع ولطيف للغاية، استقبلنا بمودة مدهشة، وكأنه أخ كبير، وعرفنا أنه الأستاذ علي شلش، وتركنا له نصوصاً كانت بحوزتنا».

ذهب شعبان يوسف، بعد تلك الزيارة بأيام قليلة، إلى مجلة «الكاتب» وكان مقرها في غرفة صغيرة للغاية، تضم مكتباً خشبياً قديماً، وحوله بضعة فوتيهات متآكلة، وكان بعض الشعراء الشباب يجلسون على تلك الفوتيهات، ومنهم أمجد ريان بشاربه الكث الذي يشبه جرن قمح، وبعينيه المندهشتين على الدوام، وحلمي سالم بمرحه الذي يبدو أول رسائله لأي شخص آخر، ووليد منير الذي يغرق في صمت مهذب، وبدا صلاح عبدالصبور على المكتب الخشبي القديم كمعلم بين تلاميذه، يتحدث بقوة وثبات وشبه يقين ما، وكان علي شلش يجلس بجواره مبتسماً ورقيقاً، ولاحظ شعبان وجود الشاعر نجيب سرور بين ضيوف المجلة، وشعر بأنه يتعامل مع المكان باعتباره صاحب بيت، وكان صوته هو الأعلى في ذلك اللقاء الأول.

يقول شعبان: «في البداية لم أكن متابعاً جيداً للمعركة التي دارت حول المجلة، رغم انخراطي في العمل السياسي النوعي والمتمرد، ولكن استهواني الذهاب المرة تلو المرة إلى مقرها، وقد استطاع عبدالصبور أن يجذب إليها كتّاباً من شباب الشعراء، وهم الذين سيُعرَفون بعد ذلك بـ(شعراء السبعينات)، فقرأنا على صفحاتها قصائد لحلمي سالم وأمجد ريان وحسن طلب وجمال القصاص وعبد المنعم رمضان عبيد وغيرهم. وأريد أن أتوقف عند هذه النقطة قليلاً، حيث أن كل جيل دائماً يبحث عن مساندة ما، بعيداً عن أي اعتبارات سياسية تناسب الشعارات التي يرفعها أبناء هذا الجيل، فمنذ أن توفى الشاعر علي قنديل في حادث مأساوي، تصاعدت حالة التبني من إدارة المجلة للشعراء الشباب، أقول تصاعدت، لأن حالة التبني كانت بالفعل موجودة، منذ صدور العدد الذي تولى فيه عبدالصبور إدارتها، وسط معركة طاحنة بين يوسف السباعي، ومجلس تحرير المجلة ذاته، تلك المعركة التي انتهت بتقديم المجلس لاستقالته وقبولها فوراً، وكان وزير الثقافة جاهزاً على الفور للإحلال والتبديل، فاستعان بصلاح عبدالصبور، وهكذا لا نستطيع التماس الأعذار له، إذ كانت مسيرته العملية طوال الوقت مسيرة موظف كبير، بعيداً عن كونه الشاعر الأهم والأعظم في تاريخ الشعر في مصر، ولا ينكر فضله في الشعر إلا أعمى».

كان صلاح عبدالصبور في فترة اعتقال كثير من المفكرين والكتّاب الكبار، في أواخر عقد الخمسينات، مثل فؤاد حجاج ومحمود أمين العالم ولويس عوض وعبدالعظيم أنيس وألفريد فرج وصلاح حافظ وغيرهم، كما يقول شعبان يوسف، يتغنّى بالسلطة وإنجازاتها رغم عمليات القتل والتعذيب والتنكيل التي تجري في حق أصدقائه «لم يكن مطلوباً منه سوى الصمت على الأقل، لا المديح، لقد كتب ما لم يكتبه شاعر آخر في التنظير لثورة يوليو، وله في ذلك مقولات كبيرة، منها مثلاً: «حين قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952، تحسسنا جراحنا، فعرفنا قوميتنا، وعاد ركب هذا الجيل، الذي كاد يضيع بين التيارات الغربية، إلى كتيبة العروبة»، وكذلك: «حين قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952، وتوالت انتصاراتها ابتدأ المفكرون ينظرون إلى مواطئ أقدامهم، وأخذنا نحاول أن نقيم لنا فلسفة فكرية عربية معاصرة»، كانت أفكاره تؤازر الفكر الديماجوجي السائد في ذلك الوقت، ولم يكن عبدالصبور الشاعر المجدد والمثقف الراقي، إلا فرداً في جوقة واسعة تمجّد في السلطة وإنجازاتها العظيمة، رغم أن معتقلات تلك السلطة كانت تتكدس بآلاف النبلاء، بل حدث أن تم اغتيال بعضهم مثل شهدي عطية الشافعي وفريد حداد ولويس إسحاق ومحمد عثمان وغيرهم».

يستدعي شعبان وصف إبراهيم فتحي لصلاح عبدالصبور: «المكتئب شعراً، والمبتسم نثراً»، كان فتحي يطلق على الشاعر الكبير «العبقري» ويعلق شعبان: «لم يكن عبدالصبور سعيداً في شعره، ودائماً كان بطله يبحث عن الحرية، ولا تبتعد عن الذاكرة قصيدته الأشهر (عودة ذي الوجه الكئيب إلى الاستعمار وأعوانه)، والتي قيل إنها تقصد جمال عبدالناصر، وتعود ظروف كتابتها إلى عام 1954 بعد أزمة مارس الطاحنة، وتملّك جمال عبد الناصر كل مقاليد الحكم في سبتمبر 1954 بعد الإطاحة التامة بالرئيس محمد نجيب، ومما يؤكد أن تلك القصيدة مكتوبة في هجاء الزعيم أنها نشرت في مايو ١٩٥٤بـ «الآداب» اللبنانية بدون التذييل الذي أضافه في العنوان وهو «إلى الاستعمار  وأعوانه»  وقد اعتبر باحثون  أن هذه الإضافة نوع من التمويه لكي يعطي دلالة  على أن القصيدة لا تنال من عبدالناصر، ثم نشرت في ديوانه الأول (الناس في بلادي) عام 1957 في بيروت، وحُذفت منه عندما صدر في مصر، ولم تعد القصيدة إلى الديوان، مرة أخرى، إلا بعد رحيل جمال عبدالناصر وصلاح عبدالصبور نفسه، وذلك في طبعة دار الشروق في عقد الثمانينات».

وكان صلاح عبدالصبور نجماً ساطعاً في سماء الحياة الثقافية، وكانت مقالاته البحثية والفكرية والأدبية، والبعيدة عن الكتابة السياسية، من أجمل ما كان يُكتَب في «روز اليوسف» وبعد مسرحيته «مأساة الحلاج»، أصبح من نجوم المسرح الشعري الكبار، وظل يكتب دراسات ومقالات وأبحاثاً في المسرح، حتى ترأس تحرير مجلة المسرح عام 1969 خلفاً لرشاد رشدي وعبد القادر القط، ونشر مسرحيته الثانية «ليلى والمجنون» في العدد الصادر في فبراير 1970، وظل رئيساً لتحريرها حتى توقفت بعد قرارات د. عبد القادر حاتم الحاسمة في تعطيل المجلات الثقافية، ولم تنج إلا مجلات قليلة جداً مثل مجلة الكاتب.

وعندما توقفت مجلة المسرح، كما يحكي شعبان، جيء بعبدالصبور لكي يترأس تحرير عدد واحد من مجلة «الشعر»، ثم جاءت واقعة مجلة «الكاتب»، وكان رحيل الشاعر الشاب والموهوب علي قنديل حالة نموذجية لكي يستثمرها الجميع، كان علي قنديل التلميذ النجيب والمباشر للشاعر محمد عفيفي مطر، وقد اكتشفه في مجلة «سنابل» التي يرأس تحريرها وتصدر في كفر الشيخ، وعندما جاء قنديل إلى القاهرة، ليلتحق بكلية الطب، كان الشاعر سيد حجاب يقيم «ندوة الشباب» في «الاتحاد الاشتراكي العربي»، وهو التنظيم السياسي الأوحد للدولة، وبرز في هذه الندوة مجموعة من الشعراء الشباب الموهوبين.

من أزاح عفيفي مطر من ملف علي قنديل في «الكاتب»؟

بعد رحيل علي قنديل، ذهب رفاقه إلى مجلة الكاتب في عنوانها بـ«1117 كورنيش النيل» ليسلموا مادة ملف عنه، وهي تعيش فترة شائكة، يحكي شعبان يوسف: «عبد الصبور ومعه أعضاء هيئة التحرير وجدوا أن تبني قنديل ورفاقه مناسبة كبيرة لكي يلتف هؤلاء الشعراء حول المجلة، ولا يخفى علينا أنه تم إزاحة عفيفي مطر عن المشاركة في ملف علي قنديل، أو الكتابة عنه، بما يشبه العمد، ولذلك جاءت طبعة الديوان الأولى التي أصدرتها دار الثقافة الجديدة لعلي قنديل في نوفمبر 1976، مصحوبة بمقدمة نقدية وعاطفية طويلة لمحمد عفيفي مطر، وفي هذه المقدمة صبّ عفيفي مطر غضبه على عدو لدود، ولا يخفى على أحد تلك الإشارات التي خصّ بها عفيفي مطر، خصمه صلاح عبدالصبور، وللأسف أن مقدمته لم تنشر فيما بعد، في أي طبعة من طبعات الديوان اللاحقة لعلي قنديل».

يكتب عفيفي مطر في مقدمته: «..تم الحذف والاستبعاد النهائي بالتجاهل، وبدأت عمليات الاحتواء والتكتل القبلي والعشائري لتعود سيطرة الاندماج فيما هو قائم، بعد أن توزعتها وتقسمتها أيدي وكلاء عموم النضال ومطلق السلطة، وأصيبت حركة الشباب وانتفاضاتهم بأبشع أمراض الشيخوخة وطفح القمع وقروح الثنائية، مما يدخل في علم النفس الباثيولوجي وأمراض التخلف في العدد الثالث، وأصبحت موجة يعتليها ويوظفها من استطاع لما يشاء..».

وبالطبع جاءت مجلة «الكاتب» لصلاح عبدالصبور في سياق التصفية الشاملة لكل الأصوات اليسارية أو الناصرية، كما يقول شعبان يوسف، وكان صلاح نفسه قد انقلب على الفكرة الناصرية، بعد أن كتب مسرحيته الشهيرة «بعد أن يموت الملك»، ويعلق: «لن يختلف اثنان بالطبع على أن جمال عبد الناصر كان ماثلاً في كل سطر فيها، ولم تكن العمل الوحيد الذي هاجم جمال عبد الناصر، إذ أن الموسم كان حافلاً بالهجوم على الزعيم وسياساته وسلطة يوليو كلها، على مدى ثمانية عشر عاماً، دون استثناء، كتب توفيق الحكيم وجلال الدين الحمامصي وصالح جودت وغيرهم، وانقلب على العهد السابق أناس كانوا مؤيدين، منهم رشاد رشدي، والذي أصبح نجماً في العهد الساداتي، حتى أن الشيوعيين كتبوا ضد المرحلة، ورغم أن مسرحية عبدالصبور كانت تعالج علاقة المثقف بالسلطة، إلا أن كل ظلالها امتدت إلى عبدالناصر وعهده، وكذلك رواية (حكاية تو) لفتحي غانم، والتي نشرت مسلسلة في مجلة (روز اليوسف) عام 1973».

ويضيف شعبان يوسف: «استطاع يوسف السباعي أن يحرر (الكاتب) من النبرة اليسارية التي بدأت تعلو في ظل ظروف سياسية جديدة، وأتى بصلاح عبدالصبور (المعتدل) والراضخ لما تقرره الإدارة السياسية، وجاء كذلك بعبدالعزيز صادق، وهو الرجل الأقرب والأضمن من صلاح عبدالصبور، فعبدالصبور رجل تحكمه ثقافة عميقة، وكان الجانب الأدبي والفكري في المجلة يخص صلاح عبدالصبور بدرجة كبيرة، أما الجانب السياسي فيها فكان يشرف عليه عبدالعزيز صادق، ولن ننسى أن هناك الدكتور رشاد رشدي، والذي ابتدعوا له مجلة (الجديد)، فراحت تنشر كل غثّ وركيك وسطحي، مواد ثقافية تخلو من أي عمق، وللأسف هرول كثير من المثقفين للنشر فيها، ولكن عندما جاء عبد الصبور إلى (الكاتب) أنقذهم من فخ (الجديد)، ولا أنسى هنا إشارة مهمة، أن مجلة رشاد رشدي كانت تطبع كتاباً شهرياً، وأصدرت مجموعات شعرية لفتحي سعيد وحسن فتح الباب، كما أصدرت مسرحية (حبيبتي شامينا) لرشاد رشدي نفسه، و(الخطوبة) وهي المجموعة القصصية الأولى لبهاء طاهر».

ظلت «الكاتب» التي تُدار من داخل غرفة صغيرة في «1117 كورنيش النيل» بمثابة مجلة تعمل على استقطاب كثير من الكتّاب الشباب، ومنهم يوسف أبو رية، وشمس الدين موسى، وضياء الشرقاوي، ومحمد الراوي، ونشر محمد مستجاب أول رواية له مسلسلة فيها «التاريخ السري لنعمان عبدالحافظ»، كذلك كتب فيها بدر الديب وخيري شلبي وغيرهم، وكانت المتابعات النقدية والصحفية تحاول أن تقف في مواجهة طوفان مجلات الماستر وقتها، تلك المجلات التي تحوّلت في فترة وجيزة إلى المتن الحقيقي للثقافي. يعلق شعبان يوسف: «بعد أن انتهت أغراض شعراء السبعينات في المجلة، وهجرها تقريباً الشاعر صلاح عبدالصبور، بدأ حلمي سالم في تأسيس مجلة (إضاءة 77) مع زملائه، وصدر العدد الأول في يوليو 1977، ليضم مجلس تحريرها بخلاف حلمي سالم كلاً من جمال القصاص وحسن طلب ورفعت سلام، وللأمانة التاريخية كان العزيز صلاح أبو نار السياسي المثقف مطروحاً للمشاركة في مجلس التحرير، ولكن لأن حلمي سالم كان حريصاً على أن تكون المجلة للشعر فقط، تراجع عن ضمه، ولا أنسى أن الفنان عمر جيهان أشرف فنياً على المجلة في كل أعدادها الأولى».

عفريت رشاد رشدي ومجلة «الجديد»

ولو انتقلنا إلى غرفة أخرى في الطابق الأول من  «1117 كورنيش النيل»، غرفة مجلة «الجديد» سيبدو كأننا ننتقل إلى استراحة تخص الوزير يوسف السباعي، استراحة فخمة ذات حديقة وارفة الظلال، عالية الأسوار، لا يعرف أحد ما الموجود فيها، أو يعرفون من خلال فتحات السور، لكنهم يدركون أنها لا تخصهم، وإنما تخص الرجل القوي المسنود من الوزير شخصياً، كان صلاح عبدالصبور يحاول إمساك العصا من المنتصف طوال الوقت، ونجح في إقناع البعض أحياناً أنه شخص مستقل، أجبرته الظروف على أن يكون موظفاً داخل وزارة الثقافة، كما كان مسنوداً على موهبة ضخمة وثقافة عريضة لا غبار عليها، ولم يجرحها حتى من اعتبروه خائناً في لحظة من اللحظات، أما رشاد رشدي فكانت موهبته، بحسب كثير من النقاد في ذلك التوقيت، ضحلة وتشبه بحيرة راكدة، كان مؤمناً بنظرية صديقه يوسف السباعي، نظرية «المتعة» التي جرّت علينا المسرح التجاري والسينما التجارية والعروض الترفيهية وغيرها، حتى المتعة لم يستطع تحقيقها إذ أن أفكار معظم أعماله كانت مباشرة وسطحية ودعائية وزاعقة، وقد كان يتعامل مع نفسه باعتباره الهرم المصري الرابع، مستنداً بدوره على مجموعة من الهتيفة الصغار، وعلى علاقته بوجهاء المجتمع، ورجال الدولة الكبار، وحتى بزوجته لطيفة الزيات، وطبعاً بسيادة الوزير، ومن الطبيعي ألا يشعر بالتطور الذي يجري من حوله، فقد عزل نفسه في شلته، متصوراً أنها تملك الحقيقة، وأنها تملك مفاتيح الفن والأدب الراقي، البعيد عن لوثة اللاأخلاقيين، شرذمة المثقفين، كارهي الوطن، مدّعي الفضيلة، أبناء النكسة، وصوت الخراب الذي يحاول أن يجد لنفسه مكاناً بعد انتصار أكتوبر.

وقد ساهم رشاد رشدي في الحرب على هؤلاء، فاتحاً صفحات مجلته «الجديد» لكثير من المقالات التي تشبه بلاغات في الطرف الآخر، لكننا لسنا في حاجة بعد كثير من النماذج التي طرحناها إلى نماذج أخرى للبذاءة واحتقار الآخر وتخوينه واختزال الرأي في الشتائم، ومن الأفضل أن نعرض لعدد من تلك المجلة التي رأى السباعي أنها أفضل حالاً من «الكاتب» حتى من قبل أن تندلع المعركة الكبرى، وبإمكانك أن تمد يدك في كومة وتسحب أي عدد، وبنسبة كبيرة للغاية سترى نفس الخلطة، مقال في تأليه عمل من أعمال رشاد رشدي أو مجموعة منها، مقال كبير له، بالكاد يمكنك أن تُكمل فقرة فيه، مقال يحاول مناقشة أفكار أو إنتاجها، فتخرج من الماكينة اليمينية أفكاراً كبيرة، لكنها كالبراميل الفارغة، ومجموعة من المقالات لا تعرف إن كانت ترجمات أم قراءات في أعمال مترجمة، ثم إن تبويب المجلة غير واضح، وكأنها تجميع لعدد من المواد وجدها على مكتبه – ذات صباح – ودفع بها إلى الطبع، دون حتى أن يكلف نفسه عناء النظر إليها أو وضعها في سياقات مفهومة.

عرف رشاد رشدي المناصب الكبرى منذ بداياته، فبعد عودته من بريطانيا عُيّن ناظراً لمدرسة «النقراشي» ثم أصبح أستاذاً في كلية الآداب جامعة القاهرة ورئيساً لقسم الأدب الإنجليزي بها وظل بهذا المنصب لمدة 22 عاماً، قبل أن يُعيّن في 1975 رئيساً لـ«المعهد العالي للفنون المسرحية» ورئيساً لـ«أكاديمية الفنون» وعمل كذلك رئيساً لمسرح «الحكيم» وامتدت فترة رئاسته لمجلة «المسرح» في الفترة من 1964 إلى 1966 قبل أن يصبح رئيساً لتحرير «الجديد» عام 1973، وفي العدد الـ25 بتاريخ 15 يناير 1973 – على سبيل المثال – يكتب تحت عنوان «محاورات في الموضوعية» متخيلاً مناقشة تجمعه في حديقة من الحدائق الممتدة إلى جوار الأهرامات بصحفي وكاتب مسرحي، ويبدو أنه كان يمثل الجميع: «قال الناقد موجهاً حديثه إليّ: إنك تدعو إلى تبني النظرة الموضوعية في الحياة فهل يمكن أن تقول نفس الشيء بالنسبة للأدب؟ وقلت: كما أن في النظرة الموضوعية خلاص المجتمع كذلك أعتقد أن في النظرة الموضوعية خلاص الأدب» وقال الصحفي: «نظرة الجمهور إلى العمل الأدبي أم نظرة النقاد إليه أم نظرة الأديب إلى أدبه؟ وقاطعه الناقد قائلاً: وهل يمكن أن تكون نظرة الكاتب إلى ما يكتب نظرة موضوعية؟ إن الأدب يا صديقي تعبير عن النفس فكيف يمكن أن يكون ما يكتبه الكاتب موضوعياً في حين أنه ألصق الأشياء بنفسه؟ وقلت أسأله: تعني أن العمل الأدبي هو مرآة لنفس الكاتب؟ وأجاب الناقد الصحفي: هو كذلك، مرآة صادقة تعكس ما في نفس الكاتب في أمانة وإخلاص» وهكذا تمضي المحاورة وكأنها لن تنتهي أبداً.

ويخصص رشاد رشدي صفحتين 42 و43 لعرض كتاب الدكتور عبدالعزيز حمودة عنه والصادر في يناير 1973 عن مكتبة «الأنجلو» تحت عنوان: «مسرح رشاد رشدي» (عنوان الكتاب والمقال معاً) ويعرض له سعد عبدالعزيز: «د. رشاد رشدي كان قادراً طوال تلك الرحلة على أن يعطي للمتلقي دائماً شيئاً جديداً وينبغي أن نذكر أن شخصية الرجل المصري وما تتميز به من خصائص وسمات مختلفة كان بمثابة المادة التي ينحت منها الدكتور رشدي – بادئ ذي بدء – أشكاله الدرامية» ومن ضمن كتّاب العدد ومترجميه عبدالمنعم شميس، بهاء أنيس، عبدالرحمن سليم، مجدي نجيب، سعد عبدالعزيز، عبدالله خيرت، محمد شلبي، شفيق فريد، رفيق الصبان، محمد الجيار، وحمدي السكوت.

ويبدو أن شخصاً ما ورعاً في عائلة رشاد رشدي، ربما أمه، وربما أبوه، وربما أي أحد آخر، دعا عليه ونفذت دعوته من السماء والحجب العليا فاستجاب لها الله، وسلّط عليه فاروق عبدالقادر، وهو في حد ذاته كابوس فظيع للغاية، لقد أثار فاروق عبدالقادر الفزع في الوسط الثقافي بسلاطة لسانه، وعدم تهيّبه، أو تجميله الكلام، أو خوفه من مسؤول صغر شأنه أو علا، وعدم استطاعة أحد – كذلك – إمالته بمنصب أو جائزة. كان فاروق لا ينتظر شيئاً من أحد، وحينما جاءته جائزة سلطان العويس صرف قيمتها المالية الضخمة على أصدقائه خلال أسابيع قليلة.

كان اسم فاروق عبدالقادر يثير غضب رشاد رشدي، وفزعه كذلك، إذ أن ظهوره يعني أنه لن يسلم هو أو كتابته من أذاه، خاصة وأنه لم يكن يُميّز ما الشخصي وما العام، ما الذي يمكن الكتابة فيه، وما الذي يُعتبر عيباً أو تجاوزاً لحدود الأخلاق لا تجوز الكتابة عنه، لقد ظهر فاروق عبدالقادر لرشاد رشدي في حياته ولم يرحمه حتى بعد وفاته، وكان ينصب مدفعيته تجاه خصومه في تلك الفترة في «الطليعة». يحكي شعبان يوسف أنه في أواخر عام 1975 كان ومعه محمود نسيم يحاولان اكتشاف الحياة الثقافية بأنفسهما، إذ لم يكن هناك من يأخذهما ويدلهما على مواقع النشر والندوات والفعاليات الثقافية، وكانا منخرطيْن فقط في العمل السياسي والحركة الطلابية الهادرة: «كنا خارجين تواً من سنّ العشرين، وكانت لدينا حصيلة من الكتابات الشعرية الأولى، وكنت قد كتبت بعض القصص القصيرة، وذهبنا في أولى جولاتنا إلى الناقد فاروق عبد القادر في مجلة (الطليعة) حيث كان يشرف على الملحق الثقافي بها، وكنا نعرف أن مقرها في الدور السادس من مبنى الأهرام، وبعد أن صعدنا إلى الدور السادس، قيل لنا إن مقر المجلة نُقل إلى الدور الأرضي، وهكذا عدنا أدراجنا مرة أخرى». أدرك شعبان بقليل من التفكير سرّ هذا النقل، فقد كانت المجلة بطاقم تحريرها غير مرغوب فيها، إذ أنها كانت تنتمي إلى ذلك اليسار المزعج للدولة في ذلك الوقت «كنا نرى، كفصيل سياسي متطرف، أن ذلك اليسار قد استُهلكت أغراضه بالنسبة للدولة، لذلك لا بد من التخلص منه تحت أي ذريعة، وكانت هناك كتابات متمردة أزعجت الإدارة السياسية، وكان نقل مقر المجلة خطوة أولى للتخلص منها، حيث أن المكان الذي نقل إليه مقر المجلة، كان في مدخل فيلا يستقر فيها مقر مجلة الأهرام الاقتصادي، وقد هُدمت تلك الفيلا فيما بعد، وشُيّد مبنى الأهرام الثاني، وكان في مدخل الفيلا كشك زجاجي كبير، يشبه أكشاك الأمن والاستعلامات، هو مقر مجلة الطليعة الجديد، ليس كتمهيد لنسف المجلة، بل كعقاب كذلك على أشكال التمرد التي كانت يثيرها كتّابها».

كان الملحق الثقافي للمجلة، من أبرز الملاحق الثقافية في مصر، وكان ينشر مقالات ونصوصاً إبداعية لصنّاع الثقافة الأصليين في ذلك الوقت، من طراز يحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل ومحمد المنسي قنديل ورضوى عاشور وغيرهم، وكان قلم فاروق عبد القادر يثير الزوبعة تلو الزوبعة، وقد استقبلهما بترحاب شديد، واستطاع أن يلمّح بذكاء إلى أنهما ينتميان إلى اليسار الراديكالي، وردّ شعبان بنزق طفولي عليه قائلاً: «هكذا هي السلطة، تقذف من عملوا معها إلى الأماكن الخلفية»، ولم يستطع فاروق عبد القادر حاد الطباع أن يفوّت العبارة، واشتبك الثلاثة في حوار كان يعلو إلى حدود الغضب ويهبط إلى مستوى الابتسام، كان حاداً وممتعاً. يقول شعبان: «أشهد أنه رغم حدته كان حكيماً، ولكنه كذلك كان قاطعاً في أحكامه، ولا أنسى أنه عندما وصل الحوار بيننا إلى يوسف إدريس، رفع كفه اليمنى، فارداً أصابعه الخمس، وقال بحسم: لن يبقى منه سوى خمس قصص».

فاروق عبدالقادر لرشاد رشدي: عملك هابط فكرياً وركيك فنياً 

أمسك فاروق عبدالقادر بياقة رشاد رشدي في عدد «الطليعة» الحادي عشر بتاريخ نوفمبر 1974 متناولاً مسرحيته «محاكمة عم أحمد الفلاح» ضمن مسرحيات لآخرين: «المسرحية تهوى إلى عدد من المزالق الفكرية الخطيرة، مردُّها جميعاً افتعال ثورية زائفة ومحاولة تملق الإنسان أو الفلاح المصري (هو الذي كان يتعالى على النماذج التي تمثل جماهير الشعب وينفر من غلظتها وفظاظتها في أعماله السابقة) ويكشف عن معرفة ساذجة وضحلة بالعدو، لا تتجاوز سطوراً من بعض أساطيرهم إلى جانب عدد من الثرثرات الشائعة (وهم يقطعون أصابع الأطفال كي لا يحاربوهم، ويستأصلون غدد الفتيات كي لا ينجبن أطفالاً!) هذا كله إلى جانب ذلك المنزلق السهل الذي يمثل انهيار كبار ضباطهم، واعترافهم بأنهم عاشوا حياتهم كلها على الأكاذيب» و«في الجانب المقابل يكتفي رشاد رشدي – في تملقه للإنسان المصري أو العربي – بأن يصرف النظر عن واقعه تماماً ويروح يتغنى بأنه قهر الصحراء، وأقام فجر الحضارة، وهو يتغزّل فيه على نحو ساذج ومضحك: (عم أحمد لحم ودهب، عضمه فضة، شعره من نور السما، بذوره في الأرض الطيبة.. صيف وشتا.. سنة بعد سنة، رواها.. وروته، ولدها.. وولدته، مقدرش اقول إنه ابنها وإنها أمه، اللي اعرفه إنه دمها وهيّ دمه).. إلخ» ويستمر في نقده للمسرحية حتى يصل إلى القول إنها: «عمل هابط على مستوى الفكر، ركيك على مستوى الصياغة الفنية، يستهين بما قدمه الشعب المصري، كي يجعل ما حدث في أكتوبر ممكن الحدوث، يُميّع القضايا الرئيسية، ويحرّفها إلى قضايا فرعية، يخلط الأوراق وأطراف الصراع عن عمد، ولا يبقى لك في النهاية إلا تلك الصياغات التي مججناها في مسرح رشاد رشدي، هذا السجع السخيف المفتعل الذي يشي بفقره الروحي والفني جميعاً. وأخيراً: من الذي يحاكم الفلاح المصري، ويتهمه بالكسل والفقر والجهل؟ أغلب الظن أنهم هؤلاء أساتذة رشاد رشدي وأصدقاؤه الذين يقدم لنا سخافاتهم كل شهر مرتين في المجلة التي يرأس تحريرها».

ثم كان مقاله العنيف عن كتاب «رشاد رشدي» الذي أصدرته هيئة الكتاب بعد رحيله بأربعة أعوام في 23 فبراير 1983، وهو الكتاب الذي يضم مقالات لأحمد بهجت وأنيس منصور وسمير سرحان وعبدالعزيز حمودة ومحمد سلماوي ومحمود فوزي وأيضاً أرملته ثريا رشدي، وكان هذا في عهد رئيس الهيئة الأسبق الدكتور سمير سرحان. كتب سرحان نفسه مقالاً في هذا الكتاب، وكانت هذه فرصة عظيمة لعبدالقادر ليجرجره من ملابسه إلى الوحل مع الباقين في مقاله المعنون بـ«تجليات رشاد رشدي.. أو عودة الوجه القبيح» ويبدو النصف الثاني من العنوان مأخوذاً من عنوان قصيدة صلاح عبدالصبور مع تحريف بسيط «عودة ذي الوجه الكئيب»، وهذا المقال تضمنه كتابه الصادر عن دار «شرقيات» عام 1993 «من أوراق الرفض والقبول».

يقول فاروق عبدالقادر ببساطة في هذا المقال إنه شخص بلا قلب، ولا يهمه تذكير صديق له بمقولة «اذكروا محاسن موتاكم» فمبجرد أن ينطق ذلك الصديق تلك الجملة الكليشيهية، يسأله عبدالقادر: «فإن لم نجد؟» وما يعنيه هو «امتداد الماضي الكريه في الحاضر من ناحية، وضرورة امتلاك هذا الماضي من أجل المستقبل»، وهذا الماضي الكريه يخص بالطبع رشاد رشدي، وبالتالي قدم عبدالقادر حفلة على شرف المشاركين في كتاب الهيئة عنه، قبل أن يتفرغ لإكرام سمير سرحان ببذخ بالغ، فمثلاً يصف أنيس منصور بأنه «تقافز بين الكلمات وفوق السطور وتحتها، أعلن انتماءه، ووقوفه هناك، ثم لم يقل شيئاً، ولم تعرف إن كان ما يعنيه أنيس مدحاً أم ذماً، لكنك ستعرف يقيناً أنه متناقض» كما يشبهه بـ«حلاق ثرثار، يطرقع بالمقص فوق الشعر، وحوله، ولا يقص شيئاً»، وبالنسبة لمحمد سلماوي يقول إنه ثمة ملاحظة تخصه لا يستطيع كتمانها: «إن سلماوي يؤكد انتماءه لفكر بعينه وممارسة بعينها. ولعله يستمد بعض قيمته من هذا الانتماء، فكيف يفسر – في ضوء هذا الانتماء ذاته – ارتباطه الذي لا ينفصم حتى اليوم – برشاد رشدي؟».

الشاهد السابع    

محمد سلماوي: رشاد رشدي أستاذي والبعض بتعّمدون خلط الأوراق

هناك حكاية لا بد من سردها من باب الأمانة الصحفية تجمع محمد سلماوي وفاروق عبدالقادر. فقبل وفاة الأخير بقليل ناشد المثقفون اتحاد الكتّاب ليتكفل بعلاجه، وكانت هناك عقبة تواجه محمد سلماوي رئيس الاتحاد وقتها، إذ أن فاروق لم يكن عضواً بالاتحاد وبالتالي لا يمكن أن يُصدِر قراراً بعلاجه، لكنه بدأ إجراءات سريعة جداً لمنحه العضوية لم تستغرق سوى ساعات، ثم أصدر قرار العلاج بعدها. كان موقفاً ممتازاً من سلماوي الذي نسى تماماً أي خلاف سابق مع عبدالقادر، الذي لم يتردد سابقاً في انتقاده ضمن من انتقدهم بقسوة.

قرأت على مسامع سلماوي سؤال عبدالقادر: «كيف تفسر في ضوء انتمائك لجبهة أخرى ارتباطك برشاد رشدي؟» فقال: «أنا مدين لرشاد رشدي بالأستاذية، ومع ذلك كان في طريق وأنا في طريق آخر، كان مع السادات ومستشاره، وأنا ضده وموجود في السجن، لكن هذا لا ينكر أنه أستاذي، وللأسف بعض الناس لا يفرّقون بين الأمور، ويخلطون الأوراق، ويتعاملون بمنطق إما أبيض أو أسود، وهذه مراهقة سياسية وفكرية، هؤلاء لو اختلفوا معك ستصبح كل الأمور بالنسبة لهم سوداء. فاروق عبدالقادر كان يهاجم أي علاقة لأي شخص برشاد رشدي، والأديب يعرف أن أي إنسان ليس مسطّحاً، وأنه متعدد الجوانب، ولا بد أن يفرّق كذلك بين الجانب الجيد، والجانب غير الجيد، ومثلاً لا يمكن أبداً أن أقول إن عصر السادات أو عبدالناصر كله سيئ، فلا بد أن نرى الجوانب المضيئة كذلك، النظرة الأحادية قاصرة، لقد اختلفنا على سبيل المثال مع توفيق الحكيم ونظرته لثورة يوليو التي تضمنها كتابه (عودة الوعي) فهل هذا يلغي أستاذيته وكونه الأب الروحي للمسرح العربي بأكمله؟ لا بد أن نمتلك القدرة على التفريق».

شرح محمد سلماوي في مذكراته «يوماً أو بعض يوم» أنه تعلم الأدب الإنجليزي على يد أستاذه رشاد رشدي، وكيف اختاره معيداً في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، جامعة القاهرة، كان سلماوي ابناً لثورة 23 يوليو ويرى أن السادات يُجهز على مبادئها، وعبّر عن ذلك الرأي بوضوح فاعتقلوه. أسأله: «ألم يحاول رشاد رشدي إثناءك عن معاداة السادات؟!» فقال: «كان أستاذاً، والأستاذ لا يغّير مبادئك، كان أكبر من كل ذلك. أتذكر جيداً ذلك اليوم من أيام 1970 حينما ذهبت إليه لأقدّم له استقالتي من الجامعة. كنت أفكر في أن أسوار الجامعة تحدّ رغبتي في تغيير الواقع، وقلت لنفسي: ماذا سيفعل أستاذ يُدرّس شكسبير في مجتمع تبلغ أميته 60 بالمائة؟! وكنت أفكر في أن العمل صحفياً سيساعدني. ذهبت إلى الأهرام بدعوة من الأستاذ محمد حسنين هيكل، وفي الأهرام لم أجد نفسي في قلب الواقع فحسب، وإنما أمتلك أحد أدوات صياغة هذا الواقع. المهم أنني وأنا أبوح لأستاذي رشاد رشدي برغبتي في الاستقالة سألني: عايز تشتغل صُحفي؟! (بضم الصاد) كان مندهشاً لكنه لم يقف أبداً أمام رغبتي، بل إنه كلّم عميد الكلية ليقبل الاستقالة، ومرة أخرى.. هذا هو معنى الأستاذية». 

قصة صعود رشدي الصاروخية

نعود إلى دراسة «تجليات رشاد رشدي.. أو عودة الوجه القبيح» والضحية الجديدة سمير سرحان. يقول عبدالقادر إن سرحان تجاهل مسرحيات رشدي التي لقيت هجوماً شديداً، مثل «عيون بهية» التي كُتبت في تمجيد السادات، وقد أنتجتها أكاديمية الفنون حين كان رشاد رئيساً لها، وحضر السادات افتتاحها عام 1976، ويتساءل: «أما كان أولى به أن يقول رأياً في هذه الأعمال التي وصمت صاحبها إلى الأبد؟ فلماذا زاغ سمير سرحان من هذا كله؟» ويتطوع بنص تعبيره ليقدم التفسير: «إن رشاد رشدي قد مات وشبع موتاً، ولا فائدة ينتظرها من الكتابة عنه الآن، وحتى لا يبدو التفسير من عندي سأتطوّع بأن أذكّر سرحان بما كتبه حين كان رشدي في أوج صعوده في ذيل السادات وسرحان يجدُّ في الصعود في ذيل رشدي: في 74 كانت تُعرض (حبيبتي شامينا) وكان رشدي رئيس تحرير مجلة فاقت كل سابقاتها ابتذالاً وتفاهة، في تلك المجلة (الجديد.. العدد 49 بتاريخ 15 يناير 1974) كتب سمير سرحان: (ويخرج علينا الدكتور رشاد رشدي بعمل جاد وكبير من أهم وأخطر ما كُتب للمسرح المصري، يعيد إلينا الثقة في مسرحنا المصري، وفي التزامه العميق بالقيم التي كشف عنها وبلورها أكتوبر العظيم وليعيد إلينا الثقة في جمهور المسرح الذي ظلموه ومسرحيات الدكتور رشاد رشدي أًصبحت الآن بلا جدال من كلاسيكيات المسرح المصري وشامينا تضيف صرحاً جيداً جديداً إلى هذا التراث» ويسرد عبدالقادر قصة صعود رشدي الصاروخية إذ قدّم كثيراً من الخدمات للسادات جعلته مثقفاً مكيناً ومقرباً بل إنه أصبح مستشار السادات لشؤون الأدب والفن، وقد كان سمير سرحان لصيقاً برشدي في كل خطواته ونال مكافآت خاصة مع كل خدمة أو دور كان يؤديه لمعلمه، فمن عميد لمعهد الفنون المسرحية إلى مسؤول عن الثقافة الجماهيرية إلى رئيس لهيئة الكتاب.

ويقول إنه يجد شيئاً من الحرج في الوقوف أمام أرملة رشاد رشدي (ثالث زوجاته) وهي حرة في تغيير اسمها من ثريا أحمد حسن إلى ثريا رشدي لكنه ليس مجبراً أن يصدق أكاذيبها عنه، حتى لو كانت هي تصدق ما تقوله، فمثلاً تقول هي إن زوجها تسلم مسرح الحكيم وكان خراباً ينعق فيه البوم ومفهوم طبعاً أنها ستصل للقول إن رشدي الأسطورة حوله إلى أكبر منارة ثقافية في مصر ويرد عبدالقادر ببساطة: «أولى الأكاذيب أن المسرح لم يكن موجوداً أصلاً قبل أن يتولاه رشدي، بل أنشئ خصيصاً لكي يتولاه» و«وفي اليوم التالي صدر العدد الأول من مجلة المسرح يرأس تحريرها رشاد رشدي ويعمل في سكرتاريتها سمير سرحان، أما دور هذه المنارة فيعرفه كل المشتغلين الذين لم يجرفهم ميل أو هوى، إنه الإسهام في تخريب المسرح المصري»..

لطيفة الزيات طلبت الطلاق من رفيق  النضال وتزوجت بأستاذها رشاد رشدي

أما قصة رشدي مع زوجته لطيفة الزيات فيقول عبدالقادر إنها مختلفة لا زيف فيها ويعتمد في قرائته على قصة «على ضوء الشموع» من مجموعتها «الشيخوخة وقصص أخرى».

بدأت لطيفة الزيات (1923-1996) حياتها السياسية في منتصف الأربعينات، وكانت من قيادات الحركة الوطنية المصرية في ذلك الوقت، وشاركت في دفع الحركة الطلابية إلى الأمام، وكانت عنواناً للنضال في مواجهة الاحتلال الإنجليزي والإقطاع، وانتُخبت كعضو بارز في اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، وقادت تلك اللجنة نضال المصريين في تلك المرحلة، وصاغت برنامجاً وطنياً ملهماً لكل الحركات السياسية، وقد استرشد الضباط الأحرار بهذا البرنامج أثناء قيامهم بثورة 23 يوليو عام 1952.

وما لم يذكره فاروق عبدالقادر أن لطيفة الزيات تزوجت من أحد زملائها المناضلين، وهو الشاب أحمد شكري سالم، الذي تنفرد «أخبار الأدب» بنشر أول صورة له، وعاشا معاً حياة النضال المليئة بالألغام، والخوف، والأمل، والرغبة في التحرر، كانا يعيشان حياتهما يوماً بيوم، لا يقصّران في واجباتهما النضالية لكنهما كذلك لا ينسيان أنهما زوجان عاشا قصة حب كبيرة، مظللة برائحة بارود البوليس ومطارداته المخيفة، وحدث ما كانا يخشيانه ذات يوم. لقد قبضوا على زوجها وحبيبها أحمد شكري سالم، ليدخل السجن بتهمة شنيعة، وهي محاولة قلب نظام الحكم، كان يحدوها الأمل في خروجه، وانتظرته فترة، وقد شعر ربما بأن علاقتهما شابها الفتور، فهي امرأة لها متطلبات أيضاً، صحيح أنها مناضلة إلا أنها كذلك في احتياج ماس لتشم رائحة أنفاسه، لطالما كان قريباً منها، وبالتأكيد تفتقد ملمس جلده، حتى أنه اقتنع أو أُقنع ذات يوم بأن يقدم استعطافاً تلاه استعطاف إلى الملك فاروق يطلب العفو متعهداً بألا يعود أبداً إلى العمل السياسي، وربما كان صادقاً في ذلك، وربما كان يتحين الفرصة للقاء بحبيبته عائداً ليقدم الواجب إلى بلده، لكن الملك – كما كان متوقعاً – لم يوافق، إن هناك من ردد في ذلك التوقيت – وهذه معلومة ليست موثقة – بأن لطيفة الزيات، من شدة قسوة الحياة في غياب زوجها، هي من طلبت منه إرسال تلك الاستعطافات، وعندما يأست أخيراً من الإفراج عنه، طلبت الطلاق، وتزوجت من أستاذها رشاد رشدي عام 1952، لتستمر العلاقة بينهما حتى 1965، علاقة لم تجد نفسها فيها أبداً، هي المرأة التقدمية التي لم تعرف طوال حياتها سوى النضال لا جلسات الأنس والسهر في الفنادق المطلة على النيل، فطلبت الطلاق. كان رشدي يتملص ويرفض طلبها، وكان يقول لها بتعاليه: «أنا اللي صنعتك» ولكنها أصرّت على الطلاق كما أوضحت ذلك باستفاضة في كتابها «أوراق شخصية.. حملة تفتيش» وصبّت غضبها على تلك الحياة التي استمرت ثلاثة عشر عاماً لم تعرف فيها طعم السعادة، وقد كتبت روايتها الشهيرة «الباب المفتوح» وهي تنام مع رشدي على سرير واحد، وقد صدرت الرواية عام 1960، وتحولت إلى فيلم سينمائي، قامت ببطولته الفنانة فاتن حمامة.

فاروق عبدالقادر: لطيفة الزيات أدمنت البكاء في ظلمة المسرح والسينما والسرير

وقد حاول فاروق عبدالقادر أن يرسم صورة لتلك العلاقة التي جمعت الاثنين، وأيضاً الحياة السرية التي غرقا فيها. يكتب فاروق: «للمرة الأولى ومن وراء قناع الفن الجميل وفي ظله تتحدث لطيفة الزيات عن تلك الخبرة المعذِّبة في حياتها، ارتباطها الزوجي برشاد رشدي من منتصف الخمسينيات حتى اتخذت قرارها بالانفصال عنه، منتصف الستينيات» ثم «إن القصة تبدأ وصاحبتها في ذروة من ذرى أزمتها، فالرغبة القديمة تلح عليها للإفلات من الشقة العالية المطلة على النيل، ومن زوجها ودائرة نفوذه وهي تنطلق في رحلة مع بعض أصدقائها إلى بيت في إحدى قرى الفيوم، ترتاح هي للجماعة التي ستصحبها لأنها مختلفة عن تلك التي تتحرك في إطارها خلف زوجها، والتي تسهر في كافتيريا سميراميس وتحضر حفلات الافتتاح في المسارح والمعارض وتتناول العشاء على ضوء الشموع في المطاعم الأنيقة، عين إلى الخارج والثانية إلى الداخل، والاثنتان تعملان في تناسق وتناغم ولأن ما في الداخل هو ما يعنينا الآن فإن الكاتبة تقطع بنا رحلة أخرى تستدعي خلالها صوراً وأحداثاً وتفاصيل ومشاعر» ثم يتحدث عن روايتها «الباب المفتوح» عام 1960 وقد سألها صديق: إن مشروع الرواية يفلسف الفشل، هل تحاولين تبرير وضع لا تطيقينه؟ ويتساءل عبدالقادر: لماذا نسيت العهد الذي قطعته على نفسها بأنها لو ملكت القدرة على إكمال روايتها لواتتها القدرة على التحرر من زوجها ومن هذا البيت ومن هذا الأسلوب في الحياة؟ أتمت الرواية ونسيت – في حومة نجاحها – العهد، وبدل أن تشارك بقدر ما تستطيع في تغيير الأوضاع أدمنت البكاء في ظلمة المسرح والسينما والسرير، ويقول في نهاية مقاله «ونحن نفتح هذه الصفحة الكريهة لا من أجل الماضي بل من أجل الحاضر والمستقبل، ولعلك قد رأيت مما سبق أن رشاد رشدي لم يمت، بل لعله قد تزايد أو تكاثر… إن معارك الماضي لم تنته ما دامت تحيا في الحاضر، ولهذا يجب أن تُخاض المرة بعد المرة حتى لا تتم خسارتها إلى الأبد، نعم يجب أن تخاض المرة بعد المرة حتى لو نسينا – في غمارها – أن نذكر محاسن موتانا!».

عبدالمنعم رمضان عبيد نشر قصيدة في  «الجديد»

ليست قصة لطيفة الزيات مع رشاد رشدي هي كل ما في حوزتنا عن «الجديد» ففي أحد الأعداد وجدنا اسم «عبدالمنعم رمضان عبيد» يتذيل قصيدة، ألم يكن رمضان ملماً بما يجري حوله في تلك الفترة؟ ألم يدرك فداحة أن ينشر في مجلة يرأس تحريرها رشاد رشدي؟ يقول: «في ذلك الوقت كنت طالباً بكلية التجارة جامعة عين شمس، ولم أكن أعرف أحداً في الحياة الثقافية بعد، كان رفاقي في رحلة الشعر آنذاك طلبة في الجامعة، اليسار المصري الماركسي كان له في تلك الأيام حضور قوي في الجامعة، تعرفت على بعضهم وجذبوني بشدة إلى الضفّة التي يقفون عليها، في هذه الفترة كان زميلي في الشعر بشكل مباشر محمد خلاف، وكان شاعراً جميلاً ومثقفاً أجمل  لكنه استمرأ البقاء في غربته الطويلة». 

ويقول رمضان إن رشاد رشدي لم يسمّ مجلته بالمعنى المطلق لكلمة «الجديد» لكن اختار هذه التسمية ليؤكد انتسابه إلى مدرسة الأدب الجديد ومنها ت. س. إليوت، ويضيف: «اليسار المصري كان ينظر إلى هذا الاتجاه بريبة كبيرة، ولعل تلامذة رشاد رشدي أكدوا موقفه واختياراته وستتأكد من هذه العبارة حينما أذكر لك أسماءهم، سمير سرحان ومحمد عناني ونهاد صليحة.. إلخ.. إلخ. لقد ظلوا دائماً على يمين الثقافة المصرية مع الشهادة للجهود العظيمة التي يقوم بها محمد عناني في الترجمة، والتي لم أستطع أن أستفيد منها أبداً. رغم أن هناك من يعتبره سيد الترجمة الأول». 

لطيفة الزيات لعبدالمنعم رمضان: رشاد رشدي كان سوبرمان في الفراش!

يضيف عبدالمنعم رمضان: «كانت علاقتي بالمجلات آنذاك تقوم على المراسلات، كنت أرسل قصائدي إلى مجلات مختلفة ربما منها (الجديد)، وفي هذا التوقيت كنت قد امتلأت ثقة في أنني سأكون شاعراً، وقد ذهبت في أوائل عام 1971 إلى أحمد عبدالمعطي حجازي في مجلة روزاليوسف، وتركت معه كراسة تضم عدداً من قصائدي، وفوجئت به – بعد شهر أو أقل أو أكثر – يخصص مقاله الأسبوعي في المجلة عن شعري، تحت عنوان (نداء إلى شعراء المستقبل) وقد اختتم المقال بأنه يعتقد أنني سأضطر إلى اختصار اسمي، لا بد أن تتصور معي أن مكانة حجازي عندي في ذلك الوقت كانت كبيرة إلى حد تصديقه دائماً، وعندما صدرت مجلة (الجديد) وبعد أول عدد كتب حجازي مقالة في روزاليوسف بعنوان (قديمة يا دكتور) وقد كانت التيارات الثقافية المختلفة تنظر إلى أنشطة رشاد رشدي الثقافية بريبة كبيرة وتحسبها مفرطة في يمينيتها، ومع أنني تأثرت بهذه الرؤى والأفكار إلا أنني كنت أتمنى أن أقرأ شعري مطبوعاً في صفحات المجلات، ولم أكن قد تعودت بعدُ على المفاضلة بين المجلات، على أساس من موقفها الأيديولوجي، لذا أعتقد أنني أرسلت إلى الجديد قصيدة أو كذا، لكن ما حسم علاقتي بتلك المجلة بعد ذلك هو أن السيد الدكتور رشاد رشدي نشر مسرحية لشخص كان موجوداً في جيلي اسمه سليمان الحكيم، وقد تبيّن أنها مسروقة بالكامل، وسلوك سليمان في الحياة والثقافة فيما بعد أكد إمكانية صحة هذا الاتهام. وقد أصبحت (الجديد) في الأزمنة التالية بالنسبة لي مجلة في المكان الذي لا أريد أن أذهب إليه، ومع ذلك سافرت مع الدكتورة لطيفة الزيات إلى باريس وكنت أعتز بصداقتها، وتلك الصداقة جعلتني أتجاسر وألومها على إنكار أو استنكار زواجها من رشاد رشدي لفترة ما في حياتها، ولم ترد عليّ سوى بعبارة لا أنساها، كان سوبرمان في الفراش»!

والجملة الأخيرة لعبدالمنعم رمضان قريبة الشبه من جملة لطيفة الزيات في مذكراتها «أوراق شخصية.. حملة تفتيش». سألها أحد أساتذتها عقب الطلاق مستنكراً: «لماذا تزوجتي رشاد رشدي أصلاً؟!» فقالت: «كان أول رجل يوقظ الأنثى فيّ»!

«القاهرة» منارة غالي شكري إلى العالم العربي

صدر أول عدد من مجلة «القاهرة» الثلاثاء 5 فبراير 1985 برئاسة تحرير عبدالرحمن فهمي، وكتب افتتاحيته بعنوان «هذه المجلة» وفي جزء منها يقول: «هذا هو عددنا الأول، ولسنا من الغرور بحيث نزعم أنه النموذج الأمثل لما نريد، أو أنه قريب كل القرب مما نريد، وإنما هو خطوة أولى فحسب على طريق طويل وعر. ثم إننا نؤثر أن ندع تقييم عملنا للقارئ نفسه، فإنما إليه نتجه، ومن أجله نعمل، فهو بالحكم على عملنا أحق، وعليه أقدر. وحسبنا هنا أن نقدم إليه تصورنا لما نريد، وطريقنا إلى تحقيق هذا التصور، ليتابعنا على الدرب، ويشاركنا، كما نأمل، هذا الجهد».

صدرت المجلة في البداية أسبوعياً حتى العدد 57 بتاريخ 4 مارس 1987، ثم صارت شهرية بدءاً من العدد 58 وكانت تصدر يوم 15 من كل شهر، في 15 نوفمبر 1986 (العدد 65) تولى رئاسة تحريرها د.إبراهيم حمادة. توقفت منذ أبريل 1991 (العدد 115) وأعيد إصدارها في مايو 1992 (العدد 116) برئاسة تحرير غالي شكري.

وهذه المجلة ربما الأهم في تاريخ المجلات الثقافية والفكرية المصرية، فقد تصدّت لكل القضايا الحسّاسة، وخصصت – على سبيل المثال – عدداً كاملاً عن الدكتور طه حسين، لمناقشة كتابه الذي أثار زوابع لم تهدأ لسنوات «في الشعر الجاهلي»، كما خصصت عدداً كاملاً عن معركة الدكتور نصر حامد أبوزيد، تصدرته صورته مع رفيقة دربه ابتهال يونس وتضمّن العدد معظم الوثائق التي تخصّ معركته مع خصوم التنوير، وكذلك أصدرت عدداً كاملاً عن الفنان شادي عبد السلام، ونشرت فيه سيناريو وحوار فيلمه «المومياء». ونشرت المجلة مسرحية «محاكمة إيزيس» للدكتور لويس عوض، وأثارت ذعراً بين القوميين، لأنها تتحيّز للهوّية المصرية بشدة، وتعتبر أن العروبة دخيلة عليها، ولم يمتنع غالي شكري عن نشر ردود وتعقيبات ومقالات لمن يخالفهم الرأي في تلك القضية، وعامة استطاع أن يضفي جانباً صحفياً على المجلة، ودخلت «القاهرة» في منافسة جميلة مع «فصول» التي كان يرأس تحريرها الدكتور جابر عصفور، وفي الوقت الذي أعدّ فيه عصفور عدداً كاملاً عن الشاعر السوري أدونيس، أعدّت «القاهرة» عدداً كاملاً عن محمود درويش.

اشتبكت «القاهرة» مع كل المناطق الحرجة في الثقافة المصرية، وكما كتبت عن نصر أبو زيد وطه حسين وشادي عبد السلام، صدّرت عدداً قبل ذلك بسؤال: «من قتل فرج فودة؟»، وتابعت القضية بحماس بالغ، كان غالي شكري يسأل معاونيه وأصدقاءه: ما الذي يمكن أن نفعله؟

يقول شعبان يوسف: «تشاء الأقدار أن تداهم الدكتور غالي جلطة عنيفة، ويرتبك طاقم المجلة، ويسعى كثيرون لقتله على سرير المرض، بمحاولة القفز على كرسيّه، وأشهد أن الشاعر مهدي مصطفى قاتل ليظلّ مقعده شاغراً في انتظاره حتى يعود بالسلامة، وكان أكثر الساعين إلى مقعد غالي شكري الناقد عبد الرحمن أبو عوف، كان يجري اتصالات مكثفة مع الدكتور سمير سرحان، رئيس هيئة الكتاب وقتها، وقد صدر له قرار بتكليفه نائباً لرئيس تحرير القاهرة»، ويضيف: «وفي أزمة غالي شكري سعى – بشكل لافت وعنيف – إلى أن يصدر له قرار برئاسة التحرير، وكان الصراع على أشدّه بينه من ناحية، وبين مهدي مصطفى ومن معه، وأتذكر الآن أن الشاعر كريم عبد السلام، سكرتير التحرير، أخذ جانب أبوعوف، خاصة بعد تردد إشاعة قوية بأنه على مشارف أن يجلس على مقعد غالي شكري، لكن لم يحدث أي شيء، لا عبدالرحمن أبوعوف أصبح رئيساً للتحرير، ولا كريم عبدالسلام ربح شيئاً من موقفه، ولا المجلة استمرت. فقط صدر عدد بائس وحيد منها في غياب غالي شكري، وتحت إشراف نائبه أبوعوف، وبعد موتها بقليل عادت المجلة لتصدر كجريدة، يترأس تحريرها الكاتب اليساري صلاح عيسى».

الشاهد الثامن مهدي مصطفى: بهاء طاهر وصلاح فضل وأنيس منصور كانوا مطروحين لرئاسة تحرير «القاهرة»

أهمية شهادة مهدي مصطفى أنه عمل في سكرتارية تحرير المجلة ثم أصبح مديراً لتحريرها مع عبده جبير، وهو يرى أن ذلك الصراع الذي جرى أثناء مرض الدكتور غالي شكري أمر لا يستحق الذكر، إذ أنه لم يستمر لفترة طويلة، كما أن هناك مخططاً آخر كان مقرراً للمجلة منذ زمن، مخطط أكبر من كل ما يتردد عن سعي أبوعوف وغيره لرئاسة التحرير. يقول: «كان عبدالرحمن أبوعوف يتعامل معنا من الخارج، وبعد فترة اقترحت على الدكتور غالي إنشاء هيئة للتحرير فوافق، ومن بين الأسماء التي اقترحتها كان أبوعوف، والحق أنه كان الأكثر انتظاماً في تلك الهيئة على الحضور والانخراط في العمل»، ويضيف: «لكن بعيداً عن هذه القصة كان هناك مخطط للمجلة كما ذكرت، إذ أنها الوحيدة التي تملك ترخيصاً من الخارج، أي يمكن تحويلها إلى جريدة كما أراد الوزير فاروق حسني. لم يكن ذلك ممكناً مع مجلة أخرى، لأن معظم المجلات كانت تصدر بالإخطار. كان المخطط حتى قبل مجيء غالي شكري، وقد طُرحت أسماء كتّاب ونقاد لرئاسة تحرير الجريدة المنتظرة ومنهم بهاء طاهر، وصلاح فضل، وأنيس منصور، غير أن ما كان يعوق عملية التنفيذ أن الدكتور غالي تسبب في إحراج الجميع بتلك الانفجارة التي صنعها بالمجلة. كانت شيئاً عظيماً في واقع راكد، وشهد لها الجميع، وكان من المحرج ومن الصعب كذلك التخلص من الدكتورغالي، لكن المرض جاء لينهي كل شيء».

أسامة عفيفي بعد عظماء..  وأول افتتاحية للشعر كتبها عبدالقادر القط

لا يمكن مناقشة التحولات التي جرت لجميع المجلات، إذ أن بعضها لم يدخل في إطار معارك الطابق الأول من «1117 كورنيش النيل» كما لا يمكن عرض تاريخ كل المجلات وبعضها لا يزال يصدر، لكنه يصدر ميتاً، وبالتالي سنتعرض في عجالة لبعض المجلات المهمة في إشارات وسنبدأ بـ«المجلة».

صدر أول عدد منها في يناير 1957 تحت شعار «سجل الثقافة الرفيعة» برئاسة تحرير د.محمد عوض محمد، وكان مقر إدارتها 5 شارع شريف باشا، وفي العدد ١٥بتاريخ مارس ١٩٦٨ انتقلت إلى ٦٨ شارع قصر العيني ومع تولي د.علي الراعي انتقلت  إلى 27 شارع عبدالخالق ثروت وقد ظلت في هذا العنوان حتى العدد ١٢٨ وابتداء من العدد ١٢٩ امتنعت عن نشر العنوان وفي فترة أخرى توقفت ثم عادت، لتستقر في 1117 كورنيش النيل. لم يكتب عوض افتتاحية، وإنما جاء الموضوع الأول مباشرة بقلم الوزير فتحي رضوان تحت عنوان «قناة السويس بين التأميم والتدويل»، وفي العدد الثاني جاءت افتتاحيته أشبه بدراسة عنوانها «العدوان الثلاثي وعواقبه» بعد أسابيع من تحرير بورسعيد وجلاء القوات المحتلة عن أرض مصر. بدءاً من العدد التاسع في سبتمبر 1957 رأس تحريرها د.حسين فوزي، وجاءت افتتاحية العدد في خمس صفحات بدون توقيع، عنوانها «أهازيج النصر» أتبعها د.حسين فوزي بموضوع طويل عنوانه «الجمعة الحزينة.. عن ابن إياس». منذ العدد العاشر أصبحت الافتتاحية بعنوان «الحق أقول لك» بدون توقيع، وفي ذلك العدد تنتهي بالفقرة التالية: «الأعمال الفنية، مقضي عليها ألا تنتفع بألسنة التراجمة والأدلاء ولا بأقلام الشارحين والمبسطين، إنها ترجمان نفسها، تتحدث عن نفسها بلغتها الخاصة، ومصطلحاتها الخاصة، فإن فهمنا عنها فبها ونعمت، وإلا فسيأتي الألوف والملايين بعدنا، سيقرءون فيعجبون، وسيقرءون فيغضبون، وسيقرءون فلا يرتفعون إلى مراتب الإعجاب، ولا يهبطون إلى دركات الغضب، ثم سيأتي من بعدهم، ومن بعدهم، والعمل الفني يتجدد، ويبقى، ويفهم ويغمض، ويظهر ويختفي، ويحب ويكره… رافضاً طوال الوقت أن يشرحه شارح. وإن كان سيلهم أو يوهم الكثيرين بأنهم قادرون على شرحه وكشف غوامضه، وتجلية خوافيه.. هذه (أزيمة) أدبية إن شئت، أو أزمة كبيرة إن أردت، ولكنها في رأيي من حقائق الحياة الفكرية الذهنية، لا فرار منها، ولا محيص عنها».

تولى د.علي الراعي رئاسة تحرير المجلة بدءاً من العدد 27 بتاريخ مارس 1959، وفي مستهل كلمته كتب: «في الأعداد القادمة من (المجلة) سنسعى إلى زيادة ربطها بجمهور القراء، وسنحاول أن نصل بها إلى فئات جديدة من المثقفين وطالبي الثقافة، دون أية تضحية بمستوى المجلة الرفيع الحالي. وفي  هذا السبيل، سنضيف أبواباً جديدة».

ظلت المجلة محتفظة بشكل واحد للغلاف حتى مايو 1960، لم يتغير خلال تلك المدة غير مرة واحدة في يناير 1960، ثم عاد هذا الشكل الجديد في يونيو 1960 مع العدد 42 واستمر، بأن توضع صورة مختلفة كل عدد في مربع تحت اسم المجلة، مع ذكر تعليق لها ووضع التاريخ ورقم العدد على الغلاف.

تولى يحيى حقي رئاسة تحرير المجلة بدءاً من العدد 64 في مايو 1962، وكتب في كلمته الافتتاحية: «قد تتبدل الأيدي على (المجلة) ولكن أغراضها تظل ثابتة، تزكية القارئ للانضمام إلى ناد عالمي يفتح أبوابه لجميع الأجناس، يأتيه كل عضو متواضع بخير كنوز أمته ولغته، ومن جماع الأنصبة ينشأ رصيد يتقاسمه الكل باعتزاز، وبهذا يستحل المعطي أن يأخذ. جميع الأعضاء غير منشغلين إلا بقضايا الفكر وحدها، إنهم يهيمون بإشاعة العدل والسلام والإخاء والجمال والفضيلة والاستقامة، ومحاربة الفتنة والشر والدمامة والاعوجاج والظلم، وبأن يكون كل عضو مثالاً للإنسان المتحضر الحديث في علمه وأدبه وفنه وذوقه وسماحته، هذا هو المنهج الذي عمل له فتحي رضوان، ومحمد عوض محمد، وحسين فوزي، وعلي الراعي، وكل من آزرهم، والذي من أجله لا تزال (المجلة) تصدر برعاية القائمين اليوم بأمرها، وعلى رأسهم الوزير الأديب ثروت عكاشة، الواقفين عليها أقصى جهودهم، تحقيقا للرغبات الشريفة التي تملأ قلوب مواطنيهم في تطلعهم لمستقبل جدير بأمتهم. (المجلة) أمانة في عنق المثقفين من العرب جميعاً، هيهات لها أن تحقق رسالتها إذا لم تفز منهم بالعطف والتأييد والحرص على ألا تنزل عن مستواها الرفيع، وهي تتقبل شاكرة كل رأي ونصيحة وتحث كل قادر في الأمة على أن يمنحها خير ما عنده».

حمل العدد 91 صفة «ممتاز» على الغلاف بتاريخ يوليو 1964، وبدءاً من العدد 168 في ديسمبر 1970 تولى د. عبد القادر القط رئاسة تحرير المجلة، في ظل وجود د. سهير القلماوي رئيساً لمجلس الإدارة. ولم يكتب افتتاحية، وإنما جاء الموضوع الأول بعنوان «الثقافة طريق السلام» للدكتور ثروت عكاشة. 

وقد ماتت المجلة وأعاد الدكتور أحمد مجاهد إحياءها، واختار لذلك أسامة عفيفي، لكن مطالعة الأعداد تحت رئاسة تحريره تكشف عن مدى التراجع الذي وصلت إليه، وهكذا لم تكن نوايا الدكتور مجاهد الطيّبة وحدها كافية لإعادتها إلى عصرها الذهبي، عصر علي الراعي ويحيى حقي.

وقد تعرّضنا في أزمة مجلة «الكاتب» لمجلة «الشعر» ورؤساء تحريرها المتعاقبين بدءاً من الدكتور عبدالقادر القط مروراً بصلاح عبدالصبور (لمدة عدد واحد) وانتهاء بفارس خضر، لكن من اللازم الإشارة إلى افتتاحية أول عدد صدر عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي في يناير 1964، فقد كتبها القط كأنها «مانيفيستو» تحت عنوان «هذه المجلة» في ثماني صفحات متحدثاً عن أزمة الشعر: «إن صدور مجلة للشعر لا يعد ثمرة طيّبة فحسب، من تلك الثمار الكثيرة الطيبة التي تقدمها وزارة الثقافة إلى حياتنا الأدبية والفنية، ولكنه إلى جانب ذلك يبشّر بنهضة كبيرة لهذا الفن الرفيع تردّ إليه بعض ما كان له من مكانة مرموقة في مجتمعنا العربي، وتتيح للشعراء أن تصل أصواتهم في يسر إلى دائرة أوسع من القرّاء بعد أن ضاقت هذه الدائرة في السنوات الأخيرة حتى أحسّ الناس أن الشعر يعاني لدينا أزمة حقيقية لا بد لها من حل. والحق أن الشعر في العالم أجمع يعاني شيئاً من هذه الأزمة لأسباب كثيرة تتصل بطابع الحضارة والثقافة في العصر الحديث، ولكن أزمته عندنا تتخذ صورة حادة لا تتأثر بتلك الأسباب العالمية وحدها بل تتحكم فيها عوامل محلية أخرى يقوم أغلبها على فهم غير صحيح لبعض قضايا الأدب والفن».

قرابة 25 ألف كلمة – وكان يمكن أن تتضاعف – وجدناها جميعاً في انتظارنا وراء باب شقة في بناية، في شارع من شوارع مدينة واحدة، من مدن مصر. ولا شك أن تحت كل حجر في مصر، ووراء كل باب، وربما في ظلّ كل شجرة تاريخاً ينتظر من يُدوّنه أو يبدأ تدوينه، منتظراً جهود آخرين لتكمل ما بدأه. ربما في اللحظة التي فتحت فيها باب «1117 كورنيش النيل» أكون قد فتحت باباً على التاريخ، بشخصياته، وأشباحه، وعمالقته، وأقزامه، ومجلاته، وأشباه مجلاته، ومعاركه، ومناوشاته، لكن ليس بيدي إغلاقه، فأبواب التاريخ تُفتح لتبقى مفتوحة..

…………………

نشر بتاريخ 8 سبتمبر 2019 في أخبار الأدب

 

مقالات من نفس القسم