زمن الأحذية المنسية

زمن الأحذية المنسية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

1ـ رسالة تليق بزجاجة في البحر

هذه هي المرة الأولى التي اكتب لكِ فيها كصديق..

لم يعد الامر قاصرا على رسائل التعارف والاقتراحات وأسماء الأفلام، التي تخص برنامج الدورة التدريبية الذي انتهي على خير، صارت هناك أمور اخرى تستحق التدوين.

كتبت لك بالأمس-الخميس- رسالة طويلة ، لكنها كانت شفوية للأسف أو لنقل كانت ذهنية.

كنت أتسكع للمرة الاولى في شارع الرينبو وقت الغروب، توقفت أمام شرفة تكشف جزءا لا بأس به من افق المدينة وتمنح الجبل –الذي لا أدري اسمه- بهاء حميميا.

وجدتني اتحدث معكِ طوال الساعة التي استغرقتها التمشية، ربما كنت استحضر صحبة افتقدها او أأتنس باكتشاف أنه صار لي أصدقاء بالمدينة يمكن أن أكتب لهم دون أن يكونوا متخيلين أو خارج نطاق التعارف.

نطير الآن فوق العقبة، أفكر في أن أترك لك الرسالة داخل زجاجة، القيها من شباك الطائرة معبأة بالهواء كي تلتقطينها وانتِ عابرة فوق الماء يوم الاثنين في طريقكِ إلى القاهرة، سيكون هذا مثار غيرة لركاب كثيرين، بعضهم لا يوجد من ينتظره بالمطار فما بالك بمن تركت له رسالة في منتصف الطريق.

انتهيت من قراءة 100 صفحة من كتاب مستغانمي الذي اهديتني اياه، واصبح لدي اعتراف اتمنى الا يغضبك، لم تكن هذه هي الرواية الأخيرة لها كما قلت لكِ حين كنا نتسكع في شارع السوق كصديقين على وشك أن يبوحا بما يخالف ذلك، انه كتاب نصائح عاطفية للنساء كي يتمكنوا من نسيان الرجال الذين مزقوا دماءهن، كتاب مليء بالثرثرة والتسكع اللغوي والعاطفي-ولكنه بلا شك يختلف عن تسكعنا المنمق في تلك الظهيرة الماسية-.

الرواية الأخيرة لمستغانمي ضمن ثلاثيتها الشهيرة(ذاكرة الجسد، فوضى الحواس) هي رواية”عابر سرير”، اعتذر بشدة عن الخلط، هل كان هذا من أثر (فلافل هاشم)، ام ذلك الشاب الريفي الذي وقف يتناطح معي حول اسم محل الفول الشهير بالقاهرة (البغل أم الحجش).

اضحكني كثيرا تعليق صديقنا المشترك في محاولة لإغلاق باب الجدال حين قال انه حجش ولكنه “عامل نفسه بغل”.

الشئ الوحيد الذي يمكن ان يجعلني احتفظ بهذا الكتاب هو انكِ اهديتني اياه، الاهداءات تمنحنا سكينة القبول، وبهاء الرضا عن اشياء كثيرة- ربما لا نقبلها في الاحوال العادية-  طالما امتدت بها يد صديقة إلينا بلا مقابل.

لست ادري كيف سيكون شعوركِ حين تحلقين فوق سماء القاهرة نهارا للمرة الأولى- قادمة من عمان-، اتمنى ان تروق لك غلالة الدخان التي تعلوها، انها ماكرة تحاول ان تبدو عذراء في خدرها الملوث لكن لا تدعي براءتها المصطنعة تخدعك.

الغريب أنني اتصور أنكِ من القلائل الذين يمكن أن يقهروا هذه المدينة لو أنهم استقروا بها، القاهرة لا تهدأ حتى تغرس رايات الهزيمة في ارواحنا، وتتركها ترفرف عاليا حتى يراها كل عابر ومقيم، ولكن ثمة فئة من اصحاب الرايات المنتصرة تنجح في السيطرة على هذا التنين الأعور وترويضه لصالحها.

اتذكر عينيكِ، هذا الألق الخاص بالذكاء الذي يجعلها مغوية للنظر مهما احاطتها الهالات السوداء او علامات الأرهاق والتعب من كثرة الأعمال المكتبية الخانقة، هذا الهدوء الذي يجبر محدثكِ على اختيار كلماته، لأن كل شئ يوزن خلف هاتين العينين قبل ان تهتز الرأس بالرضا لو راقها ما يقال، او تلوح ابتسامة ساخرة متشككة في طرف العين حين تدرك ان فحوى الكلمات لا طائل من ورائه، كل شيء يوزن في عينيكِ قبل ان يمر إلى رأسك الصغير.

اجلس الأن في صالة مطار القاهرة، كالعادة تأخرت أمي عن القدوم في موعدها، في المرة السابقة جاءت قبل الموعد بساعتين والمرة التي قبلها جاءت بعد الموعد بساعة ونصف، واليوم قررت أن تغادر المنزل وقت أن وصلت الطائرة إلى ارض المطار وليس قبل ذلك.

اجلس امام السير الخاص بالحقائب، الكل اخذ حقائبه وغادر، تبقت فقط حقيبتان يبدو انهما تنتميان لنفس الشخص، لا استطيع أن اصف لك كم هو حزين وتراجيدي ذلك المشهد، حقيبتان بلا مسافر تدوران في انتظار ان يأتي صاحبهما، اين اليد التي كان من المفترض أن تمتد لتهبط بهم من فوق السير ثم تحملهم نحو الخارج، كيف طاوعه قلبه ان يتركهم هكذا عرضه لإشفاق الأخرين وهلاوسهم الحزينة، يدوران على مقربة من بعض، وكأن كل واحدة تحاول أن تقترب من الأخرى كي تأتنس بها أو تسألها عما حدث :

(اين هو؟) هل نسى؟

 هل ضاع؟ هل تاه؟

هل ابتلعه الطريق

 ام ضلت حواسه الاتجاه؟

غادرت الصالة دون ان اعلم ماذا سيكون مصيرهم! اتمنى ان يكون الامر مجرد تأخير، للأشياء ايضا عواطفها التي لا يليق بنا ان نتجاهلها وإلا فقدنا جانبا من شعورنا بالحياة،  ما الحياة هي إلا بشر واشياء، وكم تعوضنا الأشياء كثيرا عن غياب البشر او جحودهم، الأشياء تظلنا ولا تطلق شرها في وجهنا عمدا، الأشياء طيبة طالما لم تمتد لها يد بشر فاسدين.

ابلغت القاهرة انكِ قادمة لزيارتها، علها تتأدب وتصلح من زينتها..

 اتمنى ان تكون عند حسن ظنك بالمدن..

اتمنى ان تضع في يدكِ كتابا ووردة..

 نحن في انتظاركِ..    

 

2- نسيت الحذاء عندك..

 

لم يكن من الممكن ان افوت اليوم دون ان اكتب إليكِ .

بالامس لم تكن لدي الطاقة ولا القدرة على الجلوس كي ألقي على مسامع ملائكة الكتابة ما اود ان ادونه عن لقائنا، ويا ليتني جلست، قضيت يوما مرهقا واصابني الاحباط فيما يخص مسألة سفري إلى مراكش، ربما تضيع السفرة كلها بسبب اجراءات إدارية عقيمة تتمثل في نموذج بيانات اخرق تأخرت في ارساله.

لم اكن انوي بالطبع ان اخوض في حديث ممل كهذا، كان لدي الكثير من التعليقات عن التاريخ الحي الذي صنعناه سويا في يوم واحد، عندما تتوطد علاقتك بأحدهم في مساحة زمنية قصيرة فأنكِ تشعرين فجأة ان ثمة ذكريات مشتركة بينكم (لم تحدث) ورغم ذلك فأنتم تذكرونها جيدا، بل ويمكن ان تسردونها سويا بنفس التفاصيل رغم انها متوهمة وباطنية.

استطيع ان اكتب سيناريو فيلم كامل عن يوم كهذا، شاب وفتاة يلتقيان في مدينة واسعة لساعات معدودة فيكتشف كل منهما مع توطد علاقتهم ان ثمة ذكريات مشتركة بينهم رغم كونها متخيلة او بعيدة او مشكوك في حدوثها، انها مسألة تتعلق بتجذر الروح في الزمن حتى ولو على حساب المنطق الفيزيائي او الحسابات الفلكية.

هل تبدو فكرة متطرفة او مبالغ في فانتازيتها، ربما ! لكنها حتما قد تفضي إلى شيء جيد ذات يوم، هكذا تعودت ان اكتب على الجدران كي يتخفف الخيال من وزن الذاكرة كما يقولون، اي ان اقص ما يهوم في رأسي كي لا يظل محفوظا في ذاكرتي في انتظار ان يستعمله خيالي مستقبلا.

ما استطيع ان اضمنه لكِ هو ان ذاكرة المدينة لن تتمكن من ان تتخفف من خيالاتنا سويا، لقد استطعنا وببساطة شديدة ودون قصد ان نزرع انفسنا في ارصفتها، سوف تنام المدينة فيما بعد لتحلم بنا، وتستيقظ مفعمة بالدهشة من حديث الناس عن مشاهد تتكرر بحذافيرها لشاب وفتاة يسيران جنبا إلى جنب بشكل يومي في ميدان الكربة، او يجلسان كل يوم في مقهي بوسط البلد كي يتناولا ساندويتشات الفول والطعمية بينما لا يكف هو عن حديث مكرر عن الفتيات الائي قصصن قطعا من اقمشة روحه كي يصنعوا بها دمى لاولادهن الذين سينجبوهم من رجال أخرين.

لن اتعجب اذا ما مررت ذات يوم بجانب مكتبة الشروق ورأيتنا خارجين لتونا بعد ان اشترينا “أنا عشقت”، سوف ادرك ان المدينة لم تتمكن من نسياننا بسهولة، واننا لازلنا نرتاد احلامها مثل اطفال خبثاء يحتضنون أبائهم قبل النوم، كي يتسربوا إلى احلامهم، فيسهل عليهم ان يستيقظوا في الصباح وكل رغباتهم في اللعب مجابة.

سوف ندع المدينة تحلم بنا كل يوم كي نتمكن من اللقاء ثانية دون عناء الترتيب او البحث عن اسباب ودوافع، ومن يدري! ربما حين تعودين إلى عمان وتعبرين بشارع الرينبو في طريقك إلى العمل قد تجدينني متوجها إلى بيت الأفلام ممسكا ببرنامج العروض واوراق ورشة النقد.

في النهاية فإن احلام المدن تتشابه عندما يتعلق الامر بأشخاص معينين لديهم قدرة على البقاء الروحي في خلايا الشوارع رغم حركتهم المادية المستمرة من بلد إلى بلد.

اتصور انني لن ابذل جهدا في العثور على خاتمة جيدة للسيناريو المزعوم، لقد منحتنا اياه الصدفة او تدابير الكتابة الحياتية – علمونا في الكتب الهزلية أن الكاتب الجيد هو من يقرأ الحياة وليس من يقرأ عنها-.

لقد نسيت الفتاة حذاءها في سيارة الشاب وغادرت كي تلحق بطائرتها.

 بالطبع في السيناريو لن يتقاضى الشاب ثمن الحذاء الذي دفعه، سوف يكون هدية اخرى إلى جانب الكتاب والورد الذي استقبلها به في المطار، لا يمكن ان نصنع فيلما كهذا دون ان يذهب الشاب لاصطحاب الفتاة إلا وهو يحمل لها بوكيه صغير من ورود حمراء كريستالية، قليلة العدد لكنها مؤثرة الحضور، ولو تذكرين فلقد ورد ذكر(الوردة والكتاب)في الرسالة الاولى وتحديدا في الفقرة الأخيرة، هنا نستطيع ان نقول ان الافلام يمكن ان تصلح من شأن الحياة، تهندمها او تعيد ترتيب احداثها وفقا لنسق طيب وتفاصيل ساحرة.

سوف تأخذ الفتاة الورد قبل مغادرتها السيارة لكنها سوف تنسى الحذاء، سندريلا تبعث من جديد، قد يطلق هذا المشهد تنهدات قصيرة في صالة العرض او امام شاشة التليفزيون، وقد يتندر البعض ان هذا لم يعد زمن الأحذية المنسية، لكننا لا يجب أن نشغل انفسنا بهلاوس المتفرجين، لقد شاهدنا هذا يحدث في الحقيقة ويكفي اننا صدقناه وكتبنا عنه بقداسة قدر ما يستحق من تبجيل وامتنان.

ألمحكِ على البعد تبتسمين، تعيدين قراءة بعض الفقرات وقد تحمست المخرجة التي بداخلك، حركها خيال الكاتب ووصفه لمشهد النهاية، كم هو حميمي هذا النوع من اللقاءات الذهنية، انه يقع في اللامكان واللاوقت، ويبدو اكثر حقيقية من اشياء تحيط بنا في المكان والوقت(هنا والان) ولكنها لا تنفعنا او تدفعنا نحو مثل هذه اللذة المخبأة في كهوف الوجدان.

نعود إلى المشهد الاخير، ترى هل سيكون هذا اول فيلم يكتب من النهاية إلى البداية، أي من مشهده الأخير ثم رجوعا نحو مشاهد سابقة بعضها متخيل وبعضها حدث وبعضها كان يجب أن يحدث، لا اتحدث هنا عن الفلاش باك بل اتحدث عن عملية كتابة عكسية بالمعنى الحرفي، مشهد 99 بعد مشهد 100 ومشهد 80 بعد مشهد 81، لا لا هذا شطح لا يليق بمحاولة جادة للامساك بقصة جيدة.

لقد غادرت سندريلا السيارة تحمل الورد والكتاب وبقايا وجه الشاب فوق وجهها حين قبلته، وتركت ألياف شالها القطني فوق ياقة قميصه، ورائحة عينيها التي احاطتها هالات الأرهاق الرقيقة من اثر الجهد النهاري والنوم القصير ليلة السفر.

سوف نجعلهم في مونتاج متوازٍ يتذكران الحذاء المنسي، هو في سيارته التي كان يجلس فيها خارج مبنى الركاب منتظرا أن يتأكد من حصولها على بطاقة السفر حين يلمح الحقيبة البلاستيكية الصغيرة على ارضية السيارة، وهي في الداخل عندما تكتشف انها نسيت الحذاء حين تسمع وقع حذاء نسائي بكعب عال يرن فوق ارض الصالة من خارج الكادر.

فيما بعد سوف تقول له انها شعرت لوهلة بالحفاء، وأنها تقف على الأرض العارية دون حذاء وان كل برودة البلاط الارضي تتسرب إلى عظامها، بل أننا يمكن ان نضيف لقطة فانتازية نرى فيها كل من في الصالة يتوقف وينظر فجأة إلى قدميها فتشعرها نظراتهم انها تقف حافية بالفعل وانها الوحيدة التي لا ترتدي حذاء يقيها البرودة ويحفظ قدميها الجميلتين.

لن نجعلها تتصل به كي لا نكلف الشخصية قيمة مكالمة دولية تسحب من رصيدها القليل كما حدث في الحقيقة، هذا المشهد الواقعي تحديدا اريد ان امحوه تماما، لقد كان مزعجا بالنسبة لي ان افتح الخط اثناء كتابة رسالة اقول لك فيها انني قادم إلى الداخل حتى تتمكني من الخروج لي عند البوابات الألكترونية، السخيف في تلك الواقعة انني حاولت الاتصال بكِ بعدها لكن هاتفكِ لم يستجب لكل مكالماتي العديدة، وعندما حاولت كتابة رسالة ثانية حدث نفس الامر كما في المرة الأولى فتحت عليكِ الخط ووجدت انه لا مفر من التحدث معكِ لتحديد موقعك.

هذا المشهد السخيف الذي لا يليق بفيلم كالذي نكتبه سوف تتكفل السينما باعادة صياغته دراميا وحياتيا حتى انه لن يبق لذكراه اي اثر في الواقع بعد كتابة الفيلم، وسوف يحل محله مشهد اخر هو ما كان يجب أن يحدث او ما هو افضل لو كان قد حدث في الحقيقة، وحين نعيد حكي الواقعة سوف نجد انفسنا نحكيها او نتذكرها كما حدثت في الفيلم المكتوب وليس في الواقع المعاش، ان الافلام قد تصبح واقعنا في احيان كثيرة حين تتطابق مشاعرنا مع واقعها وتصدقه وتؤمن أنه الحقيقة الوحيدة.

هل لسان حالك يقول: الا يمكن ان تتوقف عن الثرثرة الادبية والأستطرادات وتكمل لي مشهد النهاية؟

 قد يكون لديك كل الحق في هذا، ولكن دعينا لا ننس يا عزيزتي اننا داخل رسالة، وان لها حقوق علينا، نحن لسنا في ورشة كتابة او اجتماع مصغر للتباحث في امر مشروع سينمائي، انها رسالة ولها ما للرسائل من حقوق في التخيل والاستطراد والتذكر والمداعبة والتندر والحكي المنتظم او القفزات السردية، لقد خلقت الرسائل من اجل هذه الفوضى الشعورية والحكائية الجميلة، علينا ان نحترم شعور الانواع التي نعبر من خلالها عن مكنوناتنا وإلا وقعنا أسر اطار صارم من الحديث والبوح لن يفض بنا سوى لجفاف الانفعال وتشتت الخيال وموت اللغة.

وبما اننا اتينا على ذكر البوح فدعيني ابوح لكِ بأنني استطرد عبر عملية السرد المتواصلة لمشهد النهاية لانني في الحقيقة لا اعرف كيف سيكون مشهد النهاية، انني احاول العثور عليه من خلال هذه التركيبات الأستطرادية المتقطعة، لقد توقفنا عند اللحظة التي يكتشف كل منهم فيها مسألة الحذاء المنسي، سوف ترسل له رسالة، لقد نسيت الحذاء عندك، لن تكتب له(معك)بل ستكتب(عندك) ان ظرف المكان مضافا إليه ضمير المخاطب له وقع حميمي غامض.

سيكون هو قد انتبه بالفعل للحذاء المنسي، وسوف تصله الرسالة بينما يتجه إلى صالة الركاب يحمل الحقيبة، سيكون مسرعا للدرجة التي لن تمكنه من الرد على رسالتها، الوقت متأخر والطائرة على وشك الأقلاع، سيحمل الحذاء إلى الداخل ويتجه إلى البوابات الألكترونية، سوف ينظر له رجل الأمن المكلف بالسؤال عن مستندات السفر او تذاكر الدخول إلى الصالة لتوديع المغادرين، لكن نظرة واحدة منه لرجل الامن ونظرة من رجل الأمن إلى وجهه ولهفته في الدخول والحقيبة الصغيرة التي يحملها والتي تشف من داخلها عن الحذاء المنسي سوف تتكفل بعبوره في حالة من التواطئ الشعوري الكامل والنادر الحدوث بين رجل أمن في بلد شرقي ومواطن ملهوف.

 سيتوقف امام البوابات الالكترونية ينظر عبر الزجاج المائل إلى الزرقة محاولا العثور عليها، يرفع الموبيل إلى اذنه محاولا الاتصال بها، هاتفها لا يستجيب، ينقطع الأتصال في كل مرة قبل ان يكتمل، يعاود البحث عنها دون جدوي، شريط الصوت معبأ بالبروية الخاص بالصالة بشكل مبالغ فيه لتصعيد التوتر، في الافلام الكلاسيكية الساذجة من المفترض ان يجدها خلفه تربت على كتفه وتقول”بتدور على مين”فيستدير وينظر لها مستغربا وسعيدا لانها لم تسافر، وكأنه لم تكن هناك اية اشارة إلى ان هذا سيحدث، في فيلمنا سيكون الوضع مختلف تماما، نحن لسنا امام قصة عاطفية ذات ملامح ميلودرامية متوقعة، اننا امام حالة شعورية مادتها الزمن والروح والذاكرة، لن تحدث هذه الامور المستحيلة والغير مبررة، لا عاطفيا ولا دراميا ولا واقعيا، صناع هذه الافلام يتصورون ان العاطفية تتأتى بقهر الحبكة واجبار الشخصيات على اتخاذ قرارات لم تستعد لها بحجة ان الرومانسية تستوجب القفزات الشعورية وتحقق المستحيل وغياب المنطق، ما لا يدركونه أن العاطفية لا تتأتي إلا بمقاومة العاطفة نفسها اي مقاومة الانسياق وراء فكرة الامنطق والأنسحاق الشعوري امام معجزة اللقاء الوجداني بين رجل وامرأة، ان تفجير العاطفة في نفوس الجمهور يتأتي من مقاومة الشخصيات الدرامية للعاطفة نفسها وليس الأنسياق ورائها.

لن تأتي فتاتنا من خلف الشاب وتربت على كتفه، فيستدير ويحتويها بعينيه ثم يقول كلمته الخالدة التي تبرأت منها اللغة منذ وقت طويل(مش معقول..انتي ما سافرتيش) ولو انني اشاهد هذا المشهد في فيلم من كتابة غيري بالتأكيد سوف اضحك كثيرا واقول انها لم تسافر من اجل”الجزمة” وليس من اجل الشاب.

في فيلمنا سيكون الأمر مختلفا، سوف يكتب لها أين انت؟، ولن تجيبه، سوف يظل يبحث عنها إلى ان يلمح ضابط الامن عند احد البوابات يبدو وكأنه يتجادل مع احدهم، سيقترب ببطء ليجدها هي التي تتجادل مع الضابط محاولة اقناعه بأن يسمح لها بالخروج لدقيقة واحدة كي تحضر شيئا نسيته، يتوقف وينظر لها مبتسما، وجهها الابيض الصغير محمرا وعينيها غاضبتين، ولكن بمجرد أن تراه واقفا ينظر لها ستبتر الكلمة التي تقولها، تنظر له كأنها تقول له(اسفه كنت احاول الخروج لك) ستلين ملامحها وتهدأ نظراتها، سينظر له الضابط الخشن متحفزا ويقول محاولا ان يقطع عليهم تلك النظرات التي لا يستطيع أن يسألها عن جواز السفر او تذاكر الطائرة(ايوه يا استاذ)، وعقابا له على ذلك سوف يتجاهله الشاب تماما ويبتسم، تحاول ان تمد يدها عبر البوابة لتأخذ الحقيبة لكنه يمد يده بها عبر جهاز الاشعة وهو يقول( خديها من الجهاز).

على شاشة الجهاز نرى الحقيبة وهي تتعرض للأشعة والحذاء يبدو لامعا بداخلها كأنه منحوت من الكريستال الخالص.

تمد الفتاة يدها لتأخذ الحقيبة بهدوء، تتراجع اصوات الصالة تدريجيا، عيناها على الشاب مبتسمة، يخرج من خلف الحاجز الحديدي الذي يفصل الصالة عن البوابة ويتحرك ببطء مشيرا لها بهدوء محركا شفتيه (أخدتي البوردنج)؟ ترفع له اصبعها الإبهام بنفس الهدوء دلالة ان كل شيء على ما يرام، يتحركان ببطء كأنها لا تريد أن تغادر وكأنه لا يدري ما الذي يجعله يسير إلى داخل الصالة وليس إلى خارجها.

تقترب من الزجاج المائل إلى الزرقة الذي يفصل بينهم، تكون اصوات الصالة قد تراجعت اكثر، يقترب هو الأخر ظنا منه انها تريد ان تقول له شيئا، عيونهم كأنها متصلة بخيط خفي، حركة انسان العين متزامنة وابتسامة واحدة مقسمة فوق اربعة شفاه.

لا تقول شيئا، بل تلمس الزجاج ببطء لتتأكد من درجة برودته ثم تطلق بخارا كثيفا من فمها الرقيق وتكتب له باصبعها الصغير”شكرا”، في عينيها تبدو طبقات من الامتنان والسعادة بهذا اليوم الغريب واضحة، يرفع يده ببطء مشيرا لها أن مع السلامة.

تتحرك متراجعة بخفة وطفولية، تتجه ناحية الجوازات وهي تشير له بيديها المثقلتين بالاحمال ان باي باي، ثم تتوقف فجأة وكأن شيئا ما خطر في بالها، تواجهه في وقفتها، تنزل يدها ببطء لتضع احمالها على الأرض، بمجرد ان تنزل اشياءها تصمت اصوات الصالة تماما ، تنحني وتبدأ في فك رباط حذائها الرياضي بهدوء دون ان تكترث لاحد، يمر بها الجميع ولا يلتفتون إليها ويمر من حوله المغادرون وهو واقف يتأمل ما تفعله والابتسامة لا تفارق شفتيه.

تخلع حذائها ببطء، وتخرج من جواربها بهدوء، وتقف على الأرض العارية لثوان قبل ان تخرج الحذاء ذي الكعب العالي الذي اشتراه لها وتنتعله بنفس البطء والرقة، تنظر له نظرة من يقول (هل فهمت)، تبدو اطول قامة واكثر جمالا وقوة، يشير لها برأسه اي نعم فهمت، لقد ذادتها تجربتها معه خلال هذا اليوم طولا معنويا ونفسيا وشعوريا، الذكريات التي لم تحدث والتي ظلوا يسترجعونها سويا طوال اليوم، تجذرهم الروحي في زمن فائت لم يلتقيا فيه بشكل مادي، كل هذا تلخصه لحظة ارتدائها الحذاء ووقفتها الطويلة، المنتصبة، الكاملة، في صالة المطار.

مزج بطيء على قدميها وهي تسير بالكعب العالي بكل ثقة نحو الجوازات، الموسيقى تتصاعد في لمعان صوتي، بينما هو يركب سيارته في لقطات مزجية متتالية، وينطلق بها، صوت الطائرة يتداخل مع الموسيقى، هو في سيارته يسير في الطريق الموازي لممر الاقلاع البعيد، الطائرة من جانبه ترتفع عاليا نحو سماء ملونة بالنجوم، ناصعة الليل.

من عينيه ينظر إلى الطائرة التي اقلعت مبتعدة اضوائها وهي يبتسم ابتسامة من يعلم انها ستعود ذات يوم، بينما من عينيها تبدو المدينة من هذا العلو ملونة بصفرة مذهبة، نفس النظرة التي في عينيه تلوح في عينيها المنعكستين على زجاج الطائرة الصغير، سوف اعود ذات يوم.

تبتعد المدينة تدريجيا من وجهة نظر الطائرة التي تحلق عاليا، تظل اللقطة لثوان قبل ان يظلم المشهد تدريجيا وتنزل كلمة النهاية.

لن ازيد حرفا ولا كلمة ولا تعليق ولن اطالب برد او استجابة، اعلم انك منشغلة تماما في المهرجان ومستغرقة بكليتك في متابعة البرامج وانتظار العروض الخاصة بفيلمك، وقتما تشائين الكتابة اكتبِ ووقتما تشائين الرد ردي، هذه بذرة مشروع فيلم قد يكتمل بيننا او يصبح واقعا موازيا عبر رسائلنا المتبادلة.

“شكرا” لانكِ كنتِ هنا بالامس وفي الزمن

وشكرا لانكِ نسيتِ الحذاء..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فصل من رواية زي حكايات الأحبة – قيد النشر

 

اقرأ أيضاً

فصل آخر من الرواية: السماعة البلوتوث

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون