ر سائل البحر .. ولكن ما هي رسائل البحر ؟؟

ر سائل البحر .. ولكن ما هي رسائل البحر ؟؟
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
رامي عبد الرازق * اول ما يقفز إلى ذهن المتفرج في هذا الفيلم هو سؤال منطقي جدا:ما هي رسائل البحر أو أين هي رسائل البحر؟ فنحن لم نرى سوى رسالة واحدة موضوعة-على غرار كلاسيكات ادب البحار-في زجاجة يصطادها بطلنا يحيى ويجد انها مكتوبة بحروف لاتينية لكن بلغة غريبة ليست معروفة لكل الجنسيات التي تعيش في مدينة الاسكندرية! تلك المدينة التي لا تزال تحتفظ بطابع كوزموبوليتاني عتيق..بل أن البطل في النهاية لا يتمكن من فك شيفرة الرسالة ومعرفة محتواها!إذن لماذا لم يسم الفيلم رسالة البحر!في الحقيقة فإن التفكير المنطقي لن يفيد في تلقي هذا الفيلم فالامر يحتاج إلى افق ذهني ووجداني متفتح وحر..نحن أمام قصة عادية جدا عن طبيب شاب مصاب باللعثمة الكلامية يقرر بعد وفاة أهله ان يعود لمسقط رأسه في الاسكندرية يمارس عملا لا يحتك فيه بالناس كصيد السمك ويتجول بحرية تاركا نفسه لتيار الحياة كيفما يتفق ومن هنا يلقيه تيار المصادفة العشوائي في ظاهرة والقدري جدا في حركته داخل مجموعة علاقات مختلفة مع نماذج مغايرة من البشر.

لكن في مقابل تلك اللعثمة الكلامية والبراءة المغلفة بفطرة طفولية نجد النماذج الأنسانية شديدة الثراء متعددة الدلالات بداية من اسمائها وصولا لقصصها الحياتية ولتدفقها الحياتي والكلامي..ومع تصاعد العلاقات وتشابكها ما بين يحيى وبين تلك الشخصيات/ النماذج نتكشف أننا أمام رسائل البحر الحقيقية اوهكذا نتصور!فكل علاقة تفصح عن رسالة أنسانية أو شعورية أو وجدانية يتلقاها البطل وبالتالي نتلقاها معه ومن هنا يصبح لعنوان الفيلم صلة وثيقة بمضمونه بل يصبح للفيلم ولعلاقاته وشخصياته مضمون اكثر عمقا من مجرد التلقي السطحي الذي يبحث عن حدوتة تقليدية أو صراع كلاسيكي سواء كان عاطفيا مثل علاقة يحيى بفريدة او انسانيا مثل علاقته بقابيل البودي جارد الذي يرفض اجراء عملية لنزع ورم من مخه خوفا من ان يفقد الذاكرة وتتلاشى شخصيته..السيناريو في البداية يخلق شبه حالة توحد مع البطل من خلال الصوت الداخلي الذي نسمعه للشخصية تعلق به على ما يحدث لها وكأنه يتحدث إلى نفسه إو إلينا بشكل يمكن أن نعتبره صوت مضاد للراوي العليم..أي أنه لا يروي ولا يعلم ولكنه يتسائل ويبحث ويرصد أكثر مما يحكي أو يعرف!وكلما افرزت علاقته مع احد الشخصيات المحيطة به “رسالة” ما كلما ذدات تساؤلاته وحيرته.. هذه الحيرة نجدها دوما لدى شخوص داود في الكثير من افلامه فعالمه السينمائي دوما تؤرقه قضايا القدر والمصادفة..والجبر والأختيار..وكأن الأنسان من وجهة نظره لا تتحقق انسانيته بدون أن يتسائل ويندهش!فهذا هو قمة تحققه وقمة عذابه في نفس الوقت!فيحيى يكتشف أن كارلا حبيبته الايطالية القديمة وجارته في بيت العيلة تحولت بحكم تجارب الحياة ومنحنياتها إلى أمراة سحاقية..لكن لأن مشاعره تجاهها كانت اصداء لحب قديم فإنه تقبل اختيارها او لنقل يهرب من مواجهتها بما اكتشفه..بينما نجده مع فريدة التي ظهرت في حياته كمومس يرفض وضعها رفض سلبي شديد لأنه احبها واستعرت في داخله توهجات عاطفية ووجدانية وجسدية ارتبطت بها دون الأخريات ومن هنا يصبح السؤال(ماذا افعل؟هل اتزوجها أم العنها؟)وتصبح الرسالة التي تأتي على لسان السيدة الأيطالية والدة كارلا(أذا احببت الاخر فتقبله وإذ لم تستطع فأتركه لكن لا تحاول ان تغيره).بينما نجد علاقته مع قابيل البودي جارد(ولاحظوا الأسم)تتسم بذلك التساؤل الوجودي الرهيب(هل يقوم بعمل العملية ويفقد ذاكرته وبالتالي يموت الأخرين بالنسبة له ويتحول هو إلى أخر بالنسبة لهم؟أم يجازف بالاستمرار في الحياة وبالتالي يموت بسبب الورم؟)ان دلالة اسم قابيل هنا خاصة مع كونه قد قتل من قبل تشعرنا بحالة غوص فلسفية في نفسية اول قاتل في تاريخ البشرية خاصة في تلك اللحظة التي يروي فيها عن عينا القتيل اللتان تطارده بنظرة الدهشة من أن “اللعبة قلبت بجد!”هنا نتصور أن السؤال تطابق مع الرسالة أي اصبح السؤال هو الرسالة نفسها..بينما نجد ذلك المشهد الرقيق مع فتاة الكباريه(مي كساب)وهي تحدثه عن فراشات الحب التي كانت السبب في فقدانها لعذريتها ولكن في لحظة أكتشافها لجوهر ذلك الشعور الخارق” الحب” الذي يجعلك ترى الأشياء العادية بشكل غير عادي وتكشتف انك لم تكن لتراها إلا حين مستك تلك الفراشات الصغيرة.أما ازمته مع صاحب البيت(الحاج هاشم)الذي يريد اخراجه من الشقة من اجل هدم العقار لأقامة مول بدلا منه دون مراعاة العنصر الوجداني المتمثل في علاقة البشر بالأماكن التي يسكنونها سواء على مستوى الذكريات أو الأرتباط العضوي والروحي..فالأزمة هنا اشبه بمواجهة الانسان لغول الزمن..الزمن الذي لا يبق على شئ والذي يهدم ويبني بلا عقل والذي يفجر بالديناميت كل شئ(تماما مثلما يصطاد الحاج هاشم السمك بالديناميت) إذن نستطيع أن نتصور لماذا لم يكن من المهم أبدا ان يفسر يحيى رسالة البحر..فكما قالت له فريدة في النهاية يكفي أنها رسالة من البحر لك..ولك هنا عائدة علينا نحن المتلقين خصوصا ان مشهد النهاية الذي يبدو فيه يحيى وفريدة في قارب وسط البحر وحولهم كل الموت الطافي في شكل اسماك والذي تسبب فيه ديناميت الحاج هاشم/ الزمن يشعرنا أن علاقة الحب بينهم هي خلية الحياة الأولية التي يمكن أن تستمر رغم كل هذا الموت المحيط..ويعيدنا عبد السيد بصريا إلى الكثير من موتيفات عالمه الاثير فكما كان يوسف في الكيت كات ينام في بطن المركب ويترك نفسه للتيار نرى يحيى في نفس الوضع ومن نفس الزاوية العلوية لكنه هذه المرة معه فريدة التي تشاركه هذا الابحار العشوائي في بحر الحياة..كذلك عندما يعرض الحاج هاشم عليه ترك الشقة بلهجه تهديدية يترك يحيى التفاحة التي كان قد امسكها رافضا أكلها مذكرا ايانا بالتفاحة التي قضمها يحيى اخر(ابو دبورة) عندما قرر أن يهبط من جنته إلى “أرض الخوف”..ورغم أنها ليست المرة الاولى التي يستخدم فيها داود اسلوب الحوار الداخلي للشخصية مع نفسها او روايتها للاحداث إلا اننا نشعر ببعض التشوش عند ظهور الصوت الداخلي لشخصية فريدة عندما تبدأ في الحديث عن قصتها..خصوصا ان صوتها ينطلق في منتصف الاحداث وليس من البداية مثل صوت يحيى! لكننا نكتشف أنه جزء من حالة التوحد التي يرغب بها صانع الفيلم فنحن لسنا امام قصة يحيى التي يرويها أو يعلق عليها ولكننا امام مشهد روائي متعدد الأصوات فالاصوات في الفيلم تنطلق لكي نسمعها نحن والرسائل تكتب لكي توجه إلينا.

 

تأليف وإخراج : داود عبد السيد

بطولة : آسر ياسين – بسمة

إنتاج : الشركة العربية

مدة الفيلم : 125 ق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ناقد سينمائي مصري

مقالات من نفس القسم