رواية “زهرة الجبال الصماء” للبشير الدامون.. الوعي الحاد بالوجود

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد البقالي القاسمي 

رواية " زهرة الجبال الصماء " هي الرواية الخامسة التي تصدر للروائي المغربي الكبير "البشير الدامون"، صدرت عن المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء – المغرب، وبيروت – لبنان، الطبعة الأولى 2017، وعدد صفحاتها مائة واثنتان وتسعون صفحة من القطع المتوسط.

استهل المبدع روايته بعبارة: ” استيقظت على جلبة” بمعنى استهلال بالبكاء والألم والحسرة، ومن عادة الروائي أن يشرع في ولوج أحداث الرواية منذ الوهلة الأولى، انطلاقا من عتبتها، وهذا عبارة عن انخراط مباشر في الأحداث من أجل جلب انتباه القارئ كلية ودفعه لتمثل أحداث الرواية. عادة لا يتساءل أي أحد عن أصل هذا التقرير الذي صدر به المبدع روايته، هل هو حقيقة أم مراوغة؟ وهل يحق لهذا الكاتب بالذات أن نستمع لاستهلاله ونثق به؟ وهل ما يقوله حقيقة أم مجاز؟ نحن جميعا أمام هذه المواقف نفقد القدرة على تفنيد الفعل أو مناقشته، كلنا نتحول إلى فضوليين، نبحث عن سبب الجلبة، وعن موضوعها، وعن الذي كان سببا في حدوثها، مع العلم أنه بالنسبة لشخصية الرواية وساردتها سجلت تلك العبارة بداية تشتت ذاتها وتبعثر كيانها، لأن الحادثة سوف تحولها إلى واجهة لتصدير الحكايات في كل اتجاه كما أراد لها ذلك المبدع، بعد أن كان صمتها سابقا على كلامها وتعبيرها، إن الرواية تجميع لحكايات أهل القرية، تجتمع كل الحكايات لدى ” زهرة ” وتعمل هي على سردها وتقديمها بصيغة أرادها الروائي منمقة، ومزركشة، وموشاة بأسلوب رخيم، سلس، مضبوط.  

ولم يشذ الروائي عن قاعدته في اختيار ساردة أنثى لروايته هاته مثلها مثل رواياته السابقة، ورغم أن هذه الشخصية هي ساردة الرواية فإن المبدع يعمد إلى حجب الأحداث عنها، حيث استيقظت على جلبة وهي لا تعرف مصدرها وسببها، بمعنى أنها لا تجهل فقط الغياب بل حتى الحضور. فالمبدع هنا يعمل على تحجيم دور الساردة، ولجم فضولها في تجاوز دورها، فهو منذ البداية يلجأ إلى ترويض ساردته حتى لا تتجاوزه، إنه المبدع القوي الواعي الذي لا يتلاعب به السارد. والمبدع يهتم بالغياب حسب نزوع الشخصيات، فهو لا يريد أن يميط اللثام عن حالة الغياب في الرواية وإن كان مطلعا عليه، بل هو الذي صنعه، إذ يترك الأمر لمجرى الحكي الطبيعي حتى لا يحدث الفجوة أو الطفرة في الرواية، وقد ترك المبدع الرواية معلقة على عدم التيقن من موت أب الساردة ” زهرة ” أو هروبه مع ” شامة أخت العريبي ” لمدة روائية ليست بالهينة، بل تركها في الحقيقة معلقة طيلة الرواية.

  إن الجبال الصماء التي بنى المبدع على علوها السامق نصه الإبداعي هي الواجهة الفعلية والمؤطرة الوجودية للفضاء العام الذي دارت في مجاله أحداث الرواية، وإذا أضفنا الصماء إلى الجبال نقول: إنها لا تتوفر على صدع أو منفذ، فهي لا تسمع ولا تجيب، إنها لا تنفع عند الطلب. وإذا أضفنا الصماء إلى ” زهرة ” نقول إنها داهية، داهية من جانب البعد الذي أضفاه عليها المبدع، والهوامش المتعددة التي ترك لها اختيار رتقها وتجميعها، وإلا فإن نعت الداهية في جانبه المشرق يبقى من نصيب الروائي الذي أتقن وأبدع في كتابة هذا النص الجميل. إن عيش أهل القرية قرب الجبال الصماء دفعهم لتحدي الصمم الذي لا يعني عدم السماع بقدر ما يعني التصميم على المساهمة المفترضة في صناعة أقدار الناس، إنها تردد الصدى، الفعل ينعكس عليها ويصطدم بها ثم يرتد راجعا بخيبة أو رجاء، الجبال الصماء شخصية من شخصيات الرواية، وقد تصنع الخيانة والرذيلة ( فاحشة اليافع افريفر بزوجة يحيا النسا )، وقد تنتج الوفاء والفضيلة، ولا يجب التطاول على الجبال لأنها قاسية ولا قلب لها.    

  الجبال الصماء هي التي ألهمت المبدع لكي يكتب هذه الرواية المبنية في أصل حكايتها على أسطورة مرادفة لأسطورة الخلق مع حضور عناصر الحياة الأساسية الماء والهواء والتراب والنار، والمسألة تعود إلى الغضب الشديد، أي غضب الأب عندما تسلل أبناؤه وراءه فضبطوه عاريا يغتسل داخل عين الماء ليلا في فصل الشتاء، فأحس الأب بالحنق عليهم وسلط عليهم لعنته الأبدية بدعوته عليهم بتحولهم إلى اللون الأسود، هذا اللون الأسود الذي التصق بهم واستطاعوا جميعهم التخلص منه إلا واحدا منهم لم يستطع التخلص من لعنته الأبدية رغم كثرة استعماله للروائح الزكية التي تفتح العقل والقلب والروح، وهو الذي ينتسب إليه  المغني” الكحيلة ” أب ” زهرة ” الذي فقد يوم حفل خروج ” العريبي ” من السجن، وقد كان من عادته أن يغني للجبال الصماء حتى تنبت زهرات البلسم بين فجاجها. هذا الأب الأسطورة هو الذي يشكل أصل الحكاية في الرواية، وهو الذي ورد على القرية قديما حتى لم أحد يذكر صفاته، فقط اشتهر بين الجميع بكونه الحاج ” حيون ” الكامل قاهر الأفاعي السوداء داخل بركة الماء ومقدس الجبال الصماء، وهو الأب الذي ظل أبناؤه وحفدته يقيمون الليلة الكبيرة بالقرية كل سنة تبركا به وتعظيما لصيته وشأنه.

  إنها رواية مشيد معمارها على الأسطورة والغناء والشدو، وانتظار الغائب أو المغيب، لقد عمل الروائي على تحديد الصورة الكلية، فهو يدون الحدث ثم يقوم ببسط السياق والمسار، ويشرع في بسط وسرد أحداث الصور الجزئية المتفرعة من الكلية، لكل صورة أو لوحة حكاية خاصة عنها تتوفر على استقلاليتها، ولكنها لا تستطيع الانفصال عن الحكاية الكلية أو الأصل، فهي تابعة لها ومتفرعة عنها، والتصور برمته متمركز حول ” زهرة ” ومصيرها عبر زمن بطيئ، رتيب، متعب، مرهق، حيث تعامل المبدع مع الزمن حسب كثافة السرد وشفافيته صعودا ونزولا، بالإضافة إلى مكان متوج بالمتغيرات، والمفاجآت، والصدمات. وهكذا قدم المبدع روايته ضمن مقاطع مفصولة عن بعضها، ولم يخصص عنوانا لكل مقطع، بل تركها مفتوحة، إن تقطيع السرد بهذا المعنى هو عبارة عن تقطيع للزمن، وحصر لهفة الشخصيات في محاولتها حرق المراحل للوقوف على المغيب في المتن الحكائي.       

  المغيب في المتن الحكائي هو الذي استأثر به المبدع ومنعه حتى عن الساردة التي هي من شخصيات الرواية، وهي ” زهرة ” التي عايشت أمها وعمتها في القرية ضواحي مدينة تطوان، تطوان مدينة اختارها الروائي مرة أخرى فضاء لنصه الإبداعي، وتطوان المكان الواقعية هي غيرها في الرواية، في الواقع تطوان مدينة في كليتها، وبجميع هندستها وأحيائها وشوارعها، وفي الرواية هي مدينة تخييلية، ولا يتحقق وجودها إلا جزئيا حسب الحي أو الزاوية التي اختارها المبدع لتحريك شخصياته، ولا يتحقق المكان فيها إلا بالحكي، عندما يتوقف الحكي يتوقف الوجود الافتراضي للمكان بالرواية، والحكي ولع نسائي من أجل مواجهة صمم الجبال، وهنا تظهر العلاقة بين الحكي والدفء قرب النار المشتعلة في ليالي الشتاء ذات البرد القارس. وعندما تتحرك الشخصيات بالرواية تسجل حضورها في صناعة الأحداث وتساهم في تنامي السرد، والرواية تشتمل على ما يمكن أن نسميه ” السرد المعلق “، تماما مثل الشجرة العالية التي تقطع الصبية الشابة ” زهرة ” أغصانها لإطعام الماعز، والشجرة العالية التي توجد بين الصخور الوعرة تربض بين السماء والأرض مثلما تربض القرية بين الجبال الصماء السامقة والسهول الممتدة، إنها الرواية المحلقة في أعالي الجبال الصماء. 

وقد كان المبدع موفقا كثيرا وبدرجة لافتة في تجسيد شخصيات روايته، وهو أمر يتقنه ” البشير الدامون ” ويبرع فيه في جميع الروايات التي كتبها، فهو عادة يختار الشخصية وينزع العلائق المادية والخصائص الواقعية عنها، ويقوم بتوطينها في متن الرواية، ويحولها إلى ذات تخييلية ورقية، ويضفي عليها الملامح العينية الجديدة، ويقوم بدمجها ضمن السياق العام لحركية الشخصيات الأخرى، ويحولها إلى موضوع لإنتاج الحكاية، ثم يرعاها في علاقاتها مع باقي شخصيات الرواية، ويعمل على صناعة قسماتها حسب تنامي السرد وتطوره. وهكذا كان المبدع يرعى الشخصية / الساردة ” زهرة ” الصبية الصغيرة بهدوء وتدرج، يسير بها نحو فهم العالم بطريقة يختلط فيها الذاتي بالموضوعي مع مراعاة السياق والمحيط.                                                   

                                                         تطوان في: 24  مارس 2018   

………………

*كاتب وناقد من المغرب

 

مقالات من نفس القسم