ركلة قدم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

رغد السهيل

ليس للملائكة أو الشياطين دور، ولا للجن أو العفاريت علاقة، كل ما في الأمر هناك قدمان تلاحقانني وتركلانني، تبرزان من جوف الأرض، ما يدفعني للعدو، كأنني في مضمار سبق متواصل، أكون دائما في المقدمة، والقدمان  في المؤخرة، وإن أصابتني ركلة شعرت بدغدغة!

منذ ولادتي وأنا أعدو، في لعبة أشبه بالمطاردة بين القط والفأر، أو بين الشرطي والحرامي، ما زلت أتذكر الضحكة الطويلة لأمي وهي تحدّث أبي: أنظر لبراءتها تعدو وتضحك معها  الملائكة..!

ذات يوم طلب  والدي مني السير بهدوء، فقلت له: هناك قدمان تركلانني، لا أعرف السير بروية، حاولت أمي إقناعي أنّ هذا الأمر من خيالي، وهزأ أصدقائي من حديثي، لم يصدقني أحد، فآثرت الصمت، فأنا حكيمة فصيحة بالفطرة، ما داموا لا يرون ما أرى، ولا يشعرون بما أشعر، لهم قناعاتهم، ولي ركلة القدم.!

كلما غادرت بيتي وتدفأت الأرض تحت قدمي تفتقت وانشقت، وشعرت بركلة من خلفي، تارة يمينًا وأخرى يسارًا، التفتّ مرّة لأرى ما يحدث، فوجدت قدمين حافيتين تمزقان جوف الأرض، تظهران سريعا، بزاوية مائلة، وإبهامهما حاد، ظفره أشبه بناب، يرتفعان ويركلانني!

وما إن تبرز القدم الأولى حتى  تلم الأرض مكان بزوغه، ليعود يدخل إلى باطنها من شق جديد ثم يختفي، فتبزغ القدم الثانية من شق تالٍ، وهكذا دواليك، تتشقق الأرض وتلم الشق السابق بنفسها، بلا معونة أحد، أشبه بماكنة خياطة تسرع بريافة فتحات القماش، وكلّما خاطت فتحة فُتِحت أخرى بعدها… تلك هي المرة الوحيدة التي رأيتهما، ولم أعد المحاولة، فلست ممّن يضيعون الوقت بالالتفات خلفهم، ولست مضطرة للتوضيح لأحد نظرية ركلة القدم!

 كثيرا ما تساءلت لماذا تطاردني هاتان القدمان؟ وماذا تريدان مني؟ وهل الأرض حبلى بكائن مقلوب يظل يركل بطن أمه كما فعلت يوما ببطن أمي؟ وهل هذا الكائن مقلوب حقا أم يعتمد على موقع الناظر؟ 

ذات يوم وقفت على قدمي، كنت مستمتعة بهدير المياه المحيط بي، ومبتهجة بإصغائي لإيقاع توازن الكون، بطن أمي كان شفافا، أبصرت من خلاله الوجود منتصبا لأجلي، نظرت للعالم الخارجي من بعيد فاتسعت الرؤيا، لم أتعلّم الكلام حينها، لذا لم أنطق بأي عبارة، كنت أسبح في عالم يحتويني ويكفيني، قالت لي أمي حينها: أشعر أنك فتاة هادئة مختلفة!

 حتى أقبلت العجوز اللعينة، صاحبة الرداء الأبيض، وليت الحبل الذي يتدلى على صدرها خنقها وتخلصت منها، فوضعت كفها الخشنة فوق بطن أمي، واقتحمت عالمي عنوة، بحثت أصابعها عني، كانت تحلم باصطياد جسدي الصغير، فشعرت بالتهديد، وكان هذا جرس إنذار لي، لقد حشرت أنفها بشؤوني الخاصة، بل تجرأت وكلمتني طالبة أن أنقلب على رأسي، تصوروا كانت خرفة تريدني أن أغيّر وضعي وأقف على رأسي! فركلتها ركلة عظيمة، لكن لم تتجاوز قدماي الصغيرتان جدار بطن أمي، التي شعرت بعصبيتي فصاحت بي:  أنت تؤلمينني يا صغيرتي!؟

شعرت بالذنب، لم أقصد إيذاء أمي، إنما أردت تقديم الرد الشافي الوافي الكافي لتلك الحمقاء الخرقاء، سمعتها تهذي مع والدي بلغة لم آلفها، لغة جافة غريبة، قالت شيئا عن التنفس ووضع الرأس داخل الرحم.!

لكنني لم أهتم بها وتمدّدت في رحم أمي، واضعة ساقا على ساق، ساخرة منها ومن غبائها، مستهجنة لغتها الهوائية المتغطرسة الفارغة من الحب، وقررت أن أتنفس من قدمي أنا حرة… ولن أخرج إلا واقفة عليهما، كنت مصرّة على مواجهة العالم بطريقتي، فوقفت لأركلها ثانية بكل شدة وبأس، سأعلمها درسا عظيما فلا تفرض إرادتها علي، فدفعت  قدمي نحو وجهها ذي الطيات العجيبة، وأنا أزم شفتي لأركز ركلتي على نظارتها لتنكسر فلا تلمحني، حتى صرخت أمي، فبكيت لصراخها، واصلت بكائي حتى تعبت فنمت وأنا واقفة!

لست أتذكر ما الذي حدث بعدها؟ لعل تلك الشمطاء استغلت نومي وقلبتني كما أرادت؟ أو لعلها سحرتني، أو استخدمت الجن لتتسلط علي، فقد كنت جنينا صغيرا يسهل خداعه وقياده… ومنذ أن خرجت للدنيا أفتقد الهدوء الذي أحببته ببطن أمي، دائما أحن لرحم أمي! هناك كنت أَركل كما أرغب، واليوم تركلني أقدام تخرج من الأرض، أتكون الأرض أمٌ حبلى؟!

الأرض حبلي! يالها من فكرة وياله من حمل زمنه عمري، فكرته عجيبة، صورته خفية، مآله مجهول، وبين طيات العجب، الخفاء والمآل، بين كل هذا تواري الأرض جنينها، تُرى متى ستنجب؟ لأرتاح من ركلات جنينها، وربما لن يخرج، فهو يركل من يشاء، لست مجنونة صدقوني، بدليل الكدمات الموجودة على مؤخرتي لقد لمحتها في المرآة!.

ومضت أيامي على هذه الركلات، وتباطأت خطوتي، وأقبل خريف العمر كرمشة جفن، لم أعد أقوى على الهرولة، ولا تحمل ركلات القدمين، فربما أسقط أرضا، أتحطم، أتثلم، أتكسر، أتهشم، لابد لي أن أحتاط، لذا قررت منذ رمن ألا أغادر بيتي مطلقا، وقراري لا عودة فيه، لن أسمح لأحد أن يخدعني ثانية، كما فعلت معي تلك الشمطاء وهي  تخرجني من رحم أمي!

قبل أيام هاجني الشوق للهرولة والركلات، أغرتني المغامرة، فأعددت العدة، وأخذت الحيطة، فاصطحبت عصا أستند إليها عند الحاجة، نظفت نظارتي جيدا، وارتديت حذاء رياضيا مريحا، وثيابا تساعدني على سهولة الحركة، وحملت معي مرآة صغيرة لأنظر خلفي، وما أن خطوت خارج بيتي حتي تفتقت الأرض ثم تصدعت خلفي، وتوالت عليّ الركلات واحدة تلو الآخرى، لم أتمكن من إحصائها، في المرآة بدت أشبه بأذرع أخطبوط، أخطبوط لعل رأسه في جوف الأرض، وتمتد أذرعه وتتعدد خارجها، وكل ذراع  كان يركلني!

 أراحني الركل، كمن أرتوي من العطش، عدت مسرعة لبيتي، وأنا أفكر كيف تحولت القدم الواحدة إلى عشرات؟ ما الذي يحدث في جوف الأرض؟ أكلّما مضى عليها الزمن زادت قوة وعددا، أم تراها تشتد قوتها ولا تشيخ لأنها في رحم الأرض؟!

عندما نمت ليلتها عادني الأموات في أحلامي، مد بعضهم لي يده، ففهمت إقبال منيتي، وأنني في طريقي لدار قراري، قد يحملونني على الآلة الحدباء قريبا، وتمتد تلك الأقدام اللعينة وتركلني وأنا على الأكتاف، فأهوى على الأرض، وأصبح كرة تتدحرج بين الأقدام، لهذا أوصيكم أن تدفنوني وسط بيتي… حيث لا أقدام تركلني، أركل ولا يركلني أحد، كما كنت في رحم أمي، لا تدعوني أمتْ ولا يشعر بيّ أحد، كما حدث مع جارتي أم الحارث!.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون