رحلة البحث عن وجهٍ نعرفه (5)

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أميرة كُريم 

إن لم تجد لك ذِكراً هنا

فاعلم أني لم أرك وأنا أمر

..................................

 وفجرٌ كاذبٌ لاح في الأفق

و انتشر المسير كيفما اتفق

لا لا...لا تسر

لا تثق

الشمس تُزهر خلف النفق

وهواه...

ذاك النَزِق

............................

 في الفجر أنا أول المستيقظين، لأطهو الطعام مثلما أفعل كل صباحٍ منذ عامين ونصف العام. أبدأ مبكراً جداً، ثمانية وعشرون رجلاً وخمسة صبيان يأكلون جميعهم من يداي، لا إمرأة في القبيلة سواي، أقوم بأعمال النسوة  دون معاونة، ألفق الثياب، أنظف الخيام، أٌطُعم الماشية، وقد أرعاها كذلك إن لزم الأمر، أمرني الرئيس منذ البداية أن ألتزم الصمت تماماً قائلاً بجدية:

 

         اصمتي ما استطعتي، هو لأمنكِ، لا يَعرفِنَ أحدٌ منهم عنكِ شيئاً سوى ما أمليته عليكِ، لا تصيري مطمعاً، فلا قدرة لي على صدهم عنكِ إن رغبوا فيكِ وإن كنتُ رئيسهم. هُم كثرٌ وأغلبهم يماثلونكِ سناً أو يكبرونكِ قليلاً. لا ترتدي إلا ما أعطيكِ. سأعمل على حمايتكِ دوماً. ستكون لكِ خيمة خاصة بعيدة عن الجميع بحذاء حوض الماشية. غطي شعرك ولا تجيبي عن الأسئلة، كوني صماء بكماء ولتعمل عيناكِ محل حواسك كلها.تعلمي ولا تتكلمي. الشر حولك طوال الوقت كما سترين. فالتزمي الحنكة وحسن التصرف، أنتِ هنا لأني أردت ذلك لكني لست وحدي في القبيلة فاطيعيني ما رغبتِ السلامة.

أحببت رئيس قبيلة الرجال منذ يومي الأول. أحببت حرصه على حياتي. لم يحدثني أحدٌ بذاك العطف منذ زمن، أسرتني رزانته للنهاية، هادئاً كان، قليلَ الكلام، طويلاً، يشي وجهه بأثر الصحراء والشمس وطول المسير، في عينيه حكمة ولحديثه صدىً قريبٌ إلى النفس، أعطاني ثياباً فضفاضة بدت جديدة، ونصحني بأن أغطي شعري القصير، حتى أخفي عن البقية هويتي المعروفة لكل القوافل والقبائل آنذاك، فامتلثت، جُعت في سنتي الأولى كثيراُ غير أني لم أتذمر.لم يشعر بي أحد منهم، عمِلت بجدٍ حقيقي على أن أظل في أعينهم شيئاً، كائناً ما، لا إمرأة، غير أنهم جميعاً أطروا طهيي ونظافة ثيابهم حتى من كره وجودي بين ظهرانيهم كمقيمة دائمة،  خُصص لي الفائض من الطعام، والذي لم يكن كافياُ بحال، لكن الرئيس كان يأتيني أحياناً بأثواب بديعة من قافلة الحرير وأخفاف للعمل وأدوات جديدة لإعداد الطعام  كلما رضي.

قال لي مرة :

         تُدهشينني بجودة ما تقدمين من طعامٍ أيتها الفتاة، سأخصص لكِ نصيبٌ من اللحم قريباً فاصبري.

أطأطئ نظري وأجيبه في أدب:

         أطمع في كرمك وجودك يا سيدي وأشكر عنايتك وترفقك بي كل نهار، لولا رعايتك ما كنت حيةُ أتنفس حتى اليوم.

         حية…أنت إذا أطيب الحيايا..( ويضحك )

 على ذلك لم أشعر أبداً بالأمان الكامل الذي شملني يوماً في قافلتي، فالمعروف عن قبيلة الرجال ألا مكان للنسوة بها، وقد كان قرار الرئيس بإبقائي مفاجأة قوبلت باستهجان بعض سادة القبيلة، تساءلوا في البداية إن كُنت رحماً جديداً مُكترى. ولما لم أكن كذلك أظهر صانع الأقواس وحداء الأبل عداوتهم لوجودي منذ يومي الأول بلا مواراة.

قيل أنني لن أتحمل ظلف عيشهم ولا ديدن قبيلتهم الصُلب، قيل كذلك أنني أبدو مدللة وضعيفة وقليلة الصحة. وأن كًسر قانونهم لابد وأن يجر الخراب عليهم ويغضب الإله، أخبرني  صانع الأقواس بحدةٍ في أول أيامي أن النسوة يأتين دفعةُ واحدة في موسم الصيد كأرحامٍ تكترى، فمتى ما حملت إحداهن بقيت حتى تنجب، إن كان ذكراً نُسب للقبيلة ودُفع لأمه بالثمن ناقة صغيرة وأثواباً، وإن كانت أنثى خيروا أمها بين دفنها أو تركها لها، ” فلا حاجة هنا للنساء، فهمتِ”.  

لطالما تعمد إهانتي أمام أفراد القبيلة لثوبٍ لم يُنظف كما ينبغي أو ماشية لم تُطعم أو ماء أسِن في غفلة مني، وكثيراٌ ما سخر من حذري المستديم داعياُ إياي بـ”زائغة العينين”، ولما رأى مرةً صبياُ يحادثني نهره قائلاُ إن السادة لا يحدثون النساء كالأتراب، وأصر أن أذهب لأطلب الصفح من أبيه بعدما أخبر رئيس القبيلة بأنني كنت أمازح الصبي، وسار أمامي ليستوثق بنفسه من أني أنال من التوبيخ والتقريع ما أستحق.

كنت أرقبه وكراهيته تنمو بداخلي، أرقب وجهه الذي يشبه أوجه ضفادع المستنقعات أيام المطر، وشعره الناعم الطويل وقامته القصيرة المدورة، وستمر أعوام طويلة لن أنسى بها كرهه غير المبرر لي. كان يرمقني  طويلا ًو أنا أسقي الماشية أو أنظف الخيام بنظرات لم أفهمها. يحرك عينيه متنقلاً بين رأسي وقدمي مرات عدة، ثم يهز رأسه كالمتحسر.

 وقبيلة الرجال قبلة للعديد من الزوار، فهي وجهة غانيات المسير المفضلة، في غير موسم الإنجاب، هنا يجدن راحتهن على كل الأشكال، يأتين وحدهن إن لم يُستدعين، وفي عيدهن الشهري يَقدُمن في أوج زينتهن ضاحِكات مُتعابثات، ملونات الثياب، حافيات أغلب الأحيان، يحضرن مترجرجات الأثداء والأرداف بأدواتهن وصخبهن، يغنين ويرقصن ويأكلن ثم يدلفن إلى الخيام في آخر الليل، فيهن النحيفة والقصيرة وحمراء الشعر ومعوجة الأرجل والطويلة والمتحدثة وناعسة العينين ومفرطة السمنة، منهن سوداوات جدا وهن أقدرهن على الغناء والرقص، منهن مجعدات الشعر ومفلطحات الأنوف ولإحداهن أذني أرنب، لإحداهن شعرٌ كضياء الشمس وعينان صافيتان كمياه الواحة، أنفها قائم حاد كما لم أر من قبل وهي المفضلة عند كل الرجال لكني لم أرها تخرج في الصباح من أي خيمة، وسأعرف لاحقاً أنها كانت محظية لحكيم واحة الجدي الكبرى لكنها هربت منه وفضلت الإنضمام للغواني.

كنت أقوم على خدمتهن عندما يأتين فأشوي النعجات وأخبز العجين وأمد الموائد وأدور بالصحاف، أصب العرق والنبيذ وأقدم التمر والتين والنبق للتحلية، أنظف الخيام وأعد الوسائد والأرائك، وأفرش البُسط للاتكاء، وفوق ذلك أتحمل نكاتهن البذيئة ومزاحهن الخالي من المعنى، حتى يرتفع القمر لمنتصف السماء أو يكتمل إشعاع النجوم فأعود لخيمتي بمحاذاة الحظيرة  قبل أن ييلغ منهم السكر والسهر ما لا أطيق، وحتى أتكمن من مزاولة عملي في الصباح كالمعتاد.

وفي تلك الأيام كان كبار رجالات قبيلة السعد يأتون للطرب والإمتاع، نوقهم مزركشه وخيولهم مطهمة، لكل منهم زوجة وجارية أو جاريتان في خيامهم العظيمة، لكنهم يحبون الغواني والبهجة والرقص والفرح والأناشيد حباُ لا مزيد عليه، يأتون بافضل أصناف النبيذ وأجود الماشية لأعدها وقد لا تمتد أيديهم إلى أي منها بعد ذلك فتُترك لكواسر الطيور، وقد صب في مرة حكيمهم قارورة نبيذ كاملة عند قدمي الفاتنة الذهبية الشعر على الرمل ليسترضيها، لكنها لم تتبسم، وعرفت بعد ذلك أنه هو الذي أمر الغانية عذبة الصوت بالكف عن الغناء ليتزوجها فتعجبت.

 وطالما سمعتهم يسخرون من الحكيم نسيم خاصة إذا ما أفرطوا في الشراب، يسخرون من تجنبه الساذج للنفق ومن قافلته السائرة بلا وجهة، على أني لم أسمع أن أحدا منهم قد وصل إليه.

و الحق أنني لم أر رئيس القبيلة يشهد أياٌ من تلك الاحتفالات الصاخبة، يرحب دوماً بالوفود ويأمر براحتهم  ثم يقصد خيمته دونما تأخير.

علمتني سني مكثي في قبيلتهم الخوف والحذر والشك والبكاء طويلاٌ بصمت مطبق، في أعيادهم الكثيرة الصاخبة، كنت أتكور في إحدى أركان خيمتي لصيقة الزريبة الضيقة قبيحة الرائحة لأنتحب حتى أهتز وأرتجف وهم يصخبون، كنت أردد أغنيات أمي بصوت خفيض كأنما أجلد نفسي ألما وشوقأُ، عرفت البرد الحقيقي لأول مرة وواجهت الصمت والوحدة والاختلاف، أنا ابنة أحد أهم سادات القافلة، وأنظر إلى أخفافي وبينها خف عمير الأحمر مسكي العبير، عُمير، الذي كنت أزدريه لرداءة حاله ورقة مظهره. آه كم تبدلنا الأيام.

خرجت من خيمتي قبيل الشروق بعدما أيقظني ألمٌ حادٌ ناريٌ في ظهري، لابد أنني قد عملتُ كثيراً بالأمس، ظننت أن النهار لاح فقمت إلى واجباتي، متجهةً نحو البئر ولما تطلع الشمس، أخطو طريقي المعهود بهدوء، عندما دهمني صوت تأوهِ يجيء من خيمة حداء الإبل، أنفاسٍ عالية تتهدج، إنسقت خلف حِسي الذي أوقن أنه لم يدفعني من قبل إلى سوء، متسللة ببطء لأرى من بين أستار الخيمة ظلان لرجل وإمرأة، أذهلتني رغبة عارمة لم أقاومها بالتسمر في مكاني والتلصص على ما يفعلان، وجهها يتقلص كمن يعاني أوجاعاً لذيذة، يحتضنها من خلفها ثم يلفها نحوه، يتحسس طريقه نحو شفتيها ببطء طويلاً قبل أن يصل، تضحك وتبكي في آن، يدوران معاُ حول نفسيهما ويضحكان معاً، يقرصها فتتأوه بدلال، رأيته يتنفس خلف أذنها، في عنقها وشعرها ثم ينزل فجأة فيلثم أقدام أصابعها كالمتبتل وهي تتنهد بصوت مسوع مداعبة شعره، رافعة إياه لتقبله طويلاً ثم يتماوجان سوية كقربة اللبن، النور والحياة يُبعثان نحوي من شق الخيمة، حياة قوية ثائرة متألقة.

 إندلع جحيمٌ مستعرٌ بباطني حتى شارفت على البكاء.

يدٌ تمسك بكتفي…

ماذا تفعلين؟

…………….

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأجزاء السابقة

رحلة البحث عن وجه نعرفه1، 2، 3، 4

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون