رجل يترك قلبه في البيت

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 43
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد صابر

المطر ينهمر على القاهرة، يقلق سباتها الهش، وفتحي يراقبه من خلف زجاج التاكسي، ويسمع صوت ارتطامه بسقف العربة، صوت يؤنس وحدته، نباح الكلاب غائب الليلة، والراديو لا يعمل. يشعل سيجارة، يفتح زجاج النافذة قليلا لئلا يختنق من دخان السجائر.

يقف فتحي بالتاكسي أمام ممر طويل، شبه معتم، ينتظر خروج أحد الزبائن السكارى من بار يقع في نهاية الممر. دائما يوجد شخص يحتاج إلى توصيلة، شخص يترنح من الخمر. مشوار مضمون كل ليلة، لا يرجع خالي الوفاض أبدا، منذ عرف البار المنزوي وسط شوارع عين شمس.

خلال الانتظار يدندن أغنيات قديمة، يستعيدها عنوة من الذاكرة، ويخرج من جيب معطفه دفترا صغيرا، يسجل الكلمات التي يتذكرها، وعندما يعود إلى المنزل يبحث عنها على الإنترنت. يساعده الانتظار على التذكر، والبرد أيضا، البرد يحمل معه طفولته وشبابه، أحب دائما التجوال في الليالي الباردة، على قدميه أو خلف مقود التاكسي.

يسجل مقطع الأغنية الصغير ويعيد الدفتر إلى الجيب، وعينه على الممر منتظرا. ما زال المطر ينهمر على غير المعتاد، القاهرة لا تعرف المطر الكثيف، وفتحي أكثر من يعرف القاهرة، ولكنه اعتاد غرابة المدينة، لم يعد يفاجأ، رأى كل شيء.

يسمع خطوات ثقيلة على أرضية الممر الخشبية، خطوات متزنة، لا ترافقها ضحكة خليعة أو صوت غناء صاخب. يظهر رجل طويل القامة، يحمل مظلته بيد واليد الأخرى تمسك سيجارة.

أنزل فتحي زجاج النافذة وقال:

– تاكسي؟

هز الرجل رأسه ومشى تجاه فتحي. قال:

– كوبري قصر النيل؟

– اتفضل.

ارتاح فتحي، مشوار طويل من عين شمس إلى وسط البلد، نهاية جميلة لليوم.

يمشي فتحي متمهلا، تعلم الهدوء مؤخرا، بعدما تعرف على الشوارع أكثر.

يعتذر دون النظر إلى الراكب:

– السيارة لا تتحمل السرعات العالية.

– لا تقلق، لست مستعجلا.

ثم عاد الرجل يقول:

– أنت تقودني إلى حتفي بكل الأحوال.

اعتاد فتحي هلوسات السكارى، لكن الرجل الجالس بجانبه، لا تفوح منه رائحة خمر شديدة، عرف أنه نصف سكران، واعٍ بمحيطه.

قال فتحي مبتسما، بعد صمت قصير:

– المهم أن تدفع أجرتي الأول.

أخرج الرجل حافظته، ودفع إلى فتحي أجرته والتاكسي ما زال يحاول الخروج من شوارع عين شمس، ورقتين بمئة جنيه كل ورقة.

قال الرجل:

– شغل الراديو.

– لا يعمل مع الأسف.

– وماذا تسمع طوال يومك؟

– شكاوى الزبائن.

خرج التاكسي من شوارع عين شمس إلى شارع جسر السويس الواسع، رأى فتحي برك المياه، توقف المطر وآثاره باقية تؤرق أبناء المدينة. يتفادى فتحي برك المياه، واضعا عينيه على الطريق لا يسهو، خوفا من عطب يصيب التاكسي إذا وقع في حفرة عميقة، مال التاكسي يظل ضئيلا مقابل التزاماته، لا يملك رفاهية إصلاح شيء.

قال الرجل:

– أنت لا تصدقني؟ تعتقد أنها هلوسات سكران.

– لا أصدق ماذا؟

– أنني سأنتحر الليلة.

قال فتحي وهو يتحرك بالتاكسي يمينا، متفاديا بركة مياه:

– هذا ليس شأني.

ضحك الرجل، وقال:

– لن تمنعني؟ وتتعاطف معي؟

يمر التاكسي أمام بوابة نادي الشمس، تذكر فتحي حلمه القديم، لعب كرة القدم، وضحك، يملك اقتناعا أن أغلبية أبناء المدينة لديهم الحلم ذاته، لعب الكرة والشهرة، حلم يبدأ في الحارة وينتهي بسبب متطلبات الحياة.

ثم نظر إلى الراكب لأول مرة وقال:

– قبل أن أشتري التاكسي علمني صاحبه القديم حكمة، أن أخرج كل يوم بدون قلبي، يجب أن يبقى قلبي في البيت، تستنزف شكاوى الناس وحالتهم عواطفي ونفسي، لم أصدقه في البداية، بعد ذلك عرفت.

طلب فتحي من الرجل سيجارة، أخرج الرجل سيجارة وأشعلها وأعطاها لفتحي:

– وهكذا يظل قلبي في البيت لأجل زوجتي وأولادي، ليس للغرباء، يكفي أن التاكسي يرهق جسدي.

صفق الرجل بيديه وقال:

– أنت متعلم؟

– دبلوم تجارة.

رأى فتحي تاكسي أبيض حالته جيدة يسير في الطريق الموازي، حلم قديم آخر يمر أمامه.

قال الرجل:

– أنا وحيد، وحيد بكل معاني الكلمة لا زوجة ولا أولاد، لا شيء غير نفسي، ونفسي لا تُحتمل حتى.

وبدأ الرجل في مونولوج أحزان طويل، يعرفه فتحي ويستقبله بآذان غير مبالية، وهزات خفيفة من رأسه. قال الرجل:

– لا تبدو متعاطفا رغم الحكاية.

– سامحني، بعد خمس سنوات في التاكسي، تعلمت ألا اتعاطف، تعلمت البرود، لكن إذا قلت لك لا تموت اليوم، لا تنتحر، الانتحار حرام والحياة أمامك هل ستسمع كلامي؟

–  لا، أبدا، أخذت القرار بعد تفكير سنة كاملة.

أشعل الرجل سيجارة وناول واحدة إلى فتحي وقال:

– ألا ترغب في الموت؟

– لا أملك رفاهية الموت في رقبتي زوجة وأطفال، إلا إذا أمر رب العباد.

– يشير كلامك أن تعليمك عال.

ضحك فتحي وهو ينظر يمينا وشمالا، خوفا من الحكومة والمخالفات. قال الرجل:

– قضيت الجزء الأكبر من حياتي في الخليج وعندما عدت، وجدت في انتظاري شقة والدي، وجدت خيوط العنكبوت تنتظرني، ذهبت طي النسيان، لا أصدقاء ولا معارف.

أخرج الرجل حافظته، وأعطى ما تبقى فيها إلى فتحي وقال:

– وصيتي أن تشتري راديو، وتتذكرني من الجيد أن يتذكرك إنسان حتى لو أنت منسي من العالم.

ابتسم فتحي من المفاجأة السعيدة، رغم أنه يقود الرجل الجالس بجانبه إلى حتفه، حتى لو لم يصدق بعد. وقف فتحي في منتصف كوبري قصر النيل كما طلب الرجل، رائحة المطر جميلة، تذكر مشهدا من طفولته، والرجل يعدل ياقة القميص، ووضع مظلته في المقعد الخلفي، وفتحي يسند يديه على المقود منتظرا قرار الرجل، هل يقفز حقا أو كالعادة يبكي ويطلب من فتحي توصيله إلى منزله.

قال الرجل بصوت خفيض:

– ماذا فعلت بحياتي؟ خواء، لا زوجة ولا أولاد لا أقارب. سأذهب طي النسيان، أنا أكره المال، أضعت عمري.

رآه فتحي جيدا تحت عمود إضاءة، رجل في منتصف الخمسينيات، بدأ الشيب يزحف إلى شعره القصير، وجهه مجعد هادئ وعيناه حمراوين.

كادت العواطف تتسرب إلى قلبه. فتح الرجل باب التاكسي، أمسك فتحي يديه وقال:

– انتظر.

– صدقني الموت واقع لا محالة.

ذهب الرجل إلى سور الكوبري الحديدي وقفز.

ترك الرجل علبة سجائره على المقعد، سيجارة وحيدة متبقية، أشعلها فتحي وتحرك بالتاكسي، كأن شيئا لم يحدث. بدأ يفكر في شراء الراديو الجديد، وتفادي برك المياه، وبدأ في اختلاق قصة يحكيها لابنه الصغير صباحا، فكر في ملاك أو لاعب كرة قدم شهير ركب معه، ما زال الطريق طويلا والقصص كثيرة.

في ميدان رمسيس، وجد رجل شحاذا جالسا على الأرض، أعطاه مظلة الرجل الميت، وأكمل طريقه إلى عين شمس.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون