رؤية نقدية في المجموعة القصصية “إغماءة داخل تابوت”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. حسن فتح الباب

تنتمي قصص هانى عبد المريد إلى أحدث أنواع القصة القصيرة، فلا تسري عليها خصائص القصة التقليدية من حيث الشخوص والأحداث والحبكة، إنما هى شحنة شعورية تصب في قالب الصوت الواحد أو المنفرد الذي يحاول تشكيل الحياة كما يريدها، وهو في أثناء هذه المحاولة يصطدم ببعض المعوقات، ذلك أن الوعي الإنساني والذاكرة في رؤية الكاتب ما زالا عاجزين حتى الآن عن أداء تلك المحاولة، ويبقى الدور السيزيفي دائمًا هو المسيطر على الرؤية، ولا سبيل إلى تحقيق الذات إلا الحكي والحلم؛ فأكثر النصوص تدور حول الأحلام في صيغة رموز، وهذه الرموز هى الغالبة عليها؛ فرمز القطار هو احد الرموز المركبة التي تشير إلى العجز والفشل والمحاولات المستميتة للحاق بآخر نبض للحياة قبل التلاشي في اللاهوية واللافهم والسفر اللامتناهي في غياهب عالم مجهول غير محدد العوالم ويتبين ذلك في قصة الفرار:

(أحاذي قضيبي القطار وأعدو، أشجار الكافور متهدلة تملأ الطريق، أشعر أن خلف كل شجرة شبحًا يطل عليَّ برأسه من وقت لآخر.. يزداد خوفي، تزداد رغبتي في العدو، لكن اختناق القمر وشدة الظلام قيدا سرعتي..)

فالإنسان يتحول إلى ظل من شدة التضاؤل والضياع في عالم بارد لا يحس، وهو يبحث عن السلام والحب والحماية: (لوأجد جدارًا أحتمي به).

والأشجار تيمة تتكرر في النصوص للتعبير عن التشتت في الصراع بين قيم الصالة والخصوبة والجمال والنقاء والبراءة والحنان، وبين ما يواجهها من القبح والجفاف والعقم والخوف، ويتبين ذلك في قصة انصهار:

(تغادر المنزل.. تنجذب لأنين الشجرة، تتحسسها، تلتصق بها، تحتضنها بقوة، تتأود.. يمتزج الخشب باللحم الآدمي).

فالفرد الذي يحاول المقاومة نصف حي ونصف ميت، وصوته يشبه صوت الراوي في بعض أنواع المسرحيات، فرد متنوع في عديد من الأشكال، فقد يكون عاشقًا أو عرافًا أو هاربًا أو راهبًا.

كما يتكرر لفظ الموت بلفظه أو بمدلوله، وهو مواز للغربة والدهشة لأنه مجهول ومخيف، ومن ثم تتردد كلمتا التوابيت والجثث لا بمعناها القاموسي، وإنما كدوال على الغربة في هذا العالم  والتلاشي (أبحث داخله عن شيء أحتمي به.. مجموعة من التوابيت، أفتح أحدها، أجد جثة مبتسمة في سلام، يزداد رعبي.. المتتبعون داخل الكوخ، لا يفصلني عنهم سوى العتمة، أفتح تابوتًا آخر، أجد جثة مبتسمة في سلام، أكرر المحاولة، ويتكرر المشهد في كل مرة.. المتتبعون يحتلون التوابيت واحدًا تلو الآخر، لم يبق سواه).

ويوظف القاص الأساطير القديمة وخاصة الفرعونية توظيفًا يدل على ثقافته ووعيه بالحياة وبالأسطورة وبالمصير، والسمة الأسلوبية هى تأمل الماضي مؤسسًا على فعل التذكر، وهو فعل إيجابي يهدف إلى تصحيح الحاضر والمستقبل دون الاعتماد على الخرافة، ويبدو شدة تأثر الكاتب بالبيئة الفرعونية فيذكر الآلهة (ماعت)، (ماعت يا ربة الحقيقة، سأصلي لك مدى الحياة، فقط لا أطلب منك سوى نزع الحكمة من جسدي).

وكذلك النهر وفيضانه ويعني النيل، ويرمز بالجدة التي تسرد حكاياتها وبالمرأة والشجرة إلى الأصالة التي يفقدها عصرنا، ونظرًا لقسوة الواقع وشدة وطأته فإن الحيرة والقلق تصبغان معظم النصوص بصبغتها، فلا ثوابت والحقيقة غير مطلقة، والدليل على ذلك أن تراكم التاريخ البشري ضائع في زمننا حيث تسيطر التكنولوجيا وسعار المادة، فالقيم الإنسانية مفقودة أو متحولة إلى قيم ورموز مزعجة، إذ ننمثل في التوابيت وموتاها، ومحاولة إحيائها إزعاج لهؤلاء الموتى، ويجرد الكاتب كثيرًا من المسميات مثل الحياة والموت والمرأة والشجرة ويحولها إلى دوال على رؤيته، مع اختلاف توظيفها بين قصة وأخرى، في لغة خاصة تقوم بنيتها الفنية على الترميز، وتقترب من الشعر حتى أن بعض النصوص قد صيغت في قالب قصيدة النثر مثل قصة إخفاق:

(إنارة على الجانبين، وخفوت شاحب في عمق الطريق.. حقائق عارية تسبح في الهواء، وتحاول استنشاقها الأنوف المزكومة..) ولا يشوبها ترهل.. وهو يمزج بين الرومانسية والواقعية أحيانًا كما في قصتي (الطقس) و (صراع) دون أن يقع في آفة الطرطشة العاطفية حسب مصطلح الدكتور محمد مندور..
(تعزف حولها الأشجار لحنًا خافتًا بحفيفها الرقيق، ويتمايل النخيل متراقصًا للتخفيف من حدة القلق، لكنها لا تسمع سوى تلاطم الأمواج، ولا ترى إلا ساعده المفتول يرتفع لأعلى فيئن الموج لضرباته، يملؤها الفخر ويقلقها الشك في تقدمه إلى شاطئها)

وتبدو الرومانسية في البحث عن تجليات الحياة في المرأة والطبيعة، ولكن هذه القصة بتقنيتها تعد بداية على طريق الأسلوب الرمزي الذي يبتعد عن الرومانتيكية كما نرى في القصة المشار إليها، وعن الواقعية كما نرى في قصة هرولة فالشمس مثلًا رمز، وكأن الكاتب يريد أن يقول إن عصر الرومانسية قد انتهى، أما الواقعية فأصبحت أحلامًا وكوابيس.

وأبرز ما تتسم به لغة القاص هي الصفاء والنقاء والسطوع، فلا تعقيد رغم عمق المعاني، وتضفي مخيلته الخصبة ثراء على النص، ومن سماته أيضًا توظيف الجنس دون ابتذال أو تعمد للإثارة، ويستعمل الكاتب أسلوب التداعي أو تيار الوعي، ولكن قصة الشهيدة يشوبها شيء من التنافر في التركيب بين الحدث الأول والحدث الرئيسي.

ويقتبس القاص أسلوب القرآن وقصصه وينسج أسطورة على نسق ألف ليلة وليلة، وقد تجلى ذلك في قصة حكاية العازف الأعمى، الدالة على قدرة فائقة في استلهام التراث الشعبي.. والكاتب غير متقوقع في محارة الذات، بل نراه أحيانًا مهمومًا بالمهمشين في قاع المدينة، فهو يصور خطاهم التي تدب في شوارع المدينة، كما يصور الكادحين في مواقع العمل وأحاديثهم وأحلامهم الساذجة في سبيل إيجاد مواضع لأقدامهم على أرض الوطن، وليحققوا إنسانيتهم في عالم لا يأبه بهم كما نرى في قصة هرولة المكتنزة في عباراتها، ولكنها تلخص تفاصيل الشخصية المصرية وخصائصها.

وأخيرًا فإن المجموعة القصصية إغماءة داخل تابوت للأديب الشاب هاني عبد المريد تعد إضافة إلى فن القصة القصيرة في أحدث تجلياتها، وهى تدل على موهبة في الصياغة اللغوية والفنية ومخيلة خصبة ورؤى وجودية غير تقليدية.

……………

*الدراسة مرفقة بالمجموعة القصصية التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2003

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم