ذِراع الذاكرة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 61
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ميثم سلمان

     -1

يتذكرُ خالي عباس المولودُ في بغدادَ عام 1938 بوضوحٍ كلَّ ما عاشهُ خلالَ العقدَينِ الأولينِ من عمرهِ. لكنَّ ما حصلَ بعد ذلك راح ينزلقُ خارجَ ذاكرتهِ تدريجيا. فالأشياءُ والأحداثُ والصورُ والأسماءُ لم تكنْ لتدومَ في ذاكرتهِ إلا لأسابيعَ، وبفعلِ تفاقم الفجائعِ صارتْ تدوم لأيامٍ معدودة، إلى أن قِصرتْ مدةُ احتفاظهِ بالذكرياتِ مع سنينِ الأسى لتكونَ عدّةَ دقائقَ فقط.

 صار خالي يكتفي بالاستماع للآخرينَ، غيرَ قادرٍ على مِجاراتِهم في الأحاديث. لكنّه يستطيعُ التواصلَ والنِقاشَ بل حتى إبداءَ رأيه في حالةِ بذلِ الشخصِ المُتحدثِ جهداً ووقتاً بتقديم لمحةٍ تفصيلية عن موضوعِ النقاشِ والتذكيرِ مراراً بفحواه.

  تفاقم عُسر تذكرِ خالي عندما دخل في عامهِ الخامس والستين، وأخذَ زمن اِحتفاظه بالمعلومات يقلُ شيئاً فشيئاً، حتى أضحى ينسى تتمةَ حديثهِ. عندما تنفلتُ خيوطُ الموضوع ِمن ذهنِه يَغطُ في حيرةٍ بحثاً عن تكملةِ مابدأهُ ويرتبكَ خجلاً.

 حينها يغرقُ في صمتٍ طويلٍ ممسّداً لحيتَهُ البيضاءَ بوتيرةٍ واحدة وبطيئة. فيما يعمد محدثوهُ إلى مداراةِ الموقفِ بالتحدثِ بموضوعٍ آخر تجنباً لإحراجهِ ولمنحهِ فرصةَ استرجاعِ معلوماتهِ. أحياناً يضطرُّ لختمِ حكايتهِ بكلماتٍ لا تمّتُ بصلةٍ إلى موضوعِ الحكايةِ.

في هذه الفترة انتشرت الصحفُ المحليةُ والدوليةُ كالفطرِ بعد هطولِ أمطارٍ غزيرةٍ من الرصاصِ والقنابلِ على رؤوسِنا.

 صحفٌ تقولُ كلَّ شيء وأيَّ شيء. اكتشفَ خالي حينها طريقةً جديدةً لتنشيطِ ذاكرتهِ من خلال الاستعانةِ ببعضِ الصحفِ للتعرفِ على ما يدور من مشاكلَ وأخبارٍ وقضايا.

 تمكن أخيراً من تجاذبِ أطرافِ الحديثِ مع الآخرين بمساعدة الجرائدِ التي يفرشُها أمامَه بعد أن يدسَ مسبحتَهُ الطويلةَ في جيبِ الدشداشةِ. ثم يبدأ بالنظرِ خلل نظاراتهِ الطبيةِ السميكةِ إلى الكلمات المتعلقةِ بحديثهِ.

 فصار يمضي ساعاتٍ متواصلةً في قراءةِ الصحف المختلفةِ، داساً رأسهُ فيها ليقرأها من الأول إلى الأخير.  أخذ يوسع من المواضيعِ التي يتناولُها فكثرتْ الصحفُ التي يحملها معهُ.

 يطويهنَّ ويحشرهنَّ في كيسٍ بلاستكي. بعض الجرائدِ تبقى لديه كمرجعٍ ثابتٍ وأخرى يشتريها كلَ يومٍ لتساعده في الحديث عن مواضيعِ الساعةِ. فهي معينهُ وذراعُ ذاكرتهِ الأيمن.

 يحمل كذلك أقلاما ملونةً لتمييز بعض الجملِ والكلماتِ والعناوين. فالسياسية منها، مثلا، يرسم حولها دائرةً باللونِ الأخضرِ، والأخبارُ الأمنيةُ باللونِ الأحمرِ، والدينيةُ باللونِ الأسودِ وهكذا.

 ذاتَ التمييزِ اللوني يعتمدُه لتأشيرِ الكلماتِ والجملِ. هذا الاكتشافُ العظيمُ ساعد خالي بالخروجِ من عزلتهِ وقنوطهِ. فهو يعيش لوحدهِ، لا زوجةَ ولا أطفال. فراح يزور الأصدقاءَ والأقاربَ متفاخراً  بتحايلهِ على آفةِ النسيان، حاملاً كيساً مليئاً بصحفٍ متنوعةٍ تحت عباءتهِ السوداء الخفيفةِ. يشحنُ ذاكرتَهُ بالإطلاعِ على موضوعٍ ما، ثم يخوض الحديثَ فيه. الجميعُ يجاريهِ ولا يحرجهُ بالأسئلة.

-2-

زارنا الخالُ عباس متأبطاً عدةَ الكلام تحت عباءتهِ. جلسنا معهُ، أنا وأبي وأخي الصغير وأخواتي، في غرفة استقبالِ الضيوفِ المفروشةِ بسجّادٍ قديم ومتهرئ. وكعادة لقاءاتنا العائلية بدأنا أولاً بالسؤالِ عن الأحوالِ العامةِ ثم خُضنا في أحاديثِ السياسةِ المقرفةِ والتي تنتـهي عادةً بزفرةٍ مرّة يائسةٍ. بعدها صرنا نتبادل النُكات. كل منا يعصر ذاكرتَهُ لقول آخرِ طرفةٍ سمعها.

وصل الدور لخالي. أفترش الصحفَ على السجادةِ أمامهُ وأخذ يقرأ النكتةَ علينا وكأنها نشرةُ أخبار. الطرفةَ قديمةٌ جداً، ظهرت أول مرة أيامَ الحصار ِالأقصادي حيث تسخر من الرئيس الذي أمر بصناعة عربة من ذهب ومن نائبه إلخ. إلا أن خاليَ يظنُّ أنها جديدةٌ، فقط لأنه قرأها في أحدى الصحف هذه الأيام.  كان يسترق النظراتِ إلى الجريدةِ غاصّاً بالضحك. راح أبي يضحكُ أيضا بشكلٍ هستيري وكأنه يسمعُ هذه النكتةَ لأولِ مرةٍ. أنا متأكدٌ أنني قلتُها لأبي قبل سنينَ طويلةٍ عندما كنا نتداولُها سرّاً. أذكر أن أبي نظرَ إليّ حينَها غاضبا، محذرا إيايَ من مغبةِ تداولِ أيٍّ طرفةٍ سياسية.

لكن هذه المرة عندما سمعها من خالي راح يقهقهُ عالياً ويتدحرجُ بكرشهِ الكبير ِ حتى تكشفَ لباسُهُ الأبيضُ الطويلُ مما جعل أخواتي يتركنَ غرفةَ الضيوفِ مستغرباتٍ لسلوكِ أبي. أما أمي التي تسنُّ خاليَ بعامينِ والعابسةُ على الدوامِ، جاءت من المطبخ بخطىً سريعةٍ لتقفَ في منتصفِ غرفةِ الضيوفِ وراحتْ تخزرُ أبي مثلَ صقر. ثم هزت يدَها اليُمنى وخرجت. لم أدركْ سببَ سخطِها المبالغِ فيهِ، هل لأنهُ بسبب اعتقادها إنها مازالتْ تعيشُ ذاتَ الرعبِ أو لكرهِها المزمنِ للضحكِ أم لأنها تمقتُ الجرائد؟ لطالما نَعتتْ كلامَ أهل السياسةِ أو أي أكاذيبَ بكلامِ جرائد.

هناك طرفٌ عديدة أخرى أقوى من تلك، تسخر من الفسادِ الحكومي والقمعِ. بل أن أحوالَ اليوم أنتجتْ سخريةً تفوق سواداً مما سبق.

ظل خالي منتشيا بطرح الأحاديثِ، واثقاً وجسوراً. يُقلبُ صفحاتِ جرائدهِ ببراعةٍ كأنه يقدم برنامج (صحف اليوم)! يعرف الصفحةَ التي ترتبطُ بكلامهِ فيقفزُ لها بخفة. وقبل أن ينام على فراشهِ الأسفجي على سطح دارِنا وضعَ كيسَ جرائدهِ تحت فراشهِ. كنت أراقبهُ وأنا منطرحٌ في فراشيَ القريبِ منهُ.

 في الصباح أيقظني ضجيجُ الأصواتِ المتنوعةِ التي تصدرُها أمي أثناءَ قيامِها بالأعمال المنزليةِ اليومية. تمشي ببطء مُحدثةً صوتاً مزعجاً وهي تجرُّ نعليها الكبيرينِ المصنوعينِ من اللاستيك المعاد. فرُغمَ شيخوختِها إلا أنها تصرُ على أن تقومَ بكلِ شيء يخصُ البيتَ بنفسِها.

سمعتُها وهي تصعدُ إلى السطحِ. يتعالى الصوتُ تدريجياً. ورغم أنني غطيتُ رأسيَ بالوسادة لسدِ أذُنيَّ إلا أن صوتَ خطواتِها ظلَّ يحفرُ في رأسي. توقفتْ أمي قربَ فراشِ أخيها. رَفعتُ الوسادة قليلا لمراقبتِها. لمحتُها وهي تمدُّ يدَها إلى الصحف. سحبتْهُنَّ من تحت الفراشِ بخفةٍ. المفاجأةُ أن خاليَ لم يشعرْ بذلك عدا أنهُ تقلّبَ في فراشهِ لكنهُ ظلَ نائماً.

كنت أراقبُها من الخلفِ وهي تتّجهُ نحوَ التنورِ الطيني على السطح. وَضعتْ العديدَ من أعقابِ النخيل والسعف داخلَ التنور. ثم أشعلتْ عودَ ثقابٍ ووضعتْهُ تحت لفافةِ الصحفِ. لم أحاول إيقافَها فهذا لا ينفعُ مع أمي العنيدةِ. راحتْ تحدّقُ بالنيرانِ وهي تلتهمُ الصحفَ قبلَ أن ترميَ بها داخلَ التنور.

-3-

عندما أيقظْنا خاليَ كي يشاركَنا الفطورَ، مدَ يدَهُ بلا إرادية منهُ تحتَ فراشِهِ بحثاً عن جرائدِه. ارتعبَ لعدم وجودِهُنَ. نهضَ فورا وسألني بصوتٍ مخنوق:” حسين، منو أخذ جرايدي؟”

أجبتُ مرتبكا: “ما أدري. بس يمكن أخذتهن وحدة من البنات حتى تقراهن”.

تحلّقنا حول صينيةِ الفطورِ المعدنيةِ في باحةِ الدار، أنا وأخي وأبي وخالي. بقيةُ العائلةِ كانت تجلس في المطبخ. تحدثنا أحاديثنا اليوميةَ عن انقطاعِ الكهرباءِ والماءِ والبطالةِ والسياراتِ المفخخةِ والاحتلالِ والصراعِ على الكراسي ووو. كان خالي قلقاً ويودُّ المشاركةَ بالحديثِ لكنهُ لا يستطيع.

طلب مني بتوسل: “حسين، بعد خالك ، ما تروح اتجيبلي الجرايد من اختك؟”

قلت له: “من أكمل أكل راح أجيبهن ألك”

كانت تعابيرُ وجهِهِ المليء بالتجاعيدِ تثيرُ الشفقةَ مما جعلني أتهربُ من البوحِ لهُ بحقيقةِ ما حدث. فربما يصابُ بستكةٍ قلبيةٍ لو عرفَ ذلك.

 تمنيتُ لو أستطعتُ الخروجَ من البيتِ لشراءِ صحفٍ غيرِها له. لكن هذا مستحيلٌ فقد بدأ حظرُ التجوالِ صباحَ ذاكَ اليومِ إلى أمدٍ غيرِ معلوم.

…………………

*كاتب عراقي مقيم في كندا

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون