ذاكرة ضد النسيان يرسمها علاء خالد في”وجوه سكندرية”

علاء خالد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إسراء عبد التواب

"لماذا دائمأ حين نقف أمام البحرنشعربالحزن ؟؟.....نشعر أننا فى حاجة للبكاء وأننا نفتقد أشياء كثيرة وحين نحاول القبض عليها بأيدينالانستطيع.هل لأن البحر يضعنا دائمأ فى مواجهه مع النفس أم أنه يضعنا أمام أحلامنا الضائعة وأمام كل الأشياء التى فقدناها ذات يوم ولن تفلح محاولتنا لإستعادتها من جديد؟!

.....علاء خالد فى كتابه المدهش"وجوه سكندرية"الصادرعن دارالشروق يحاول تفسير تلك الحالة النادرة لروح الفنان الذى يجلس على البحر ويعتريه الشجن يفسره على طريقته فى الفصل الثاني من الكتاب والذى يحمل عنوان مميز"الفردوس المفقود".يقول:البحر يحزنك لأنه يبعث لك دائمأ أحاسيس الفقد والحنين والإستعادة والموت ولذا يظل بحرالإسكندرية هوالمكان الذى تطاردك من على سطحه كل تلك الأحاسيس المرتبطة بالإيمان نتذكر معه إحدى معجزات سيدنا المسيح عليه السلام وهويسير فوق الماء لأنه إعتقد أنه والأرض شيئ واحد،ولذا كانت المدن البحرية أماكن لتحقق المعجزات فظل البحريشعرك دائمأ بالفقدويبعث لك رغبة ملحة فى التمرد

فهويعيدك دائمأ إلى بلدتك لأنه وسيط بين الريف والمدينة فى طبيعة المشاعرالتى يولدها،ومن أهمهاالرغبة فى الرحيل والهجرة والسفر والإيمان.وكل هذه المشاعرتوحدنا فى الحزن“.

الكتاب يفرد صفحات كثيرة لمحاولة رسم ذاكرة بديلة لمدينة الإسكندرية التى صارت مهملة أيام السادات وهى تنتج معارضين مؤمنين بقضيتهم ولديهم شعبية لا يشبهون بهلوانات السياسة اليوم وهم يتسكعون بيننا وببجاحة دون إيمان بقضيانا.المعارضون فى الإسكندرية كانوايتحركون فى الشارع وسط مؤيدين كثر لديهم ثوابت واضحة ولديهم جرآة قادرة على أن تهز السادات وتثير سخطة .لذا عاقبهم بالتجاهل بعد أن كانت الإسكندرية فى عهد عبد الناصر منارة للعمل والتطور والتقدم خطف منها السادات بحكم العقاب مزاياها ليمنحها للقاهرة التى أصبحت فى مكانة الإبن البكر الجاد الذى سيحمل تاريخ الأسرة للأمام،وظلت الإسكندرية فى مكانة الإبن اللاهى الفنان الغارق فى نفسه حتى النخاع

.يوسف شاهين نموذج حي على جنون هذه المدينة فهو من مواليدها إبتعد فى أفلامه عن الإسكندرية فى محاولته للتمرد والتحقق وخطفته أضواء القاهرة ليعود لها فى الثمانينيات والذاكرة تطارده وتهز كيان الأمومة بداخله فظل يرسمها فى أفلامة على أنها تلك المدينة الأم التى عليها أن يودع دائمأ الآباء أبناءهم من على مينائها بمنديل أبيض كما ودع الفنان القدير”محمود المليجى”إبنه محسن محيى الدين فى فيلم”إسكندريه ليه” نرى لأول مرة دموع المليجى وهى تحرقنا ويده ترفع المنديل لأنه جيل الآباء الراحل.سيظل المنديل الأبيض رمزأ للموت،فالمليجي لن يكون حيأ حين يعود الإبن.ومن هنا يضعنا شاعرناالرقيق فى كتابه مع مواجهه جديدة تتعلق برحلات التنويرالكبرى.

الشجاعة لازمة لخوض مغامرة التنويرمن أجل الإختلاف وميناء الإسكندرية هو بداية الطريق.محيى الدين يقف على السفينة ويودع أبيه لأن العائلة وضعت تطلعاتها فيه كى يكون مخرجا كبيرا وأمام هذه المغامرة يجب أن يكون”محيى”شجاعأ فالتنوير لا يتحقق دون ألم الفراق. يكبر”محيى”أويوسف شاهين فالإثنين واحد ويعود للإسكندرية بعد رحلة شاقة ومتعبة وفرحة فى نفس الوقت.ولكن هذه المرة لا يعود “شاهين”بروحه ولكنه يرجع لحضن المدينة الأم فى تابوت خشبي ممدد فى راحة أبدية.ليدفن بجانب قبر”سيد درويش”.صورة العودة يرسمها لنا المؤلف فى الفصل قبل الأخير بعنوان”يوسف شاهين الميلاد…الموت…العمل

وهو يتأمل جثمانه فالعودة لا تقبل الجدل.يقف أمام قبره الذى صارالمكان الوحيد”ما بعد السياسى”بالنسبة إلى رحلته.وهو ينظر إلى القبرالفارغ الذى ينتظرأن يمتلئ به.ويعرف أنها العودة لا محالة لتثبيت المعنى وسؤال المستقبل وتهاجم المؤلف صورتين لمدينتين القاهرة بمواجهاتها ونضجها وصراعاتها لتكوين الوعى،وصورة الإسكندرية التى ترسم لنا مكان الخلاص والعودة إلى التراب الذى سيكون له معنى ذات يوم

يحوى الكتاب ما يقارب الأربعين فصلأ ويتنقل كاتبه بألم خفيف كأنه طائريحلق بنا فى وجوه الإسكندرية وهو يرسم لنا ذاكرة تقاوم النسيان.ولأننا حين نتذكر فالحنين يهاجمنا لصورقد لا تثيرأهتمام أحد فالكاتب هنا يتحسس رأسه بحنان ليرسم لنا صورة الترام بكلمات تعانق الحنين وهويرى مساره مع البحر يعطى دفعة قوية لأن نحلم.الإسكندرية هى المدينة الوحيدة المبهجة التى تهزك بل حفرت لنفسها مكانا مميزا كي تصنع الحلم.نجلس أمام البحر نبكي ونفرح نحلم ونبتهج. تمدك دائمأ بالدهشة ويبتلع فيها البحركل الأصوات الصاخبة ويعيد لك تدويرها مرة أخرى لتحادث نفسك بعيدأ عن الصراع والتعب والضجيج.ستسمع فيه صوتك الداخلى بقوة وهو يحادثك فى صمت هادئ.

شاعرنا ومؤلفنا صاحب تجربة عميقة فى قصيدة النثريكتب بلغة شاعرية عن مدينته التى ضاعت منها السلطة ذات يوم.هو لا يبكي على السلطة على الرغم من أنه يريد تجريبها، لأنه رفض مثل أصدقائه أن يبتعد عن مدينته الأم ويهاجر.فحول دهاءه لإستعادة السلطة من جديد

داخله يحكي لنا:قررت أن تحوى روحي صخبا بديلا عن صخب لا تطوله روحى”يبدوهذا الإعتراف خيالا واسعا ولكن “علاءخالد” يعتبره جزء مهما لإستعادة سلطة القاهرة البعيدة من خلال مصادقة القهاوى على مقهى”الأنفوشي، والحاج صالح ،والكريستال”،”وبار الوطني”يجلس عليها ليس لغرض التسكع ولكن ليرسم لنا وجوها عبرت من عليها كانت قادرة على إثارة الصخب بداخله”عايدة بائعة الورد”التى تمد يدها بورودها لشاعرنا وتقول له “مابعتش حاجة النهاردة خالص “وحين يمد هويده فى جيبه ليمنحها ما فيه النصيب تبحث عن فكة لتعطيه الباقي يرد عليها وهولا يريد إحراجها “خلاص ياعايدة “تصر على أنها لا تشحت لكنها تحب بيع الورد

يتحسس الكاتب ذكريات المدينة بحنان وهو يمشى بين العمارات العتيقة التى تطل منها نوافذ زجاج ملون .يفخر بمدينته التى كلما جاءها زائر قال عنها “فيها حاجة رايقة فى الناس والشوارع والسواقين “يحمل الرقي على كتفه ويمشى بهدوء وهو يتذكرمنطقة وسط البلد وشخصية “جمال الدويلى” الساخط على فقره والذي يفرغ كل غضبه على حوائط وجدارن مدينته وهويكتب مجموعة من العبارات بخط جميل”مترالوطن بكام ،”مهرجان بواقي الوطن”،”جمال الدويلى مرشحأ لرئاسة الجمهورية”،”أنا بحب ليلى علوى”يتجول”الدويلى”بشاعرية داخل المدينة وبدلأ من إستخدام الفكرة يكتب على الجدران كما يرسم الجرافيتي الإحتجاج على أسوار ميدان التحريرالآن .يكتب ليشهد الناس على يأسه يفسر لنا كاتبنا هذا الإحتجاج:الدويلى يناطح السلطة فى حبه فالإستحالة هي التى تجمع كلأ من ليلى علوي والوطن.إستحاله أن تحبه ليلى علوى،وإستحاله أن يكون مواطنأ محترمأ يتمتع بحب هذا الوطن “.

وجوة كثيرة شاهدة على ذكريات المدينة حتى هؤلاء الشعراء الموتى الذين إكتفوا بالسباب لبعضهم البعض وماتوا دون أن يعرفهم أحد يرسمهم لنا الكاتب لأنه يحب أصدقائه حتى صديقه الذى رحل بالسرطان والذى كانت تلاحقه”عايدة بائعة الورد” يتذكره يرسم ملامح لأسامة الدنياصورى”ويراه وجه سكندري عائد من القاهرة بأمراضها وينفق صحته فيها.يمشى”علاء خالد”دون هدف فى المدينة ويتذكر وجوه أصدقائه التى تاهت بعيدا عنها وبيده كتاب وعينه على البحر.فى الترام يتذكر وينسى ينسى ويتذكروهو يصادق العقد الخامس من عمره .يشرد فى صوركتبه القديمة التى صاحبت الكراتين وهى مخزنة لسنوات ليجهزشقته الزوجيه فى بيت العائلة وبعد سنوات يفتحها بعدأن تكبرمكتبته وبها كتب جديدة يختلف الشاعر.أفكار كتبه القديمة لم تعد تشبه أفكار كتبه الجديدة يتذكر يأس أصدقائه الفنانين وبعضهم يحرق الكتب وهو يحاول أن يتخلص من الأثرالثقيل الذى تركته بداخلهم لأنها تبعث أفكارا متناقضة.

يكتب لنا:”كثير من الناس فى لحظات اليأس قامت بحرق كتبها حتى تتخلص من الأثر الذى تركته فيها ولكنها لم تستطع التخلص من الأفكار”يفسرمشهد إحراق الكتب لبعض الفنانيين بأنه نتاج ظروف بيئيه قاسيه. قد تضع الفنان فى مواجهة بين كتبه وبين بيئته الإجتماعية التى لا تقبل التسامح أو محاولة التجريب مع أشياء لا تفهمها هنا ينتقم الفنان منهم فى نفسه ينتقم من أعز شيئ لديه يحرق كتبه.

علاء خالد أحبط كثيرا وظل لسنوات لايجد عملا ويجلس على مقاهي وسط البلد بمدينته السكندرية ويمارس إستراحة المحارب والعاشق والمهزوم سياسيأ، ولكنه لم يحرق كتبه وجد تجاوزاجديدأ قال لنفسه الكتب القديمة لا تشبه الجديدة ولكن ما المانع فى أن تتجاور؟؟ لأنه ليس علينا دائمأ أن نفكر فى الماضى فقط.على الرغم أن الماضى يترك فى قلب شاعرنا ذكريات جميلة يضع الكتب الجديدة على رف مكتبته ويتذكررأسه فى طفولته ويتحسسها وهى تبتل والمطر يتساقط بغزارة وهو يغنى مع الأطفال لعبة المطر”الدنيا بتشتى /وأرواح لستى/تدينى علقة/بعصاية خضرا”   

ـــــــــــــــــــــــــ

* صحافية من مصر

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم