ذاتٌ مَكْدودةٌ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

البشير الأزمي

من بين هواياتي المفضلة، وأنا في سن العاشرة، أن أخرج إلى مصطبة الدار، بعد أن تَمْتَدَّ ظلال المساء وتسكن القرية وأقعد وحيدة،  أتأمل الفضاءَ الشاسعَ أمامي والسكونَ المخيمَ على القرية. لم أعد تلك الفتاة العاشقة الجلوسَ مع إخوتي الإناث قرب موقد النار نصغي لأحاديث جدتي إلى أن يلقي النوم ظلاله علينا.

الليلة الجو حار وخانق.. صوت اندلاق الماء من صنبور المجلى كدقات مطرقة تقرع أذني، يسرق مني النوم وصراخ يامنة؛ زوجة أبي يخدش بدوره أذني. يامنة تكبرني بست سنوات، وتصغر أكبر إخوتي؛ راضية  بعامين. يامنة التي تزوجها أبي قبل موت أبيها بأشهر قليلة، كانت رغبة من أبيها ليطمئن عليها قبل أن يُرَدَّ عليه التراب، كما كان يقول عندما ألم به مرض لم يجد له علاجاً، ورغبةً من أبي الذي كان يسعى لِيُخَلِّفَ مولوداً ذكراً ليحفظ اسمه بعد موته.

قالت أمي ونحن على مائدة العشاء قبل ساعات، إن الطفلة تشعر بألم المخاض، وأنه من المحتمل أن تضع مولودها غداً أو بعد غد على أبعد تقدير، لأن شكل بطنها أخذ هيئته، وأضافت أن البطن يوحي بأن المولود سيكون أنثى.

ما أن سمعتْ جدتي لفظ أنثى حتى ران على وجهها أثر حزن.. تعرف جدتي أن زواج أبي من الطفلة، كما كانت تنعتها دائماً، لم يكن لشقاق بينه وبين أمي بل لأنه كان يُمَنِّي نفسه أن يرزق من الطفلة بمولود ذكر، يخلد اسمه في حياته وبعد موته.

غسلت المُوَلِّدةُ يديها، تقدمت، انحنت من جديد إلى البطن، فسحت بين رجلي يامنة التي لم تتوقف عن الصراخ، بدأت تتمتم بآيات قرآنية وأدعية  وتطلب من الطفلة أن تبذل مجهوداً أكبر بدفع ما في بطنها، بعد برهة     أخذت الرأس الصغير بين يدها في حنو، وهي تصيح طالبة من المرأة أن تساعدها بالتنفس العميق وفي إيقاع متكرر. الجسد الصغير بدا ظاهراً لأمي وأم يامنة، ابتسامة تندلق من شفتيهما، ودعوات تندلق من أفواه إخوتي الجالسات في باحة الدار.

أخذتِ المولدةُ المولودَ من رجليه.. رفعته إلى أعلى، رأس المولود نحو الأسفل، ضربات سريعة ومتتالية على مؤخرته وغمر صراخ المولود المكان.  رسمت الفرحةُ آلاءها على وجهَيْ أمي وأم يامنة. رفعت المرأة المولود وأبرزته أمامهما ووضعته على صدر يامنة.. ساد صمتٌ للحظة حين أعلنت القابلة أن المولود أنثى..  أبي القاعد في فناء الدار ازداد وجهه انقباضاً. لم يتوقف عن التعبير عن مشاعره، ولو في صمت.. ظلَّ صامتاً للحظة ثم قال وكأنه استفاق من كابوس نَغَّصَ عليه لذة الانتظار ” لا حول ولا قوة إلا بالله”.

أحسستُ بِمَغْصٍ يعصر بطني.. آويتُ إلى فراشي، غفوتُ.. في غفوتي رأيتني أتذَثَّرُ بكفن..

أيقظني الفزعُ. أفقتُ على جلبة، الأضواء كابية.. غادرت سريري، اقتربت من النافذة، أطللتُ. لفظ الصباح هاماتٍ من بيوتها وألقى بها في متاهاتِ يومٍ تمددتْ فيه السحبُ باسترخاء، وشمس تطل وتختفي باسطة أشعة ضعيفة تنبئ  بيوم قاتم. أبي، زَامّاً شفتيه، في عينيه حزن وانكسار، احتقن الدمع في عينيه وأوشك على أن ينهمر،  يمعن النظر في الأفق كأنه ينتظر مُخَلِّصاً ينتشله من ذاته المكدودة. خرج من البيت، سار بموازاة الجدار، خطا إلى اليسار، وقف عند البئر، وبصوت خافت به بعض رجفة قال: ” لا حول ولا قوة إلا بالله.. لا حول ولا قوة إلا بالله..”، وتابع سيره، إلى أين؟ لا أدري.

عدتُ إلى سريري تمددتُ فوقه، سحبتُ الغطاء على وجهي وأخفيت دموعي..

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون