“ذئب وول ستريت”.. إتفرج ياسلام!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
أمير العمري جاء فيلم "ذئب وول ستريت" لمارتن سكورسيزي إلى العاصمة البريطانية لندن متأخرا فقد بدأت عروضه يوم 17 يناير، في حين أن عرضه في الولايات المتحدة كان قد بدأ يوم 25 ديسمبر الماضي، وأظن أنه عرض أيضا في بعض عواصم ومدن الشرق الأوسط (القاهرة وأبوظبي..) مع العرض الأمريكي، واستبعدت منه الرقابة في هذه البلدان الكثير من المشاهد واللقطات. فلم أشاهد الفيلم إذن إلا أخيرا، ولو كنت قد شاهدته مبكرا لكنت قد أضفته دون أدنى شك، إلى قائمتي لأحسن عشرة أفلام عرضوا عام 2013.

هذا فيلم حقيقي، يرد السينما إلى أصولها.. إلى رواية قصة حقيقية من خلال أسلوب فيه من الإقناع والتدفي والسلاسة بقدر من فيه من الإقناع والاستمتاع أيضا.

سكورسيزي يختار أن يقدم لنا عرضا spectacle سينمائيا ساخرا satirical حول عالم المال.. أو بالأحرى، عالم رجال المال أصحاب الطموح الذي لا يعرف حدودا، لتحقيق الثروة بطرق غير قانونية موضحا أيضا أن هناك خيطا رفيعا جدا يكمن في الفرق بين قانونية العمل في المضاربات وعدم قانونيته. إن بطله الذي نشاهد قصة صعوده إلى قمة الثراء، قبل أن نرى سقوطه المدوى، يتعلم كيف يصبح استاذا في الاحتيال على العملاء واستخدام طرق الإغراء بحلم تحقيق ثروة سريعة بدون أي جهد، وكيف يمكنه أيضا أن يلهم مرءوسيه الذين يعتمد عليهم في العمل، مصرا على جعلهم يتذوقون نفس ما يتذوقه من “طعم المال” المباشر.

سكورسيزي في افلام سابقة له كان مولعا بفكرة سبر أغوار ذلك السعي الحثيث الأمريكي بوجه شديد الخصوصية، نحو الحصول على المال، بل إن فكرة ظهور أمريكا نفسها كدولة كانت فكرة أقرب إلى فكرة الشركة التي يمكن إقامتها بين مجموعة “أصجاب المصالح” والمقصود المصالح المالية تحديدا. أمريكا- الحلم بالثراء والثروة، كيف أمكن لهذا الحلم أن يلهم البسطاء وأن يجعل الملايين يتحولون ايضا عبر سنوات وسنوات، إلى “مجرمين” وخارجين على القانون، بل كيف أمكن أيضا إختراق القانون نفسه وتطويعه لخدمة استمرار الحلم الزائف بالثراء.

أخرج سكورسيزي عام 1986 فيلم “لون المال”The Colour of Money– بطولة بول نيومان وتوم كروز- وكان عن لاعبي البلياردو المحترفين وعالمهم وثرائهم الموعود، ثم عاد فأخرج عام 1990 فيلم “رفاق طيبون”  Goodfellahs الذي كان يركز أيضا على تصوير معنى الحصول السهل على المال عن طريق الجريمة مع الانتماء إلى “عائلة” هي التي توفر لك الحماية وتقدم لك العون وليس من الممكن أبدا ان تخونك طالما ظللت مخلصا لها.

نقول إن فكرة المال السهل ومخاطرها كانت منذ وقت مبكر تسيطر على سكورسيزي، وهو يعود في “ذئب وول ستريت” إلى تناولها استنادا إلى سيناريو جيد، محكم، كتبه تيرنس وينتر عن كتاب جوردان بلفورت الذي يروي فيه بكل جرأة، تفاصيل صعوده وسقوطه في عالم البورصة: كيف كان يبيع عن طريق شركته التي تضخمت تدريجيا، الوهم لآلاف الزبائن المتعطشين للثراءالسريع، وكيف كان منغمسا في ذلك النمط المدمر من حياة اللهو والترف والغرق في بحار المخدرات والجنس، وكيف أصبح يستخدم شبكة علاقاته لتهريب الاموال إلى سويسرا.

سكورسيزي يحول السطور والكلمات إلى مشاهد سينمائية نابضة بالحياة، بالأضواء والحركة والموسيقى والضجيج.. لقطات مدهشة صادمة، وعلاقات تبدو كما لو كانت تجسد عالم لا وجود له سوى فيما وراء العالم.

 من دون رؤية فلسفية ما، يمكن أن تصبح قصة “ذئب وول ستريت” قصة فاقدة للعمق، مجرد سرد حركي مثير لا نفع منه ولا يبقى منه في الذاكرة شيء بعد أن ينتهي “العرض”.. لكنه يتوقف هنا ليطرح تساؤلات مثل: ما الذي يعنيه الحصول على المال دون تعب؟ وكيف يترجم المال إلى متع لا حصر لها: نساء فاتنات، زوجة حسناء لاشك أنها ستصبح مدعاة لحسد الرجال وغيرتهم، قصور فاخرة، سيارات فارهة، رحلات خاصة بيخوت بحرية أو طائرات خاصة، قدرة على شراء الاحترام والحب والخضوع من جانب حاشية ضخمة تشعر بالمتعة وبارتباطها بالمتعة التي لا حدود لها (بلغ عدد العاملين في الشركة التي أسسها بطل الفيلم، جوردان بلفورت- الشخصية الحقيقية التي يجسدها في الفيلم ليوناردو ديكابريو، نحو ألف موظف).

 هنا نصبح أمام “حالة” خاصة للغاية من الشعور بـ”الإلوهية”، أي بالقدرة على الخلق والتحكم في المخلوقات. إنها حالة الهوس التي يصل إليها جوردان بلفورت إنه يصل إلى حالة الهوس بالذات متصورا أنه أصبح “إلها” صغيرا مع إحساسه بالقدرة على رفع من يشاء إلى أعلى المراتب أو النزول به إلى الأسفل. إنه يخطب في العاملين بشركته خطبة يفترض أن تكون خطبة الوداع بعد أن أقنعه والده بالاكتفاء بما حققه والابتعاد عن الطريق الوعر الذي يمكن أن يقوده إلى الهاوية خاصة بعد أن أصبحت عيون رجال المباحث الفيدرالية مسلطة عليه وعلى نشاطاته، خاصة بعد أن وقع في خطأ قاتل متصورا أنه يمكن أن يشتري حتى ضابط المباحث الفيدرالية.. فكيف يمكن لأي شخص أن يقاوم الثراء.. حلم الصعود إلى القمة؟!

لكن خطبة بلفورت تتحول إلى خطبة للتحدي، للتعبير عن الثقة التي لا حدود لها والتي تصل إلى مرتبة الجنون المطلق.. إستنادا إلى إيمان غيبي قاتل بأنه قد أصبح محصنا ضد الهزيمة وضد السقوط.. أليس هو الذي صنع كل هؤلاء الواقفين يصرخون أمامه في نشوة الانتصار

جوردان بلفورت قد يكون أيضا شيطانا أغواه المال وأغوى هو به الآخرين. هذا المغزى الأخلاقي هو ما يجعله أيضا يشعر بالحصانة: إنه يصر على قيام قبطان اليخت الخاص بالإبحار في ليلة عاصفة، من مونت كارلو إلى سويسرا حتى يمكنه الذهاب إلى جنيف، إلى حيث يوجد ذلك البنك لوضع الأموال الطائلة التي حصل عليها عن طريق الخداع والمبالغات التي تسببت في خسارة آلاف العملاء. لكن الأقدار أقوى من رغبات بلفورت، فالعاصفة تحطم اليحت وتغرقه ويقوم حراس السواحل الإيطاليين بانقاذه مع أصدقائه وزوجته!

 يبدو الفيلم أحيانا، وكأنه مصور من وعي مدمن للمخدرات، فصاحبنا يعمل طبقا للنصيحة التي أسداها إليه مارك حنا رئيس الشركة التي عمل لها في بداية حياته في البورصة الذي نصحه بتناول المخدرات وممارسة الجنس بانتظام. وبلفورت أيضا رجل دعاية وترويج من الطراز الرفيع، والفيلم يتخذ في أحيان كثيرة، وجهة نظره، حينما نراه وهو يواجه الكاميرا يخاطبنا مباشرة، في مشاهد تتحرك فيها الكاميرا تتابعه وهو يبتسم ويتحدث مما يحطم بين آونة وأخرى، فكرة الإيهام بالواقع التي تقوم عليها السينما التقليدية. إنها نفس الحيلة البريختية التي تطالب المشاهيدن بعدم الاندماج فيما يشاهدونه وتأمل ذلك العالم “الغريب” الذي يقدمه الفيلم بكل تفاصيله: مشاهد الجنس الجماعي في المكاتب أو في البيوت، تناول المخدرات من جميع الأنواع وفي كل الأوقات (في أحد المشاهد نرى كيف يقوم في حركة هستيرية بشق حاشية الكنبة لاخراج كيس الكوكايين لكي يستنشقه حتى يعادل مفعول العقار القوى المهديء الذي جاءه به صديقه وشريكه “دوني”، رحلات المتعة، العلاقة الغريبة مع مدير البنك السويسري وكيف يتفق معه على قبول ملايين الدولارات رغم معرفة أنها جاءت بصورة غير مشروعة.

يستخدم سكورسيزي أسلوبا يجنح إلى المبالغة في كل شيء: في الحركة والأداء والصراخ والشتائم المبتادلة والانتقالات السريعة من لقطة للقطة ومن مشهد إلى آخر، كما يجعل الممثلين ينطقون أحيانا، بما يدور داخل العقل الباطن للشخصية التي يؤديها كل منهم قبل ان يعود الممثل إلى تبادل الحوار بطريقة طبيعية مباشرة.. وهكذا، وهو ما يحقق فكرة العرض الكوميدي الساخر.

يستخدم سكورسيزي أحيانا التعليق الصوتي للبطل من خارج الصورة، وهو يروي لنا طرفا من قصته أو يعلق على حدث ما أو يقدم لنا شخصية ما من شخصيات الفيلم: كما نرى عندما يقدم لنا أفراد مجموعة الشباب الذين لم يكمل معظمهم دراسته والذين إستقر أمره على الاستعانة بهم كفريق يعتمد عليه ويقوم بتدريبه كما يحدث بالفعل. ويعتمد الفيلم على المونتاج الجيد المحكم الذي يجعل الإيقاع سريعا متدفقا، يساهم في دفع البناء الفيلم إلى الأمام بطرق مبتكرة منها طريقة استعادة بيلفورت لما جرى له عندما إنهار جسمانيا بفعل الجرعة المخدرة المضاعفة التي تناولها من عقار رديء أتى له به صديقه “دوني” حيث يروي لنا بصوته بينما نشاهد ترجمة بصرية لما يرويه، كيف أنه تمكن بمعجزة من قيادة سيارته والعودة بها من النادي القريب الذي إضطر للتوجه إليه لكي يتحدث تليفونيا مع محاميه بعد أن نبهه إلى ضرورة الخروج من المنزل بعد أن أصبحت المكالمات مراقبة.. وصباح اليوم التالي يحضر رجال الشرطة لاستجوابه بخصوص تسببه في تدمير بعض أعمدة الإضاءة في الشوارع القريبة وتحطيم بعض السيارات فنرى أن سيارته الواقفة أمام منزله وقد تضررت بدرجة كبيرة، هنا يستعيد بلفورت مجددا، مسار عودته وه تحت تأثير المخدر، وكيف أنه لابد وقد أصاب عددا من السيارات وغير ذلك مما نشاهد مترجما بالصورة.

يلجأ سكورسيزي عادة إلى عمل تدريبات مكثفة على الأداء والتصوير، ويترك الفرصة للممثلين للارتجال كثيرا في الحوار حسب الشخصيات التي يقومون بأدائها، ويلتقط- خلال ذلك- ما يروق له من عبارات الحوار ويضيفها إلى السيناريو، ويطلب من الممثلين إستخدامها أثناء التصوير الفعلي للمشاهد.

ولعل تلك العلاقة التي تأسست بين سكورسيزي والممثل ليوناردو ديكابريو منذ أن عملا معا في فيلم “عصابات نيويورك” (2002)، ثم استأنفا العمل بعد ذلك في أربعة افلام أخرى، ساهمت فيما تحقق هنا عمليا أي في ذلك الأداء الفذ لديكابريو، بحيث بدا وكأنه قد اصبح يسيطر سيطرة تامة على الدور ويمسك بأنظار المشاهدين كما لم يتمكن من قبل في أي فيلم من أفلامه. وقد بدا متوحدا مع الدور ومع الشخصية بملامحها العنيدة والعنيفة، ممتلكا ناصية الحوار المتدفق السريع، والقدرة على التعامل مع الممثلين الآخرين من حوله بكل سيولة وسلاسلة وبساطة: في اللقطات القريبة كما في اللقطات المتوسطة والبعيدة، وبنفس القدرة على التأثير الدرامي.

هنا أيضا تبرز الموهبة الكبيرة التي يتمتع بها الممثل ماتيور ماكونوهي في دور مارك حنا.. ورغم ظهوره لدقائق محدودة في الفيلم إلا أنه يثبت أنه ممثل كبير من المستوى الرفيع بكل ما تعنيه هذه الكلمة.. إنه يعبر بالحركة المحسوبة وبنغنة الصوت وكلمات الحوار التي تبدو متدفقة بشكل طبيعي تماما، وبطريقة آسرة تسيطر، ليس فقط على الشخصية التي أمامه، أي شخصية البطل الصغير “جوردان” في بدايته، بل وعلى المشاهدين جميعا.

وقد أحسن سكورسيزي إسناد دور الزوجة التي تبدو أكبر من الحياة نفسها (حسب المثل الغربي الشائع!) إلى نجمة مسلسل “جيران” الشهير الممثلة الاسترالية مارجوت روبي.. التي نجحت في الوقوف بصلابة أمام ديكابريو وقامت ببراعة بدور الزوجة التي تبدو في البداية مفتونة بتلك المشاعر الجامحة في شخصية “بلفورت” غير أنها تتحول تدريجيا خاصة بعد أن تنجب طفلين، إلى النفور من ذلك النمط الحياتي المدمر، ويكون خروجها من عالمه وحياته، إيذانا أيضا بسقوطه. لكن هذا السقوط لا يستمر فسرعان ما سيغادر السجن، ويستأنف تقديم دروسه ونقل خبراته في الترويج للسلعة، أي سلعة حتى لوكانت قلما صغيرا.. فمفتاح النجاح يكمن في القدرة على البيع والمحافظة على البقاء وسط الأضواء.. في بؤرة الفرجة.

إن فيلم “ذئب وول ستريت” نموذج هائل لأحد عروض الفرجة الجماهيرية العصرية باستخدام كل أساليب السينما، مع تجاوز كل ما كان معروفا من قبل من خطوط حمراء. ومن المؤكد أنه عرض ليس من الممكن رفضه!

ــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلاً عن “عين على السينما”

مقالات من نفس القسم