دوينا يونيد: بقرة صغيرة تخاف الوحدة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد شافعى

فيما يلي قصيدة للشاعرة الرومانية "دوينا يونيد". ولدت في الرابع والعشرين من ديسمبر سنة 1968 في بوخارست. أصدرت أول أعمالها الشعرية سنة 2000 بعنوان "فتاة الحلوى" وبعده "الوقت الأمثل لارتداء القرط" (2001)، و"كتاب البطون والعزلة" (2005)، و"نقرات لترويض أنثى القنفذ" (2010).

قصيدة النثر" ـ حسبما تقول يونيد في حوار معها ـ "بالنسبة لي هي أكفأ أشكال التعبير. عبرها أستطيع أن أحكي عن نفسي وعن غيري، سواء ألفتهم أم جهلت بهم، فكل قصيدة نثرية بمثابة تاريخ معيش، لو جاز التعبير. قصة بسيطة، مخطوطة على عجل، وبأكبر قدر ممكن من السذاجة، قد تقتنص شعر العالم الذي نعيش فيه".

في ما يلي قصيدة نثرية لها ترجمت إلى الإنجليزية بقلم فلورين بيكان ونشرت في موقع الشعر الدولي.

***

أمي خائفة من الوحدة. تنظر إليَّ في بؤس ـ فلا سبيل إلى التخفيف عنها ولا حتى بمسلسل كوميدي. شاخصة إليَّ في خوف بقرة صغيرة. ولا داعي للقلق، أنا أعمل على إبهاجها، بينما الوحدةُ تنهش لحمها. تسألني وشفتاها غارقتان في الدم: ألست خائفة من الوحدة؟ أقول مطلقا. وكنت بالطبع أكذب، وإذا أمي ترميني بزهرة شائكة، زهرةٍ بنفسجيةٍ للغاية، بنفسجيةٍ إلى حد أن الليل، بغتةً، حلَّ علينا.

***

نعم. ملاحظتكم صائبة. هما اثنتان، أم وابنتها. وبينهما حوار، ومع إحداهما زهرة. والاثنتان خائفتان من ماذا؟ من الوحدة!! ولئن كان لهذا أن يعني أي شيء، فهو أن كل واحدة منهما، بالنسبة للأخرى، غير موجودة أصلا.

والآن تعالوا ننظر في حياتنا التي نرى فيها هذه القصيدة طول الوقت، في زوجة تشكو لزوجها، زوجها بالذات، من أنها لا تجد صديقا، أو صديقٍ ينتحي جانبا بصديقه ليبثه آلام وحشته في هذا العالم الذي لم يعد الواحد يجد فيه الصديق في وقت الضيق. بل تعالوا نوسِّع الدائرة ونصغي معا إلى الواعظ إذ يحدثنا عن زماننا هذا وكيف أن فيه إسلاما ولا مسلمين، يقولها، ونحن جلوس أمام عينيه، في انتظار أن يؤمنا نحن في الصلاة! الصلاة التي لن تصح جماعتها بغيرنا، نحن بالذات.

الحقيقة أن على من يشعرون بالوحدة أن يكتبوا شعرا، والمسألة سهلة: ورقة بيضاء، وقلم، وممحاة، وعلى هذه الصفحة نفسها يكتبون وحدتهم المرة تلو الأخرى، وهذا خير لهم من أن يقولوا لشخص إنه غير موجود، أو إنه ليس الشخص المناسب، الذي يبحثون عنه، في حين أن هذا الشخص بالذات هو الذي بلغ به إشفاقه عليهم حدّ أن يجلس ليستمع لنحيبهم اللغوي هذا.

ولكن الجلوس إلى ورقة بيضاء لن يكون مسلّيا طول الوقت، صحيح أنه فعل مثالي لمن يشعرون بالوحدة، ولكنه يقتضي نوعا من الناس يشعرون أن الوحدة ضرورة لا عقاب، جزء من عدة الشغل لا جزء من عدة الجلاد الخفي الذي يروق له أن يعذبهم.

كارهو الوحدة، الجاهلون بقيمتها، الغافلون عن نعيم مثول المرء بين يدي نفسه، وانفراده بها، عليهم أن يفكروا في شيء غير الورقة البيضاء. أن يفكروا مثلا في دلو وفرشاة وألوان وفي جدران المدينة، لا أقصد الجرافيتي بالضبط، فهذا أوشك أن يكون في عالمنا العربي فنا سيّئ السمعة، ربما عليهم أن يقوموا بطلاء المدينة، وهذا ليس أقل إثارة للمشاكل من الجرافيتي. فسرعان ما سيخرج رجل من بيته ليجري حوارا مع الوحيد المتفاني في تجميل بيته، لن يكون الحوار هو بالضبط ما ينتظره الوحيد، ولكنه على كل حال سوف يبدّد الوحدة. وقد ينضم شرطي إلى الحوار، وقد ينتقل الحوار بأطرافه جميعا فيستضيفه قسم الشرطة، وستكون هناك ورقة بيضاء، وقد يكون هناك انتقال إلى غرفة ضيقة مغلقة من الخارج، وسيكون بداخلها على الأرجح عدد من الناس، وحوارات لا تنتهي. نعم، استنتاجكم صحيح، على الذين يشعرون بالوحدة بدلا من أن يكونوا مشكلة لغيرهم، أن يشقوا طريقهم إلى السجن: هناك ناس، وطعام، ومكتبة، وحديقة، وساعات تبدو كأنما لا آخر لها. صحيح أن هذه الأشياء موجودة جميعا في العالم خارج السجن، وقادرة طبعا أن تبدّد وحدة أي وحيد، لكن إذا كان أحد قد عمي عن رؤية ما في هذا العالم من تسليات، إذا كان أحد أبى إلا الاستمتاع بأن يكون مثيرا للشفقة، فليكن فعلا مثيرا للشفقة.

هذا وكيف تصف شاعرة أمها بأنها بقرة؟ وخائفة؟ وصغيرة أيضا؟ هذا أمر فيه تجاوز، ما لم يكن هناك اختلاف ثقافي يجعل البقرة مكانة لا إهانة، أو ما لم يكن ثمة معنى خفي: نحن نتكلم عن بقرة، بقرة صغيرة، عِجلة يعني، عالة على بقرة كبيرة، أمٍّ يعني، كأن الفتاة تنبّه الأم إلى الجديرة بينهما بالخوف، أو ربما ببساطة تدعو الفتاة أمها من طرف خفي إلى إلقاء نظرة على القطيع الأكبر، لعلها كفيلة بإيناسها وتبديد وحشتها.

مقالات من نفس القسم