“دنيازاد”.. والخروج من “حرملك” الموت

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 18
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

دينا نبيل

“أكتب “دنيازاد” وأستعين على حروفها بالنسيان. تعلّق وجهها المستدير وعينيها المسدلتين فوق رأسى وتبدأ فى الدوران فى فلك

معلوم. يمنحها الخسوف توهًجا بين الحين والحين. وأعود معها طفلة بلا ضفائر… لحظة حداد أخيرة. لكل هؤلاء الذين سقطوا فى بئرالتحول. وماتوا”.

ليس اعتقاد أن الحكى وسيلةٌ للحياة محَض عبث وادعاء، فلا عجب أنّه أقدم أنواع التواصل الاجتماعى بين البشر، وفى كثير من

الأحيان يكون له مفعول السحر عندما يصير سببًا فى تضميد الجراح. ورواية “دنيازاد” للأديبة مى التلمسانى التى حصدت جائزة الدولة التشجيعية، تعتمد على متكأ ثيمى حول إرهاصات كتابة الراوية – بطلة النص­ روايتها “دنيازاد”؛ وكيف انتقلت بعملية الكتابة والحكى من حالة الحداد واليأس إلى الحياة والإنتاج.

تنتمى الرواية إلى أدب السيرة الذاتية، إلا أّن المطالع للرواية لا يلحظ ارتفاع صوت الكاتبة بقدر كون الراوية صوتًا أنثويًا صادقًا فى تعبيره عن تجربة امرأة فى مواجهة الموت، لحظة انبعاثه من جسدها أو بالأحرى عند تحول جسدها ذاته إلى مقبرة.

تدور الرواية حول قصة فقدان البطلة ابنتها الجنين دنيازاد بسبب انفصال فى المشيمة، وتداعيات هذا المصاب جسديًا ونفسيًا ومحاولات البطلة التعامل مع الموت والتغلب على محنته مروًرا بمراحل عّدة: ابتداء من شعورها بالذنب كون جسدها مقبرة لابنتها، ثم شّكها فى مقدرتها على الإنجاب، وصولاً إلى “نقطة تحول” وتعاملها مع حقيقة الموت والتصالح مع جسدها وخروجها من “حرملك” الموت الذى يمثّل موتيفًا دافًعا محفًزا للأحداث.

تبدو الرواية عند مطالعة العنوان للوهلة الأولى كما لو كانت قصة هاربة من حرملك “ألف ليلة وليلة” حيث مباهج القصور والبذخ المترع بالراحة التى يظللها شبح الموت. ولاسيما وأّن العنوان “دنيازاد” يحمل اسم شقيقة شهرزاد التى كانت تجهّز لها المخدع كل ليلة، مما يحيل إلى ثقافة الحرملك والمرأة الحبيسة فى انتظار الموت؛ فشهريار قابع فى سريره تربًصا لتنفيذ حكمه القدرى بالإعدام على “شهرزاد” كبنات جنسها. وعليه، فإن للعنوان أهمية بالغة بل وإنه عتبة هامة لفتح مغاليق النص كما يرى الناقد الفرنسى جيرار جينيت. ولكن لا يلبث أن يفاجئ القارئ بمخالفة أفق توقعه منذ مصافحته للغلاف، فيجد صورة نيجاتيف لامرأة حامل وصورة “سونار” لجنين، مما يطرح بعًدا آخر ويخبر عن توظيف جديد لفكرة الحرملك كما يبدو فى المحتوى النصى للرواية. بل يتبّدى من الصفحات الأولى دعم الزوج الوجدانى لزوجته فى محنتها، ومشاركته إياها فى السرد أحيانًا– كون الرواية تندرج ضمن الرواية البوليفونية متعددة الأصوات ­ مما يدفع جانبًا الطرح التقليدى لفكرة الحرملك وعلاقته بالسلطة الذكورية، اللهم إلا فى بعض التلميحات المقتضبة عن تخلص البطلة من سلطة المدير وأوامره فى العمل.

يعرف الحرملك بأنّه المكان المحّرم فى البيت حيث تقطن النساء والأطفال حتى سن البلوغ، ونظًرا لعدم وجود نشاط خارجى لهؤلاء النسوة، فإنهن يكتفين فقط بمراقبة الرجال خارج الحرملك وقضاء وقتهن فى اللهو والتسلية. وفى هذا المضمار، ينتمى “الحرملك” إلى الحقل الدلالى الخاص بالأسر والحبس أو المكان شديد الخصوصية للإنسان، ولكنه فى أغلب الأحوال يحمل معنى سلبيًا. تتبّدى تجليات فكرة “الحرملك” وعلاقتها بالموت بين “ألف ليلة وليلة” ورواية “دنيازاد” فى أّن كلا العملين له علاقة بالأسر الذى يتوشح رداَء الموت. فـــ”شهرزاد” تقف على حافة الموت إما أن تحكى وإما أن تموت، وبطلة “دنيازاد” إما أن تحكى وإما أن تظل أسيرة الجرح النفسى والجسدى بعد عملية الإجهاض. ومن ثّم لم يكن اختيار اسم “دنيازاد” ­ كعنوان وكاسم لشخصية الجنين المتوفاة ­ وليد الصدفة، وإنما جاء بمقصدية تاّمة للتناص مع شخصية دنيازاد فى “ألف ليلة وليلة”، تقول البطلة:” ثّم قلنا أنا وزوجى “دنيازاد” مثل “ألف ليلة وليلة”، أمضت فى المستشفى ليلة واحدة والألف الباقية أمضيتها فى ذكرى اسم لم أنطق به سوى مرة واحدة.. وربما مرتين”.

ليست دنيازاد أكثر من شخصية ثانوية فى “ألف ليلة وليلة” تحفز شقيقتها الكبرى “شهرزاد” على الحكى كل ليلة إرجاًء لمصيرها، أما فى رواية “دنيازاد” فالابنة هى الحافز ذاته للكتابة والحكى، بغية الخروج من حلقة الموت المحدقة بأمها. وعليه يأخذ الحكى أو الكتابة مسلك المخلص المحرر من حال أسر كل ما هو سلطوى سواء السلطة المركزية الذكورية أو التحرر من أسر الحزن والحداد.

لم يكن اعتمال الإبداع الحكائى مجرد إرجاء لمصير “شهرزاد” أو تسجيل ذكرى مؤلمة أو ثراء عقلى لدى بطلة “دنيازاد”، وإنما بهدف الوصول إلى نقطة تحول وتغير فارقة فى شخصيتها وشخصية المحيطين بها عبر الصوت الأنثوى. فتسعى “شهرزاد” إلى تغيير شخصية شهريار من ملك طاغية يدفع بمملكته إلى الهاوية، مهووس بالشهوة والقتل إلى ملك مستقر نفسيًا. وكذلك الحال لدى بطلة “دنيازاد”، تسعى إلى الخروج من الإحساس المطوق لها بذنب أدخلها فى مرحلة اضطراب نفسى، تقول: “العلامات تقول إّن لعنة قد حلّت بجسدى، وإنّى غير قادرة على المنح بعد اليوم”. بل ويصل الأمر إلى “فوبيا” كل ما له علاقة بجنينتها المتوفاة من أيام الأسبوع والتواريخ والألوان والكلمات العابرة والأماكن والأرقام؛ فتتبّدل حالتها إلى امرأة قادرة على اتخاذ قرارات جوهرية فى حياتها وفى حياة من حولها، والأهم قرار إنجاب الطفل الثالث، تقول: “نقطة تحول عند حافة الموت تفقد بعدها قدرتك على الاهتداء إلى الطريق بمجرد النظر، فتغمض عينيك. وتبسط ذراعيك. وتدور فى فلكك المرسوم لعللك تهتدى.. فإن اهتديت قيل “نقطة تحّول”.

وعليه فإن الصوت الممنوح المنبعث من داخل ذات البطلة يفتح لها سبيل الانعتاق من أسر الحزن، والخلاص من ظرف الحداد، وتصبح عندها الكتابة ملاذ الهروب من الأسر النابع من الألم الجسدى والنفسى الأكثر خصوصية لدى المرأة.

يتوازى الجرح الجسدى والنفسى الذى خلّفته تجربة الموت فى حياة البطلة مع تجليات فكرة “الحرملك” كونه مكانًا للأسر الجسدى والنفسى، مما يضع تحّديًا أمام الكاتبة فى توظيف إسقاطات الحرملك المتراكبة على حالة نفسية موازية.

تخلق الكاتبة نوًعا من الجرح المتوالد الذى يبنى علاقة طردية بين الجرح مع الإنتاج والفقد مع الولادة، فدنيازاد المتوفاة تدفع أمها بشكل غير مباشر إلى إنتاج وولادة “دنيازاد” جديدة فى شكل رواية نصية مكتوبة بحجم الألم المنبعث من الداخل. فهناك دنيازاد وليدة الرحم ودنيازاد وليدة الجرح النفسى. وأخًذا فى الاعتبار أن “دنيازاد” ليست شقيقة البطلة وإنما ابنتها، فهى امتداد لها وجزء من جسدها، فتكون بذلك الحافز للكتابة كما لو كانت الكتابة منبعثة من الجسد ذاته.

يظهر هذا التوظيف الإبداعى فى مصطلح الكاتبة الفرنسية هيلين سيكسو عن (الكتابة عبر الجسد)، تقول: “على المرأة أن تكتب عبر جسدها.. وستخترع لغة حصينة تحطم الحدود والطبقات”، فتتحول المرأة نفسها إلى موضوٍع للكتابة، وتضع المرأة ذاتها داخل النص؛ لأن جسدها وفنها لا يمكن الفصل بينهما. ولكن ماذا يعنى أن تكتب المرأة من خلال جسدها؟ منذ أن تولد الأنثى تتحدد هوية جسدها وتضعه النظرة الأبوية داخل الثنائية الخاطئة التى تربط العقلانية بالرجل والجسد ومتطلباته بالمرأة. فتناهض المرأة هذه الثنائية لتعيد الرابطة الطبيعية بين الجسد والعقل عبر كتابتها، مما يؤثر فى شكل ومحتوى عملها. وعليه، تهدف الكتابة النسوية إلى كسر التصنيف الاجتماعى والأدبى التعسفى بين العقل والجسد؛ فتعتمد الكتابة – نشاط عقلى بالدرجة الأولى­ عبر صور فنية جسدية، تستطيع بها العبور من المنطقة المكبوتة أو المحظورة وقتًا طويلاً فى “حرملكها” كــــ”تابو” خفى إلى الظهور والإعلان عنها ليس فقط بوسيلة شفهية بل برواية مكتوبة يُكتب لها البقاء.

تُعّد صورة الفقد داخل الجسد المعبّر عنها بالفراغ إثر الإجهاض هى أكثر الصور وضوًحا فى التعبير عن حالة الخواء الداخلى جسديًّا ونفسيًّا، تقول: “يؤلمنى ألم الرحم المنقبض والجرح الغائر والفراغ”؛ فاللغة الاستعارية تؤنسن أجزاء الجسد وتمنحها الشعور والوعى الخاص بها، مما يرفع مستوى السرد من الإخبار إلى البوح والمكاشفة الذاتية. وينتقل الشعور والدفق التأملى وتيار اللاوعى إلى منطقة الرحم وتخيّل ما يجرى فيه، تقول: “يتكّور بطنى قليلاً. لابد أّن طفلاً منى يرقد الآن فى تجويف الّرحم، ليس له فم بعد، وليست له أطراف حقيقية”.

فمن خلال الجسد يُمنح المسكوت عنه والمفقود صوتًا وأنينًا خاًصا عبر تكرار ذكر الخواء بعد الإجهاض، مما يؤطّر المحتوى الذى ترويه من منظورها داخل المساحة الفنتازية الحزينة، تقول: “عرفت أّن الحزن ينساب بين الحلق والقلب، ويحفر فى طريقه أخدوًدا خشنًا. تحترق داخله صور الألم ويبقى جداره صلبًا… يمّر الزمن، وأعرف كلّما تحسست رقبتى أّن الأخدود لم يزل.”

فالتعبير عبر الجسد ليس سوى وسيط تتحرى من خلاله الذات المبدعة التنقيب من أجل الوصول إلى دواخل النفس.

يرسى النص صلة وثيقة بين الجسد الجريح والذات المكلومة أو الجرح المفتوح والحداد المؤلم، ولكن أى نوع من الألم الخفى النفسى يمكن أن يُخبر عنه بالألم الجسدى؟ تقول هيلين سيكسو: “فى ولادة الطفل، صرخةٌ من أجل الهواء! .. لهفة لنٍص.. لحبٍر بمذاق اللبن!”؛ يرتبط مفهوم الخصوبةً بطبيعة المرأة المنجبة؛ فألم المرأة الجسدى المعبّر عنه ألٌم منتٌج بطبيعته، يولد منه كتابة منجبة بطبيعتها. فالجرح خصب منتج يسعى إلى لّم شمل الذات المتشظية نفسيًا وجسديًا على السواء. فتعبُر البطلة من أزمة إحساسها بأن رحمها قبر للأطفال كما تقول عن ابنتها: “خرجت من مقبرتى إلى مقبرتها”، ثّم إلى الشك فى مقدرتها على الإنجاب على الرغم من تغيير الطبيب والخضوع لأجهزة حديثة وتوخى وقت التبويض من الشهر لإغواء زوجها إلى أخيًرا محاولة التصالح مع جسدها وقبول فكرة الموت والتفكير فى الحياة من جديد، تقول: “ربما أكون قد خضت حقًا لعبة موت مشابهة. وطقوس اختبارات أخرى تقتل الخوف والدهشة الفزعة. لم يبق سوى اكتساب مناعات الفقد والقدرية المستسلمة والتّرقب”.

ومن ثّم، يدفع ألم الفقد البطلة إلى إعادة اكتشاف جوانب أخرى فى الحياة، مثل قِصر الحياة والتخلص من بعض الأصدقاء القدامى، الاهتمام بولدها “شهاب الدين” الذى تخشى عليه الفقد أيًضا حتى من اللعب الصبيانى مع الفتيات، التخلص من العمل الحكومى الرتيب وتأليف كتاب جديد، كما قال لها مديرها بالعمل: “تولدين من جديد وسط شلالات الألم”.

وأخيًرا، تقّدم رواية “دنيازاد” بُعًدا ما بعد حداثيًا، تجتمع فيه المتناقضات والثنائيات الضدية لتناقض نفسها، فالحياة تولد من باطن الموت والتحول يخرج من باطن الخوف. وهناك دنيازاد ميتة وحية فى نفس السياق؛ واحدة مفقودة وأخرىُمنتجة، وهناك “الحرملك” ـ سجن الموت ­ والذى يتدّمر داخليًا ويتحول إلى ملاذ وخلاص عبر حرملك “كتابة الجسد”. وهو ما يعّد طرًحا جديًدا لفكرة الحرملك، ليس فى تقديمه كمكان روائى تعانى فيه المرأة ويلات الأسر، وإنما ممثلاً للحالة النفسية بالدرجة الأولى.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم