خفة الحكاية وبلاغة العبث في “حالة شجن” لأحمد رجب شلتوت

حالة شجن
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. محمد المسعودي

         إن من يقرأ الرواية القصيرة الأولى -(نوفيلا)- “حالة شجن” للكاتب المبدع المصري أحمد رجب شلتوت ستلفت نظره سمة جوهرية في بناء هذا النص السردي القصير، وهي سمة “خفة الحكاية”، والمراد بالخفة هنا مُضي السرد في إيقاع سريع وتدفق ممتع وتشكل عوالم متخيلة طريفة، على الرغم من أن الرواية تتمحور حول حدث فظ ثقيل، وتُصور واقعا دراميا كالحا في سياق أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية مختلة، تعمل الرواية على كشف سوادها. ولعل منطق العبث، والأفق السريالي القائم على المفارقة، ولعل تشعب الحكاية المحورية وانبثاق محكيات صغرى من صلبها، مكنا الروائي من جعل نصه يتميز بالحيوية، والقدرة على شد المتلقي إلى عوالمه المتخيلة، وإلى شخصياته الروائية وهي تخوض تجربتها وتبحث عن أفق ممكن لحياة سوية. فأين تتمثل “خفة الحكاية” في هذا النص؟ وكيف تُسهم بلاغة العبث بسماتها الفنية في تشكيل هذه الرواية؟

         يضعنا السارد منذ بداية النص في أتون تجربة الواقع، ويطلعنا على معضلة شخصياته وهمومها وما يثير شجونها. وهو بذلك يصنع أفقا لحكاية يمكن أن تتميز بالمأساوية والعمق الدرامي، غير أن هذا الأفق، وعلى الرغم من الشجن الذي يرتبط به يخلق هامشا كبيرا للمفارقة والسخرية. ومن جوهر المفارقة، واستنادا إلى السخرية نجد أنفسنا أمام وقائع عبثية، وأمام حالة سريالية تحياها شخصيات هذه الرواية مما يميز النص بخفة وحيوية كبيرين. وبذلك تمكن السارد من تحويل حالة الشجن إلى حالة هزلية ترمي إلى شجب ما يجري في الواقع وتفكيك منطقه العبثي اللامعقول.

         تحكي الرواية عن أسرة تعيش أوضاع اقتصادية مضطربة في ظل ظروف اجتماعية مختلة. وهكذا تُفتتح الرواية بحوار يجري بين الأم والجدة وبين الابن السارد حول تمكين الأخوات من مصاريف مواسم معينة، فكل من الرجال الثلاثة ينبغي أن يتكلف بمواسم أخت واحدة من الأخوات الثلاث المتزوجات، لكن جمالا ومحمدا يجادلان الأم والجدة مؤكدين أن كل الشهور العربية مواسم، وأن متطلبات هذه المواسم لا تكاد تنتهي. وفي ختام الحوار تعلن الأم أن محمدا والابن الأكبر جمال (السارد) “بتاع نسوانهم”، وأن ابنها الشهم هو الأصغر في ترتيب الأبناء “غريب” الغائب الذي لم يعد بعد من أحد الأسواق التي يتردد عليها باعتباره بائعا جوالا.

         وهكذا تنتقل الرواية من فضاء البيت والحوار الدائر بين محمد وجمال (السارد) وأمهما وجدتهما، لتدخلنا إلى عوالم البحث عن “غريب” المختفي الذي خرج منذ الفجر ولم يعد. وهو الرجل المضبوط المواعيد بحيث يخرج عند الفجر مصحوبا بدعوات الأم والجدة، ويعود مع العصر، ولم يحدث أن عاد بعد غروب الشمس.

         كان اليوم أربعاء، وأسواق الأربعاء متناثرة قبلي وبحري، و”غريب” لم يخبر أحدا من أسرته أو أصدقائه بوجهته. ومن ثم تبدأ رحلة البحث من دون وجهة محددة ولا تصور مضبوط. وهذه أولى علامات الأفق العبثي الذي ستنبني عليه أحداث الرواية، وتشكل أفقها السريالي القائم على المفارقة، والمتسم بالسخرية. وسيتبلور هذا البعد في الوقائع التي تحكيها الرواية وتُصور رحلة السارد (جمال) رفقة سائق التاكسي (عنتر) وهما يتنقلان بين أقسام البوليس ومراكز الشرطة وينظران إلى جثة ميت في مشرحة أحد المستشفيات. وقد كشفت هذه الرحلة عن زيف بعض الشخصيات ونفاقها، وصدق بعضها الآخر وإخلاصها. ومن خلال تجلية المتناقضات تصنع الرواية مفارقاتها وتبعث مسحة من السخرية تصل حد الفكاهة والكوميديا السوداء التي يرام بها الاحتجاج والرفض.

يقول السارد:

         “.. في كل مكان نرى الضابط الذي يشرب الشاي بالحليب في قسم الجيزة. كان فقط يغير لون عينيه ومشروبه. يشرب القهوة أو الشاي بدون حليب لكنه هو نفسه. قد تنطفئ السيجارة بين أصابعه أو تشتعل لكنه هو نفسه..” (الرواية، ص.42)

         بهذه الشاكلة يقدم السارد صورة كاريكاتورية عن ضباط أقسام الشرطة الذين يتشابهون في السمات والتصرفات إلى درجة تبعث السخرية وتكشف عن مفارقة بين ما يروج من ادعاء خدمة المواطن، وكيفية التعامل الفعلي مع هذا المواطن. فالسارد جمال قوبل من ضابط قسم الجيزة برفض النظر في لائحة المساجين بقسمه، ونفس الأمر حصل في أقسام ومراكز أخرى القليوبية والقناطر وسوق الباجور وإمبابة وغيرها من الأماكن. وبذلك تكشف الرواية عن عبث في الممارسة الإدارية، يزكي عبث الوضع الذي تجد الأسرة نفسها خاضعة إليه في ظل ظروف اقتصادية وأوضاع اجتماعية مضطربة، وبذلك يصير هذا الوضع السريالي وضعا عاما وحالة يومية تعرفها كل الأماكن والفضاءات التي تمر بها رحلة السارد خلال بحثه عن أخيه.

         ففي المستشفى سيقف السارد عند حدث البحث عن ملف تسمم تلاميذ تم تذكره بعد مرور شهرين على وقوع الكارثة ولم يتم الاهتمام بها حتى اللحظة. وبهذه الكيفية نقف عند مظهر آخر من مظاهر العبث في الحياة ليشمل أوجها عدة لمتاهة السارد، وهو يكتشف اضطراب الواقع من حوله. وتتمثل قمة الدرامية الممتزجة بالمفارقة العبثية لحظة الدخول إلى المشرحة للتعرف على جثة ضحية حسبها عنتر والسارد (جمال) بأنها جثة أخيه “غريب”، يصور السارد هذا المشهد بقوله:

“.. لما أرانا بدوي الجثة المنكفئة على وجهها قال عنتر:

-هو.. هو غريب.

صرخت ملتاعا. قفزت معانقا الجثة. انكفأت عليها. واصلت الصراخ. صرختي كأنها حُملت بكل عذابات غريب وإحباطاته، فخرجتْ وكأنها شوك ينزع من أحشائي. يمزقها. ولما حاولت تقبيل الوجه شعرت بالشارب الكث، انتبهت، أخي غريب لم يكن ذا شارب. أدرت الوجه. لم يكن هو.

وحينما ارتطمت بأرض المستشفى سمعت صوتي يهتف:

-ليس هو.. ليس هو..” (الرواية، ص.60-61)

              عبر هذه المفارقات يتمكن السارد من شجب ما يجري وتعرية ما يحمله المجتمع من أدواء وفضح ما يعج به من اختلالات. وبهذه الكيفية يقف هذا المشهد العبثي على فداحة ما يحدث في ظروف غير سوية. وعن طريق سوء الفهم، واضطراب المشاعر، واختلاط الأوضاع، وغياب المنطق تتولد الحالة السريالية التي تطفو على سطح الرواية، وتُحول ثقل ما تقف عنده إلى خفة عبر محكياتها الطريفة. ومن هنا تتولد “خفة الحكاية” التي تنسج عوالمها عبر نصوص قصصية عدة تتعلق بالسارد (جمال) وأسرته، وفي أثناء بحثه عن أخيه الضائع، من جهة، وترتبط، من جهة أخرى بشخصيات أخرى تنبثق من مسار الحكاية الكبرى لتشكل موتيفات جديدة تزكي البناء الفني للنص وتمنح متخيله تنويعات تخرج به من ثقل ما يصوره إلى آفاق أخرى تتسم بالفكاهة والسخرية والمفارقة لتكشف كنه العبث المستشري في حياتنا المعاصرة.

         وهكذا يجد القارئ نفسه أمام قصص صبية بجلابيب بيضاء حاول ضابط إلصاق تهمة الإرهاب بهم، بينما دافع عنهم ضابط مباحث باعتبارهم مسالمين من جماعة “التبليغ والدعوة” ولا خوف منهم، لكن ضابط القسم أصر على كتابة محضر لهم والاحتفاظ بهم يوم أو يومان “للتسلية”. كما تنبثق حكاية هاني مع جمال السارد، وحكاية خطوبة “غريب”، وحكاية مرعي صديق جمال السارد، وحكاية فؤاد وغريب وبسيمة، وحكاية غريب وزينات.. وغيرها من المحكيات الصغرى التي أسهمت في منح النص حيوية وحركية منحته القدرة على التشويق وإمتاع المتلقي، وبالتالي تنويع الإيقاع السردي للحكاية الإطار: حكاية البحث عن “غريب” في مساربها العبثية السريالية.

         انطلاقا من كل ما سبق نتبين أن الرواية القصيرة الأولى للمبدع أحمد رجب شلتوت اشتغلت بالسخرية والمفارقة والكوميديا السوداء لتصوير واقع كالح وأوضاع مختلة تصل حد السريالية. وقد استندت في تشكيل عوالمها إلى بلاغة العبث، وهي بلاغة توظف إمكانات فنية متنوعة من بينها تشخيص النقائض وكشف المفارقات التي تعج بها الوقائع البسيطة التي يمر بها الناس. وقد استطاع الكاتب عبر حكايته الخفيفة الظل وبلاغة العبث تجلية الواقع الثقيل في مختلف تجلياته، وبهذه الفنية المتقنة تمكن من تشويق المتلقي وشده إلى “حالة شجن” تتحول في أكثر من سياق إلى صور سريالية ومواقف عبثية بينة. وبالتأكيد أن فوز هذه الرواية بجائزة إحسان عبد القدوس للرواية عن سنة 2008 يرجع إلى تميزها بخصائص فنية ومحتوى غني أهلها لنيل الجائزة. وبالتأكيد أن القارئ يتطلع إلى نصوص أخرى للروائي والكاتب أحمد رجب شلتوت تغني تجربته الإبداعية السردية.

……………………

*أحمد رجب شلتوت، حالة شجن، الثقافية للنشر والتوزيع، تونس، 2019.

 

مقالات من نفس القسم