خفة الإشارة ووقر الواقع في “وجوه عارية” لجمال السعيدي

موقع الكتابة الثقافي writers 71
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. محمد المسعودي

إن الأدب الرفيع تلميح وإشارات، ورموز تنضوي طي حكايات قد تبدو صريحة ومباشرة، غير أنها تختزن أبعادا لا تكشف عنها سوى كثرة القراءة، والتمرس بالبحث عن مكامن الجمال بين السطور. ومجموعة “وجوه عارية” للقاص جمال السعيدي من الأعمال القصصية المغربية التي تنتمي إلى هذا النمط من الأدب، بحيث صيغت نصوصها فنيا لتكون قطعا إبداعية خالصة تتسم إشاراتها برشاقة الجمال ورقي الفن مع عمق الدلالة ورزانة المحتوى وأبعاده التلميحية والرمزية. وعلى الرغم من أن هذه الإضمامة السردية /القصصية، هي الأولى لصاحبها، إلا أنها تكشف عن نضوج إبداعي وفكري بيِّن، وعن تمرس جلي بالكتابة القصصية.

ولعل أبرز لمحة من ملامح هذه الكتابة السردية ما أسميناه خفة الإشارة، أو بالأحرى مكر التلميح. وهي سمة نجدها منذ القصة الأولى “حب في العتمة”، بل نلمسها في عتبة هذه القصة، في عنوانها الحامل لشتى التلميحات، والذي يخضع لتعدد في فهمه وقراءته من لدن القراء، وبالتالي يفسح أفاقا كثيرة للتأويل.

إن الأحداث ترتبط بالعتمة، بالظلام، لكن الإشارة في عمقها تجعل من العتمة حالة ذهنية ونفسية تعيشها بطلة القصة من جهة، نظرا إلى أن حبها الأعمى قادها لتصير صيدا سهلا لعصابة تتخذ من سرقة العاملات بابا للكسب. وهذا العمى والظلام هما سمتان للشباب الذي فقد كل قيم الفتوة والرجولة والإنسانية، لتصبح أرقى قيمة (وهي قيمة الحب) وسيلته للاحتيال على الآخرين وسرقتهم ونهبهم. ويلح السارد على اغترار الفتاة بالحب الموهوم وتصديق الحبيب والتفكير فيه حتى في أشد لحظات خوفها واضطرابها. يقول السارد في المشاهد الأخيرة من القصة:

“.. بكت جميلة وهي تسمع صراخ حبيبها، ورفعت عينيها الزائغتين إلى “حسن كَنَدا” وقد أمسك شعرها بعنف وانتهرها آمرا:

-انتزعي كل هذا!

ووضع الشفرة على جيدها الأبيض مشيرا إلى الذهب المتلألئ وسط الظلمة. استجابت جميلة في خنوع، والنحيب يخنقها.. بينما لا زال صوت احميدو يصدح بالأنين تحت “اللكمات” وتهديد السلاح الرهيب.. بعدما سلمت جميلة مدخراتها من أعوام الشقاء في المعامل، فاجأها القصير “كَنَدا” بصفعة أفقدتها توازنها، وصاح بصوت مخيف:

-هيا !اغربي.. هيا!

استعادت توازنها. تلكأت قليلا وهي تنظر إلى احميدو، تريد أن تطمئن على مصيره، فجاءها صوته أقوى من الآخر:

-اهربي! اهربي!

انطلقت جميلة تهرول في الظلمة بساقين خائرتين، تسبقها دموعها، والنحيب يضغط على أنفاسها. لا تبكي حظها، ولكن تبكي حبيبها! !”(وجوه عارية، ص.14-15)

وهكذا كانت الإشارة في خفتها تخفي وعيا فادحا بثقل الواقع ووقره المهول على النفوس والأرواح الشابة التي استُلبت إلى حد جعل أسمى عاطفة في الوجود أحط مدخل إلى كسب المال، وخداع الآخرين.

ولعل هذه الإشارة الخفية إلى حضور الظلام وتداعياته الرمزية تلقي بظلالها على جل نصوص الكتاب، بحيث صار الواقع المعاصر يتنفس برئة العتمة، وينغمس في أعماق سديم لا يكاد ينتهي. إن هذا الظلام الذي كانت ضحيته بطلة قصة “حب في العتمة” نلفي امتداده في قصص: ميمون في قلب العاصفة- والمجنون- والخواف- والحلوف… وغيرها من نصوص المجموعة، إذ نعثر على تنويعات كثيرة تجلي عتمة النفوس، وظلام الأرواح، وتردي الواقع في أفق فني راق، وبإشارات سردية ماتعة.

27459710 1625987710782013 7906632105465876428 n

تطلعنا قصة “ميمون في قلب العاصفة” على مفارقة شخصية ميمون وغرابتها، وأثر فشل زواجه، وسوء سمعة زوجته السابقة في نفسه، مما جعله يكون سببا في تراجع الشاب سفيان عن خطبة سعاد حينما لجأ إليه الشاب سائلا مستفسرا عن سلوك الفتاة التي يُزمع أن يقترن بها، وعن طبيعة وسطها الأسري. وبسبب عتمة نفس ميمون، وسرعة انفعاله، وغضبه ألقى بنفسه في “العاصفة”: عاصفة غضب أسرة جاره سي المفضل وما جرته عليه من ويلات. والعاصفة ظلام آخر وسواد سينضاف إلى الحي الذي لا يقل ظلاما بتردي القيم فيه وتراجعها. يقول السارد مصورا هذه العتمة/ الغضب الذي يعتري ميمون:

“.. سفيان بدا حريصا على معرفة المزيد عن هذه العائلة. كان قلبه يتآكل كلما فكر فيما ينتظر سعاد من ألم، ومدى احتقارها لشخصه، إن هو تخلى عنها هكذا، دون سبب وجيه. تمنى لو يجد عند ميمون ما يريحه، ويعيد إلى نفسه السلام.

قال ميمون ببراءة: هم أناس طيبون، والفتاة لا تشوبها شائبة.

حقا؟.. أقصد هذا رأيك؟

طبعا هذا رأيي

صاح سفيان بضراعة كأنه لم يسمع الإجابة:

أستحلفك بالله! صارحني.. لوجه الله!

رد ميمون بفتور وقد عادت إليه طبيعته الشرسة:

ألم تعجبك إجابتي؟ ما الذي تبحث عنه؟

أن تصدُقني القول.. لا بد أن هناك ما تطلعني عليه.

تجعدت جبهة ميمون واحتقن وجهه من الغضب، وثبت على مخاطبه نظرة متقدة كالجمر، وخرجت الكلمات من بين أسنانه بطيئة متباعدة:

اسمع هذه الأسرة لا تناسبك، هي أسوأ أسرة في هذا الحي. هل ترضيك هذه الإجابة؟ هذا ما تريد سماعه؟

اتسعت عينا سفيان، وارتفع حاجباه، وعلت وجهه ابتسامة كشفت معدنه الرعديد، وأرغمه صوت ميمون الهادر على التراجع إلى الوراء..”(وجوه عارية، ص.57-58)

وهكذا نجد السارد يوقع موتيفاته السردية انطلاقا من هذه الإشارة الرمزية الدالة. إننا، هنا، أمام حالة من غياب ضمير ميمون، وعدم مراعاة لحقوق الجيران، وللقيم المعهودة في مثل هذه الحالة التي وجد نفسه أمامها. وبهذه الشاكلة يبين السارد اختلال المجتمع، واضطراب كل شيء فيه بسبب عتمة تلف كل النفوس وتلقي بكلكلها على واقعه.

وفي قصة “الحلوف” نجد مستوى آخر من مستويات ظلام الواقع، وعتمة الأرواح والنفوس. إننا أمام حالة من استشراء الخوف والرعب من النماذج الخارجة على القانون من أصحاب خريجي السجون والسوابق الإجرامية. فإذا كانت هذه النماذج قد سقطت في بئر الظلام، ولم تعد تبحث عن النور، فإن الناس الآخرين كل يعمه في عتمته، أو في عماه خوفا وهلعا وكفرانا بقيم التعاون والاتحاد لمواجهة الشر، وإعادة نشر معاني المحبة وقيمها الاجتماعية. وتكشف هذه القصة عن دلالات عميقة تبين مفارقة الواقع المعاصر وتناقضاته، فإذا كان رجل السلطة (الشرطي)، وهو إحدى شخصيات القصة يسعى إلى مساعدة جاره والوقوف في وجه المعتدي/المجرم، فإن صاحب القضية والمعني بالأمر يتصرف بجبن، ويحسب العواقب الوخيمة. وبهذه الشاكلة يجعل المجرم يفلت من العقاب، ومن ثم يستمر في غيه وطغيانه وظلامه. يقول السارد مصورا هذه اللحظة المضحكة المبكية في مشهد دال:

“… أمسك المفتش مراد بساعد السي المختار وهمس في أذنه:

-ألديك هاتف في البيت؟

تطلع إليه الرجل بعينين متسائلتين، فتابع مراد:

-سوف أطلب الشرطة !

رفع السي المختار يديه فوق كتفيه كمن يريد التكبير، وقال في ضراعة:

-لا داعي للشرطة. الحمد لله، لم يحدث ما يدعو للشرطة.. ! !

ركز المفتش عينيه على محدثه غير مصدق، ونبض عرق غليظ على صدغه الأيمن، ثم صرخ في وجه الرجل دون تحفظ:

-وما الذي تتوقع أن يحدث بعد كل ما حصل!؟

وتابع ساخطا، ويداه تتحركان في كل اتجاه:

-ألا ترى الأرضية الملطخة بالدم؟ ألا ترى هؤلاء، وقد قفزوا من أسرتهم مروعين.. وبابك أنت، ألم يكن ينقصه سوى ضربات كي يسقط فوق عيالك! !؟

قاطعه سي المختار بصوت أقرب إلى الهمس:

-كل ما في الأمر أنني لا أحب المشاكل.. !

فصاح به المفتش:

-يبدو أن لا أحد غيري يحب المشاكل!

واتجه صوب الحلوف، وأمسك بمعصمه يريد تخليصها من القيد. عندها صاح الحلوف بمكر:

-أنا أريد الإسعاف.. أنا أريد الشرطة! ! “(وجوه عارية، ص.99-100)

انطلاقا من وقوفنا عند هذه الأمثلة القصصية الثلاثة في مجموعة “وجوه عارية”، نلفي الكاتب جمالا السعيدي قد أشار فأحسن الإشارة، وعبر فأجاد العبارة عن واقع إنساني معاصر. وهو في وقوفه عند عتمة الواقع وظلامه يكتب غياب القيم وتراجع الأخلاق وسقوط الحب في شرنقة عتمة نرجو أن ينفك منها.

وعلى الرغم من انشغال الكاتب بهذه العتمة الضاربة أطنابها في كل شيء من حولنا، إلا أن نصوصه غنية بنور الجمال، نور الفن والإبداع، فتحية له، وننتظر منه مزيدا من الإبداع الجميل الذي يهزم جيوش الظلام التي تكاثرت في شتى مناحي حياتنا: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

…………………

*وجوه عارية، جمال السعيدي، منشورات سليكي أخوين، طنجة، 2018.

مقالات من نفس القسم