خرج ولم يعد

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فصل من رواية: هاني عبد المريد

الاسم   : ناجح تيسير عبد الواحد

السن   : 29 سنة

العنوان : مسجد التوبة – حى الزرايب – منشأة ناصر

متغيب من يوم   10/4/2003

يرتدى بنطلون أسود وقميص رمادى

من يجده يتصل بتليفون : 3411521

وله الأجر والثواب عند الله

 

*      *      *

هكذا سيُتم الشيخ تيسير محوك ، والسخرية من كيانك ، ولتأكيد ذلك قد يضيف

” ويعانى من حالة نفسية ” أو ” متخلف عقليا “

بالتأكيد كتب الصيغة بنفسه ، ولم يبخل على طباعتها ، ونشر أولياءه بها لتوزيعها على حوائط وأعمدة إنارة القاهرة ..

قد يكون رفض كل ما سبق ؛ لتأكده أن غيابك ليس بالغياب الطبيعى ؛ فأمثالك قد تخسف بهم الأرض فجأة ، أو تأتيهم صاعقة من السماء ، لذا فلا أمل من البحث ، ولا طائل من دموع أمك ، التى تسمع من إحدى الجارات عن شيوع عصابات تطحن جماجم الناس لتضيفها لمسحوق الهيروين ، فتزداد حالتها سوءا وإصرارا على مقاطعة الزاد ، حتى تصبح كهيكل عظمى حزين.

(2  )

لعل ما كنت تخشاه قد حدث بالفعل ؛ أن تصبح ذاكرتك صدئة ” كحصالة ” طفل فقير .. تتزاحم بداخلها أرقام لأحداث لا تذكرها ..

أرقام بأحرف مدببة تنغز كل جسدك ، تتدافع فتوقف عقلك عن التفكير وتجعل شرايينه على وشك الانفجار .. لتتطاير فى كل مكان أرقام بلا حكايات أو صور ، ولا يثبت بذاكرتك سوى معلومات قليلة عن أرقام لا مبرر لحفظها ..

– 1904 الوفاق الودى بين بريطانيا وفرنسا

– 0126143898 موبايل يحيى ، الذى لم يعد يطيقك ، ومن الممكن جدا أن تكون   صورتك محيت تماما من ذاكرته .

– 20/1 تاريخ ميلاد ريم التى لم يتبق منها بذاكرتك سوى بريق عينيها .

–  146 ارتفاع الهرم الأكبر.

فى موقف كهذا يبدو جليا أهمية ما سبق فعله بالمسامير ، وأعواد الكبريت التى تكرر وجودها فى عجينة خبزك ، ومن سيرى جدران الحجرة الآن يعرف فورا

أنك من أحفاد الفراعنة ؛ بجانب الصور كل التفاصيل منقوشة ..تصلها ببعضها أسهم و رموز طلسمية .

الآن سنقف مبهورين ، كيف نقشت فى السقف وأعلى الجدران بكل هذه البراعة ،

وأنت لا تمتلك سوى قامة قصيرة ؟! الآن سنتساءل كبلهاء ، هل من الممكن أن يقف رجل على أحزانه بهذا الشكل ؟!!

( 3 )

قد لا أكون خارق الذكاء، لكننى أيضا لست غبيا.. فلا شىء يأتى بى إلى مثل هذا المكان الموحش، سوى عقاب ، عقاب بشرى قاس ؛ فالله لا يعاقب أحدا فى الدنيا، أنا أعى ذلك جيدا، مؤمن ، أعلم أن هناك آخرة بها جنة، ونار.

فى الدنيا نحن الذين نعاقب بعضنا البعض.. نعذب أنفسنا بأنفسنا، ثم نموت لندفع ثمن كل ذلك ..

هل أنا الآن ميت ؟ هل هذه هى الآخرة ، وهذا هو العذاب ؟

 

لكننى لم أمت ، لم تصدمنى سيارة ، ولم أدخل غرفة عمليات ، حياتى كاملة أذكرها ، لم أغب عن الوعى ، وإن كان الشيخ تيسير يرى العكس ، أننى لم أفق أصلا من الغيبوبة طوال حياتى ، وأن الويل لى عندما أفيق ، وها أنا فى ويل ، فهل كان على صواب؟

هل تفكيره الخرافى، وخداعه، وتمسحه فى المظهر صواب ؟

لو كان الأمر كذلك لكان بالتأكيد سبب بلائى تلك الورقة الحقيرة ، التى أخذتها من الشاب الأعور .. ساعتها ظللنا سويا ننتظر قدوم المصعد ، كانت عينه العوراء تجاهى ، رموشها مبللة ، مغروسة داخل العين المغلقة فى الأساس .

من حين لآخر يدير رقبته مركزا عينه السليمة نحوى ، فيصيبنى الارتباك..

قبل تسجيل رقم دورى ، سألته عن دوره ، لأسجله نيابة عنه …

” تفضل يا أخى ، ربما يكون فيها الخير الكثير بإذن الله “

هكذا نطق بلغة عربية فصيحة ، وهو يناولنى ، ورقة( A4 ) استخرجها من بين طيات ملابسه .. تناولتها .. وهو فى طريقه لمغادرة المصعد ، قال :

” انسخها قدر المستطاع ، واهديها لمن تحب “

حاولت القراءة ، كانت الكلمات باهتة ، متآكلة الحروف ، وخيوط الحبر الأسود الطولية تملأ الورقة .

 

بسم الله الرحمن الرحيم

أعز إلى المسلمين والمسلمات هذا الشىء لقراءته:

هذا الخطاب موجه من المملكة العربية السعودية إلى كل المسلمين فى أنحاء العالم من الشيخ أحمد خطيب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

” أنه فى يوم الجمعة ، بعد ختم القرآن الكريم ، نام ، وفى منامه رأى الرسول يقول له :

فى هذا اليوم مات ( 6000 ) مسلم ، ولم يدخل أحد منهم الجنة ؛ فالزوجات لا تطعن أزواجهن ، والأغنياء لا يساعدون الفقراء ، والناس لا تؤدى المهام المطلوبة منهم كما ينبغى ، ولا يصلون بانتظام .. والشيخ أحمد يقول لكم : لا يصح هذا إن كنتم مسلمين حقا… وكل مسلم تقع هذه الورقة فى يده يقوم بنسخها على الأقل( 10 ) نسخ ، وسوف يعود ذلك عليه بالخير ، ومن يهمل أو يستهزئ بذلك ، سوف ينال عقابه من الله  “

كان مصعد المستشفى قد توقف بى ، وعندما لاحظت ذلك ، وضعت الورقة فى حقيبتى ، ومضيت فى طريقى لزيارة زوج عمتى الراقد فى غرفة للحالات الحرجة .

فى طريق عودتى قرأتها مرة أخرى ، فوجدته فى آخر الورقة يقول ، أن هذه الرسالة وهبت لثلاثة أشخاص :

الأول : تعامل معها بأن أعطاها إلى سكرتيرته ، وطلب منها أن تنسخها ( 30 ) نسخة ، وبعد عدة أيام من توزيعها ، فتحت له أبواب الرزق .

الثانى : تعامل معها بأن حفظها فى درج مكتبه ، ونساها ، وبعد عدة أيام فصل من عمله، فتذكرها ، ونسخ منها ( 20 ) نسخة ، ووزعها ، فتم تعيينه فى وظيفة أعلى .

الثالث: تعامل معها بإهمال شديد ، ورماها ، فتوفى بعد عدة أيام من موقفه هذا .

ضحكت كثيرا من هذه السذاجة التى تتناول بها الرسالة الأمور ، بالتأكيد كتبها واحد مثل أبى ، أو أتباعه ، الذين يعتقدون أنهم خدم الدين ، وظلال الله على أرضه .

” يا واد متقلش كده ، يمكن الشيخ أحمد ده ولى ولاحاجة “

هكذا قالت أمى وأنا أحاول إقناعها بأننى لوأعتقدت فى هذه الورقة أكون قد هدمت روح الدين ، وتحاول هى إقناعى بأن ، ثمن العشر نسخ خمسون قرش ، لن أخسر شيئا لو ضحيت بها .

أتذكر الآن – والآن فقط – أن ساعتها التليفون رن معلنا وفاة زوج عمتى ، المريض منذ شهرين ….

لماذا لم يمت إلا فى تلك اللحظة ؟ هل كان الموضوع جادا ؟

أعرف أن الكون فسيح ، وأسراره أكبر من أى إنسان ، هل كنت أنا الجاهل ؟!

نعم .. جاهل .. فماذا كنت سأخسر ، لو فعلت كما قالت أمى ، ورميت الورقة والخمسين قرشا لأى مكتب تصوير مستندات ، وجعلت الكرة فى ملعبه ، يتحمل هو النتيجة بدلا من رميتى فى هذه الحجرة المظلمة .

هى ذنوبى السبب .. لم لا ؟!!

 لكننى لم أقتل ، أو أسرق ، لم أفعل أشياء كثيرة يفعلها الناس ، لماذا أنا الذى يأخذ بذنوبه، الله يعلم أننى لم أكن أرتكب الفعل ، ربما عشت على أفعال الآخرين ، فماذا فى ذلك ؟

من تريد الصعود ، تدفع ، لم أجبر أحدا على شىء ، هذا فقط ما كنت أفعله ، العرب أسخياء ، يعطونهن بلا حساب ، لماذا لا ينوبنى من الحب جانب .

كنت جالسا لحفظ الأمن .. شاب أخضر العود ، حديث التخرج ، قبلت أن أعمل بوابا.. نعم ، قد يقال ، فرد أمن ، أو موظف استقبال ، لكننى فى النهاية بواب ، يجلس على باب العمارة الفخمة ، حيث البرد ، ورذاذ المطر ، وأسيادى  بأعلى مستمتعون .

دخلت العمارة ، بكل ثقة .. حينها اعترضتها ، فقط لأخاطبها – كانت باهرة – ، قالت إنها فى زيارة للشقة ( 104 ) ، لم أكن أعرف أن ذلك يعنى شابا عربيا هائجا ، يقيم بمفرده . 

 

حتى لو عرفت ما كنت سأتصور سبب زيارتها .. فى عودتها عاملتنى بسخاء ، أعطتنى ما يساوى ربع راتبى الشهرى ، كنت ممتنا لها ، لم ألبث طويلا حتى تجمعت كل الخيوط فى يدى ، حفظت أرقام الشقق المفروشة بالعمارة .

أصبحت آخذ بثقة .. دون خجل ، آخذ و أعرف أننى أعطى أكثر ..

أقبض وأنا ” ألاغى ” ، وأغمز ، ويقسمن دوما أنهن لايفعلن بأعلى شيئا أكثر من الرقص، وتبادل النكات القبيحة .

قالت إحدى المراوغات ، إنها ستعطينى فى رواحها آخر الليل ، ثم ادعت أنها نفسها لم تأخذ شيئا ، تكرر ذلك منها مرة واثنتين ، طبيعى أن أمنع صعودها فى الثالثة .. هددتنى

” أنت مش عارف أنا طالعة فوق لمين ؟!! “

أتذكر .. صوتها الواثق يرن فى أذنى ، لكننى تمسكت بموقفى …

 ذهبت ، وإن كانت وقفت عن بعد ترهبنى ، حدثته من تليفونها المحمول ، لكننى أدرك أنه – أيا كان –  لن يفعل شيئا ؛ فمن بأعلى لا يريد أى خسائر ، يود أن تصله البيضة مقشرة ، يأكلها ، وينكر بعد ذلك أى صلة بها ، لذلك أغلقت تليفونها ، رمقتنى بنظرة نارية .. ورحلت.

 

حينها شعرت بانتصار وزهو، جلست إلى مكتبى وأنا أتابع خطواتها العصبية التى أبرزت جمال مؤخرتها،  مرددا بداخلى:

” يالله وجع فى قعرك ، أحنا هنفتحها سبيل “

رحلت ، وعذبتنى ..  بالتأكيد وحدتى هذه بسبب توصية منه ، أو منها .

كان يجب أن أكون أكثر مرونة ، ماذا يحدث لو تركتها تصعد ، ومن لا تدفع مرة واثنتين، ستدفع فى الثالثة ، ولو لم تدفع على الإطلاق ماذا كنت سأخسر ..

هو مخى الوسخ السبب ، مخى الذى جعلها بالخارج منتصرة ، مستدفئة ، ومانحة للدفء ، وجعلنى هنا وحيدا ، تعيسا ، بين أربعة جدران قاسية .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فصل من رواية كيرياليسون .. صادرة عن دار الدار القاهرية

 

عودة إلى الملف

  

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون