خرائط التيه .. رحلة الفقد تكشف قسوة العالم

خرائط التيه .. رحلة الفقد تكشف قسوة العالم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تعبر"بثينة العيسى" في روايتها الأخيرة (خرائط التيه) إلى الضفة الأخرى، تتخلى عن كل ما سبق وتبدأ من جديد في ضفةٍ أخرى مغايرة تماماً عمَّا ألفناه منها . بُثينة هُنا تُعطي درسًا قويًا وصعبًا في كيف تجعلك تقرأ رواية في حدود الـ 400 صفحة دون أن تشعر بالملل؟

قد لا أعتبر أن هناك فكرة رئيسية للراوية بل هم عدة أفكار تجاورت ليقدموا عملًا مميزًا مختلفًا، أليمًا، غير معتاد في تحولاته .

 

تدور الرواية في إثنين وعشرين يومًا منذ اختفاء الطفل “مشاري” من والديه وحتى عثورهم عليه ، الجهد المبذول في الرواية مميز في أن تكتب بحرفية عن أماكن لم تطأها قدمها . العديد من الحكايا، التفاصيل، بل إن إسلوب بُثينة هُنا مختلف، الأسلوب بسيط وسلس، طريقة سردها، انتقالها بين الحاضر والماضي ، لقطات “الفلاش باك” بكل سلاسة، على غير المعتاد من لغتها الشاعرية وأسلوبها المميز، ولو أنني أحبه ، إلا أنها تركته هنا وحل محله أسلوب بسيطًا أكثر واقعية واصطدامًا بالواقع .

جاء أختيارأسماء الفصول بعناية، ذلك أن “بثينة” تهتم دائمًا بالتفاصيل الصغيرة . .

تبدأ الرواية بفصل “نفير”: وهو يوم النفر “حركة الحجاج” في مكة من مِنى، وهو أيضًا بداية الحرب، وكأنها تريد أن تقول “إنها بداية المعركة “.

 تبدأ الأحداث في مكة أثناء أداء فريضة الحج! بداية البحث عن إبرة في كومةٍ كبيرةٍ من القش ، لا الزمان أو المكان يساعدان أويهونان من أمر البحث بل يزداد تعقيدًا . . في المصائب إما تتكاتف الدنيا معك أو تتكاتف ضدك ، ماذا ستفعل هنا وأنت وحيد وضعيف وخائف؟ “إنما الصبرُ عند الصدمة الأولى ” (حديث شريف) ماذا ستفعل؟ هل سترتد على أعقابك ؟ أم تصبر أملاً في أن النور سيأتي قريبًا وستنقشع الغمة؟

 تطرح بُثينة الموقفين في عرضٍ متناغم، فهاهي الأم “سمية” أخذت تبتهل وتصلي وتدعو، فيما يرفض الأب “فيصل” حتى  أن يصلي، الأم تذوب في الله وتشعر بروحها تعلو لأعلى حتى أنها صارت لا تشعر بأي ألم ، والأب يسقط في فراغ أسود . .

يأتي الفصل الثاني “هجير” وهو المجهور والمتروك، والغليط الضخم من حُمر الوحش ، وهو الحر الشديد في النهار .

تكتب “بثينة” عن قضايا مختلفة هذه المرة، في ظل هذا التيه، هل نعتبر هذا تقصير من البلاد ؟ أم أن الأمر برمته صعب في ظل وجود ثلاثة ملايين حاج؟ . حالات من الترقب لأي إشارةٍ قد تفيد بشيء، معلومةً ولو صغيرة، الدقائق تمر كالسنين، يتوقف الزمن في لحظة العثور على طفل ميت أو مصاب قد يكون هو ، القلق من أن يكون هو ، الراحة والخوف في آنِ واحد حين التأكد أنه ليس هو، الخوف من أن يكون في حالة سيئة . ثم الوصول إلى تلك الحالة المُميتة من التمني “لو أنه مات” هل هناك أسوأ من أن يموت ولدك؟ أحيانًا نعم .. الموت راحة، ربما لو مات ارتاح مما هو فيه ، ربما لو مات كأي ميتةٍ طبيعيةٍ ربما يكون أهون ، لكن إن علمت أنه تعذَب ، ثم اقتطعت أعضاؤه وسرقت ثم تركوه حتى مات .. لاشك سيكون هذا أسوأ!

تطول لحظات الانتظار لساعات، انتظار ما لا تعرفه ولا تتوقعه أيضًا ، تتركك وحيدًا لترسم آلاف السيناريوهات والافتراضات السيئة جدًا التي ربما حدثت لأبنك وأنت واقف عاجر عن فعل شيء، عاجز أيضاً على ولو أضعف شيء أن تجد جثته . .

سعير: وهي النار . .

تكتب بُثينة عن عالمٍ آخر، عالم العصابات لكن من الداخل، وليست مجرد لمحة عابرة، تذكرهم بنوعٍ من التفصيل، تذكر الخاطفة وهي تستعيد ذكرياتها وهي طفلة كيف عانت كثيرًا ، كيف لا تعرف لها أهلاً، وكيف كانت تعتني “بجرجس” كأخٍ صغير لها ، كيف كبرا معًا وكيف يتحوَّل عنها الآن، تتذكر كيف أرغمت في صغرها على صب البلاستيك الساخن في أعين الأطفال حتى اعتادت الأمر، كانت طفلة مسكينة حتى تحولت إلى أخرى متوحشة .. فقط لتستيطع العيش .. ذكر المختطفين من جانبِ إنساني وهم برغم وحشيتهم – بشر أيَضًا . .

عسير : مدينة بالسعودية ، وهي الصعوبة والشدة .

في الشدائد يجافينا النوم وإن أتى أتى مخادعًا، تصحو لتظن أن كل شيء على ما يُرام ، تظن في بادىء الأمر أن كل ما حدث ما كان إلا كابوسًا وأن حياتك طبيعيةٍ جدًا ولا شيء يعكر صفوها تنسى تماماً ما حدث، فجأةً يباغتك الواقع بوحشيةٍ وأن ما حدث ما كان كابوسًا بل واقعًا أسود وما نومك إلا فاصل قصير كاذب مخادع، راحة زائفة . . تقول: ” الزمن ليس حليفًا لك الزمن هو العدو ” كل لحظة تمر جيدة لظروف الآخر وسيئة لك، التأخر ليس مصلحتك، التأخر يجعلك تبتعد أكثر عن هدفك خطواتك ليست في سرعة الطرف الآخر إنه يسبقك، الزمن أسرع عندك منه، الكل تخلي عنك حتي الزمن . الزمن يمضي لا يتوقف مهما أردنا ، الزمن يمضي ويمضي معه من نحب وأوقاتنا معهم، الزمن لا يرجع للوراء  أبدًا، فقط يركض للأمام وحده وإما أن تلحقه أو أنه سيدهسك!

 مسير: هو السَّير والمسافة . في التيهِ تريد أن تمضي قًدمًا ، لكنك لا تستطيع أو لا تقدر لا ضعفًا لا عجزًا فقط لا تدري من أين تبدأ تريد شيئًا واضحًا فقط كي تمسك به، تركض خلفه فيُنير باقي الطريق، شيء واحد فقط يعطيك ولو أملاً معلقًا كاذبًا أنك – قد تنجو – أملاً بأن كل شيء سيسير على ما يُرام، أملًا واحداً فقط أنك قد تعثر على ما تريد. ” أريد تلك الإشارة التي تعلمني المُضي ” (سركون بولص) لو أن دليلًا واحدًا يظهريدل أين هو، لو أن شيء واحدًا يظهر حقيقة يمكن الإمساك به ، لا مجرد شيء لا يمكن العثور عليه.

نذير: هو علامة وقوع مكروه ، هاجس بحدوث شيء سيء

تفقد الأشياء قيمتها أو جدواها تدريجيًا، النشرات الإخبارية، الشرطة، منشورات ورقية، انتشار على “السوشيال ميديا” فجأة كل شيء يصبح عقيمًا وبلا نفع ، كل ذلك يقف عاجزًا دون أن يؤثر فيما تريد العثور عليه، العالم واسع جدًا وأنت صغير جدًا ضعيف جدًا ولا تعرف الطريق . .

كيف تتحول الأحداث الجيدة والنوايا الجيدة لأشياء تعيسة ومصائب ، سمية وفيصل كانا يؤديان فريضة الحج وضاع أبنهما ؟ وكيف يتحمل المرء نتيجة أفعاله إن لمست أطفاله؟ كيف تغفر لنفسها أنها هي السبب؟ كيف تتخلص من الصوت داخلها “لو لم تصر على إحضاره معهم؟” كيف يستطيع أن ينظر لها زوجها دون أن ينفعل؟ أو أن يقتلها؟ أو يضربها مثلاً لأنها السبب؟ من المُخطيء هُنا؟ هل هي لأنها أحضرته؟ هل لأنها أفلتت يده؟ أن هو لأنه سبقها ولم يمشي معهما؟ هل الأطفال حقًا يدفعون ثمن أفعال آبائهم ؟ كيف يستطيعا ألا يفكرا بشيء؟ يرددان فقط أن ما حدث ما كان له إلا أن يحدث هكذا دون التفكير بأشياء كثيرة ؟ هكذا وابنهم مفقود؟ 

نعير: هو صوت الصراخ في الحرب أو في لحظات الكوارث

بثينة تضرب في عدة اتجاهات بحرفية تامةٍ دون أن تشعر أن هناك حشوًا أو ما كان ينبغي لها أن تذكر هذا “محمد أكبر” الهندي الذي فقد ابنته “مريم” الذي لم يتفاعل العالم معه كما تفاعل مع مشاري ” الكويتي ” الأمر هنا ليس أمر جنسيات، أنه أمر فقر وغنى .. إنه العالم بواقعه المؤلم دون أي زيف، الفقير لا مكان له، كمٌ مهمل، عددٌ زائد ليس أكثر، ابن آدم لا قيمة له، النقود هي التي تصنع القيمة، لا مال لا قيمة .. أنت غير مرئي . .

هدير: هو تردد صوت الرعد ، صوت الحمام ، وقدوم سيارة

الأمل المعلق يقتل أحياناً، الأمل الذي لا يتحقق يتبعه أذى وخيبات ، الخيبات تنخر في الروح ، الروح التي لُسعت من الأمل كثيرًا لن تأمنه مرة آخرى، سيحل محل الضوء ظلام . .

سرير : هو ما ينام عليه ، وهو نعش قبل أن يحمل عليه الميت .

تقول: ” كيف يمكن أن تحضَّر نفسك لكارثة ؟ ” كيف يمكنك أن تتحمل بكل ثبات أن مصيبة ستحل بك وأنت بالأساس بمصيبة ؟ أن تتحمل أن الأسوأ لم يأتِ بعد وأن كل الأفكار السوداء التي تراودك نسبة حدوثها عالبة جدًا ، كيف يمكنك ألا تسقط أرضًا في إنتظار السقوط الأكبر بكل ثبات ؟ .

جزير: هو الجزار أو اللحام . منطقة أخرى تطئها بثينة وهي تتحدث عن العصابات المنتشرة ، عن الذين يتسللون إلى البلاد ، عن المتروكين هكذا دون عقاب ، كيف تكون مخابأهم معروفة ويتركوا هكذا يسعون فساداً؟ كيف تترك منطقة دون أي نوع من أنواع التأمين؟ هل هو تقصير أم إهمال؟ بُثينة لا تطرح الأسئلة، بثينة تروي فقط وتجعلك تخبط رأسك . .

نشير: ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن .

الأطفال الذين يعيشون مصائب ما ينضجون أسرع ، يتغيرون أسرع ، مشاري الصغير الذي وجد نفسه وقد تغيَّر عندما بدأ يأكل ما كان يرفضه من قبل ، الشدائد تجعل منك شخص آخر ، الطفل الصغير خانه إدراكه رغم ذلك لم يجعله يتوقع أبدًا أن الأيام تُخبىء له الأسوأ . .

جرير : حبل يُقاد به .

أفكر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأتساءل كيف يصلي نظام بانتظام دون أن يؤرقه ما يفعله بمشاري ؟ أليس هذا فحشاء أيضًا ؟ بُثينة تلقي دروسًا متنوعة دون أن تتفوه بشيء، تلقي لك الخيط فقط ، الصلاة صلاة الروح لا الجسد، لقد صلي بجسده لا روحه ، ربما لذلك لم تنهاه عن فعل شيء . . تقول : ” الناس يرون ما يريدون رؤيته ” حتى وإن كان لا وجود له ، حتى وإن لم يره أحد سواهم، الأشياء تنبع من داخلنا، نصدقها لأن شيئًا ما داخلنا يريد ذلك، شيء ما يرى ذلك ، شيء ما يريد أن يترك حمله عن فكرة داخله وأن يصدقها فقط ليُريح نفسه . . تقول : “ليس من حقك أن تعطي طفلك أمانًا كاذبًا ” الطفل الذي وعدته بأنك دومًا” هُنا ” لحمايته كيف ستفسر له تركك إياه في الطوفان وحده ؟ كيف تفسر تأخيرك عنه ؟ كيف يغفر لك ؟ وكيف تغفر لنفسك؟ وكيف تشفيه مما حدث له ؟ وكيف تزرع به أمانًا مرة أخرى ؟ .

مصير: ما ينتهي إليه .

” لماذا أنا؟” السؤال البائس الذي يتبادر إلى الذهن عند أي شدة ، السؤال الذي سأله فيصل لنفسه وربما كان هو البداية لما آل إليه أمره ، لماذا انا بالذات؟ لماذا لقد كنتً أؤدي فريضة الحج فأخذ مني ولدي؟ إنها البقعة السوداء التي يصل إليها الإنسان بعد أن استحال طلبه وزاد يأسه ولم يعد يرى نورًا على مرمى البصر، بعد أن سلك الطرق ولم تؤد لشيء، عندما يهتز الإيمان ويرتخي اليقين، يرتخي للحد الذي يقفد كل شيء معناه ولا تدرك إلى أين تذهب ؟ إن كان الله يُحبني لماذا يفعل هذا معي ؟ ولماذا لم ينجدني إلى الآن؟ أسئلة بنهاياتِ حادةٍ سوداء . كيف ينتشل الإنسان نفسه إن سقط في فراغ أسود ؟ إن لم يعد يرى ؟ إن اهتزت كل مفاهيمه ؟

نُمير : هو الماء العذب . أبتعدت بُثينة عن أسطورة النهايات السعيدة، ربما لأن بالواقع لا نهايات سعيدة إلا لماماً، النهايات السعيدة أسطورة أدخلتها إلى عقولنا الأفلام والروايات وبالواقع لا وجود لها، هل عاد ؟ نعم . لكن بعد ماذا ؟ أشياء تكسَّرت في غيابه ، أشياء اختفت ، النهاية السعيدة لم تكن بعودته ، ما جدوى عودته بعد ما تعذَب وبعد كل ما مر به ، أنه سيظل وقتًا طويلاً حتى يصبح طبيعيًا، ما جدوى عودته وأباه سقط في حفرة سوداء، وأمه “تدروشت”، لا شيء يعود كما كان ، وإن عادوا، لن يعود شيء كما السابق ، الحل الوحيد لوقوع النهاية السعيدة هو ألا يحدث كل هذا ، وهذا ليس بالإمكان بالطبع لأن الزمن لا يعود للوراء والعقل لا زِر له نضغطه فيُمحى كل ما حدث من الذاكرة، ما كُسر وتهشَّم قد تهشم بالفعل .. ربما بعد وقت طويل قد تبدأ المياه بالعودة لمجاريها لكن ستكون هناك ندوبًا محفورة لن تُمحى بسهولةٍ أبدًا . .

 هل كل ما روته بُثينة جديد؟ أو خيال ؟ لم نمسعه من قبل ضمن الكثير من المصائب التي تروى حولنا كل يوم ؟ الأمر فقط انها جعلتك تعيشه، جعلتك جزء منه ، بُثينة هنا أعادت رسم خرائط كتابتها أو رسمت حدودًا جديدة لها لقد آلمتني وأبكتني هذه الرواية. لكني أحببتها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( الأسماء المذكورة بمعانيها هي أسماء الفصول التي ذكرتها بُثينة العيسى في الرواية)

 

 

مقالات من نفس القسم