حين تبكي الأفيال

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سادي، أنثى فيل صغيرة السن وخجول، في أثناء تدريبها على أحد عروض السيرك وجدت مشقة في إتقان المطلوب منها، وأخيراً ركضت خارج الحلقة، مضطربة، لكنهم أعادوها وعاقبوها بالضرب على جانب الرأس بعصا كبيرة، وصاحوا فيها بأنها شديدة الحماقة، فراحت سادي وهي راقدة على جنبها تصدر نهنهة وسالت دموعها، وهي مسألة نادرة ومشكوك فيها بين الأفيال. ذهل المدربون، وعانقوها وصالحوها، فسرعان ما تعلمت الحركات الجديدة. هذه على الأقل الحكاية كما يرويها المدرب جورج لويس في كتابه رحلة الفيلة، عام 1955، ولعلّها أيضاً مصدر عنوان هذا الكتاب (حين تبكي الأفيال – الحياة الوجدانية عند الحيوانات)، والذي صدر عن الهيئة العامة للكتاب، سلسلة الألف كتاب الثاني، في ترجمة مضبوطة العيار لأستاذ إبراهيم محمد إبراهيم، ولن يكون من العسير العثور على نسخة منه سواءً ورقية أو الكترونية، هذا إن لم يكن أغلبنا قد اشتراه بالفعل ثم نسيه دون قراءة، مضيّعاً متعة اكتشاف أسرار عديدة تخص جيراننا الصامتين على هذا الكوكب. 

حكاية سادي الباكية ليست إلّا واحدة من مئات الحكايات الصغيرة التي يحتشد بها هذا الكتاب، الذي كان ثمرة تعاون جيفري ماوساييف ماسون، وسوزان ماكارثي، ولقى استقبالاً ورواجاً عند صدوره أول مرة عام 1996، إذا لم يسبق لكتابٍ آخر، ربما منذ عمل داروين (التعبير عن العواطف لدى الإنسان والحيوان)، أن سبر أغوار هذا الطيف الواسع من النماذج الحيوانية بهذا القدر من الإحاطة والعمق. ولعلّ القارئ المنحاز للخطاب العلمي، ونبرة اليقين التي لا يأتيه الباطل فيه، لن يشعر بالرضا عن درجة واضحة من انعدام اليقين في أغلب تجارب الكتاب، والإفراط في استخدام”ربما، ومن المحتمل، وقد يكون…”، لكن الوصول لنتائج حاسمة ونهائية في مسألة مثل انفعالات وعواطف الحيوانات ما زال طموحاً بعيد المنال، وإذا اعتمدنا على الحدس والتجربة والملاحظة لن نتردد كثيراً في قبول الخطاب العام للكتاب والذي يؤكد أن أغلب أجناس المملكة الحيوانية تتحلى بطيفٍ واسع من مشاعر وعواطف وانفعالات، لا تكاد تبتعد كثيراً عمّا يملكه بنو آدم. بدايةً من تلك الانفعالات الأوضح كالخوف والغضب والحب والحزن والانتقام، إلى درجات أدق وألطف وأشد التباساً كالتضحية والإيثار والغيرة والخجل والإحساس بالمقدس والإنتاج الفني. وبعيداً عن التعاطف المفرط مع جيراننا الصامتين من ناحية، والتعامل معهم كمواد خام للمنفعة المباشرة من ناحية أخرى، فلا شك أن الكتاب يمثّل رحلة شيّقة تستحضر أواصر قديمة بين الإنسان والحيوان، تتردد أصداؤها في كثير من الملاحم والحكايات الخرافية، ويمتلئ بحكايات مذهلة، لولا التوثيق لظن القارئ أنها ملفقة تماماً، فإلى جانب سادي هناك المئات من الحيوانات والطيور الأخرى، مثل موجو، النمس اللعوب الذي كان يراقص السناجب، وتوتو، الشيمبانزي الذي تعهد بالتمريض والرعاية مراقبه البشري الذي ضربته المالاريا حتى استعاد صحته، ثم آلكس، الببغاء الرمادي الإفريقي الذي بلغ حداً لا يصدق من إتقان اللغة، حتى أنه صاح قائلاً، حين أخذوه بعيداً عن مكتب طبيبته البيطرية التي ضايقها كثيراً: “تعالي إليّ! أنا أحبك. أنا آسف. أريد أن أعود.”

الأمثلة بلا نهاية، فماذا لو كسرت تلك المخلوقات، على غرار ما فعل آلكس، حاجز اللغة الذي يحول بيننا وبينها، ماذا ستقول عن كل ما نعرّضه لها، ناهيك عن اعتبارها مجرد غذاء، من مجازر ومسالخ وإجراء اختبارات علمية بالغة الشدة أحياناً؟ الرافضون لأفكار الرفق بالحيوان كثيرون، وبينهم علماء أجلّاء، لا يتصورون تقدمّاً بغير قسوة، وسنجد الكثيرين من أمثالهم يتخذون الموقف ذاته تجاه البشر، لا الحيوانات، لا يتصورون انتصاراً بغير سفك الدم. لقد أبدى بعض الضواري علامات العرفان والخجل أمام فريستها، حين تناول أحد الأسود وجه الظبي ولعقه برقة وعناية كما لو كان يفعل مع أسدِ آخر حميم، لكن بعض البشر قد يجد ألف مُبرر وجيه لالتهام أخيه حيّاً.

مقالات من نفس القسم