حول الفن وعصبيات قراءته.. 1

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كتبت: فاتن نور

 

السؤال عن الفن، عن قراءته وفهمه، تذوقه والتفاعل معه؛ يحيلنا الى السؤال عن الجمال، وعلم الجمال "الاستطيقا"، الذي ظهر بمعنى "فلسفة الجمال" لفهم الظواهر والخبرات الجمالية وتفسيرها، في القرن الثامن عشر؛ في مؤلف الفيلسوف الألماني بومجارتين "تأملات فلسفية في ماهية الشعر".

 

وقد خاض الفلاسفة والمفكرون، الأدباء والفنانون، القدامى والمحدثون؛ في ماهية الجمال وسؤاله الملح “ما الجمال”. هل هو موجود موضوعيا لذاته فيما ندركه من موجودات، أم هو صورة عقلية كصورة الخير والشر. والشق الأخير هو ما ذهب إليه أفلاطون وثلة من الفلاسفة. فيما ذهب الفيثاغوريين الى التماثل والنظام في فهمهم للجمال، وذهب سقراط الى ربط الجمال بالأخلاق والعدالة والخير والمنفعة. وفي عصر النهضة رأى كانط الجمال أو النشاط الجمالي بشكل آخر، فهو اللعب الحر للخيال العبقري من وجهة نظره.

 

وقد يطول الحديث حول سبر الجمال وتنظيراته. فكل ما قيل صحيح لحد ما بتقديرنا، لانزياحه عن نسبية الإدراك الحسي والعقلي، وإسقاطاته على طبيعة فهم المُدرَك وتذوقه بما يشيعه في النفس من سرور وألم، أو قبح وجمال. وهذي ثنائيات متداخلة ومتصلة لا ينقطع حبلها السري، متغلغلة في التركيب السايكولوجي والبنيان المعرفي للمُدرِك.

وثمة فرق بين الجمال والمكون الجمالي للفن، فهذا الأخير غير مرئي بصريا، لكنه يبعث انفعالات حسية جميلة، كالدهشة والرغبة في الاستكشاف والمغامرة، التأهب للتأمل ومساءلة الذات والآخر.

لوحة “الصــرخة” للفنان النرويجي: “ادفارد مونــك” على سبيل المثال، لوحة بشعة بمقاييس الجمال الشكلي أو الظاهري، لكنها حافلة بالمكونات الجمالية التي تشعرنا برهبة وجودية، بغموض وقلق يحفزان على الاسترسال والتأمل. فالجمال قد يُبعث من القبح إذا تضمن الأخير في ثناياه مكونات جمالية. ويصح هذا في الثنائيات المتضادة، وهي في الحقيقة وحدات متصلة كما أسلفنا؛ كثنائية الخير والشر، والسرور والألم.

عود الى بدء، سؤال الجمال يحلينا بدوره الى سؤال الحرية، لأزلية العلاقة الوظيفية الخلاقة بين هذه الأقانيم الثلاثة لو جاز لنا التعبير..الفن والجمال والحرية..

وقيل في معارج الزمان: الحرية معبد الفنون.. والحرية أم الفنون

تصديق ما قيل يحفزنا على التساؤل، وبعد تصديق جان جاك روسو:

كيف تمخضت البشرية إذن، عن فنون راقية وهي مكبلة بسلاسل العبودية على مر العصور..

كيف خرّجت عظماء في شتى الفنون، في النحت والرسم والموسيقى والشعر وما إليه؛ رسخوا في الذاكرة الجمعية..

أين وجد فنانو المجتمعات المقهورة معابد حرياتهم فأبدعوا، وأنتجوا فنا رفيعا، وأسسوا مدارس فنية تتبنى نظريات شتى فلسفية وسايكولوجية، كيف نظرّوا في الجماليات تحت سقوف كالحة، لا تستر أفضية الشرور والدمامة.

هل فعلا الحرية معبد الفنون، أم أنها مقولة واعدة من مقولات الفنتازيا الفكرية الخلاقة..

لا يحار المرء في الإجابة عن تساؤلات كهذه لو تسنى له فهم الحرية، وعلى أنها وقبل أي شيء؛ إنعتاق من الداخل، إصغاء يقظ لما لا يمكن سماعه، تحديق متواصل بما لا يمكن رؤيته، إصرار دءوب على الخلق من العدم، ولو في عالم مصغر..عالم الأنا.. عالم نشأة الحرية وترعرعها..

 

أن يتمرد إنسان على نفسه، أن يقوى على تحريضها لعتق نفسه من نفسه؛ سيخلص الى تشييد معبد حريته الخاص. ويكون قد أعد نفسه للخلق والإبداع ولو في مجتمع تكبله السلاسل، ولو في بطون المعتقلات والسجون أو على أقفاء الجحور الموحشة. سيهرع للتماهي مع الفنون وتحسّسها بشكل أفضل، خالٍ من العصبيات المدمرة لآفاق العقل البشري اللامحدودة، واسراءات الذات الهائمة بين الحقيقي والمتخيل. فمهما ابتعد الإنسان عن واقع بيئته المعاش الى واقع آخر حقيقي أو متخيل، أقترب- أدريا أو لا أدريا- من واقع بيئته بما يسقطه عليه هذا الواقع من مخاضات بالغة التعقيد؛ محطما، أو متصادما معه أو هاربا منه، مزحزحا إياه الى ضفة أخرى يريدها، وبما تجترحه ملكات ذاته المعرفية والسايكولوجية. ولسايكولوجيا الفنان الأثر الأبلغ على منجزه الفني، ولسايكولوجيا القارئ بالمقابل، الأثر الأبلغ في طبيعة قراءته وتذوقه.

يمكننا القول هنا، أن لا وجود لمتخيل مطلق فيما أنجزه الإنسان منذ بدء الخليقة، وربما أساطير الشعوب  والأمم خير مثال. فهي من الهزيع الملبد التكوين لإسقاطات الواقع، ومحاولة لتشكيله من نقطة البدء، تحليله وفهمه، صياغته بشكول غرائبية خارقة؛ متخيلة من مسوسه (أي الواقع). ولو صح ما نقول، فتجريد أي عمل إبداعي متخيل من مسوسه الواقعية، أو نبذه لفقد الواقعية أو التقليل من قيمته؛ لا يبدو سويا.

وقد أتفق الباحثون المنظرون في الفن، على أنه غاية بذاته و جوهر، ولا يحتمل فرض الغرض عليه. أو تحييده لتحقيق أغراض غائية محددة. وإذا كان لابد من الوقوف على غرض الفن وغايته، فبتقديرنا ما ذهب إليه “هيجل” صحيح لحد ما، إذ رأى الهدف النهائي للفن لا ينفك عن إيقاظ النفس والروح، ودفع الواقع الى مثاليته أو روحانيته.

فنسخ الواقع والطبيعة، لا يُعد فناً إبداعيا بنظر الكثير من الفلاسفة مثل أفلاطون وأفلوطين وهيجل وكروتشه على سبيل المثال لا الحصر. فرغم ما تتصف به النسخة من جمالية، يبقى الأصل أفضل دائما، أدق وأكثر حيوية. و رغم العلاقة الوثيقة بين الفن والجمال، فليس كل جميل نعده فنا بالضرورة. ومن جهة أخرى، إذا كان في الواقع والطبيعة حيوات متنفذة توقظ النفس والروح، فنسخها نسخا نقليا الى عالم الفن لا يحرر قيمة مضافة على مستوى الإبداع الفني ما لم يُزحزح النسخ النقلي الى نسخ تكويني يغير طبيعة الواقع أو طبيعة الطبيعة بشكل أو آخر، و بما يزرعه الفنان من عاطفة وخيال لخلق المكون الجمالي إضافة للجمال  الطبيعي المنسوخ عن الواقع أو الطبيعة. والذي عده هيجل (أي الجمال الطبيعي) أول صور الجمال السانحة التي تحفز الملكات الوجدانية والعقلية على خلق مكونات جمالية مبتكرة في المنجز الفني.

و الفن بصفته غاية لذاته، أرفع من أن نحيله الى مدونة من مدونات التاريخ المنهكة بأغراض وغايات متصادمة. ولا يصلح لـ “سموه وجوهريته” للتسخير كـ ذاكرة تاريخية تعصف بها الأيديولوجيات المتصارعة. ويصلح بتقديرنا كـ مدونة أو ذاكرة روحية خلاقة لا تمسها العقلانيات الصارمة ولا تترجمها.

ما يعتمل في الداخل الإنساني من شعور بالخير والشر، بالجمال والقبح، و بما ينزاح عن هذه المنظومة  الهائلة المتضادة، المتداخلة والمتراكمة زمنكانيا، وما يضطرم في عمقه من مكنونات اللاشعور والذات الجريحة؛ تسري به الروح خارج زمنكانيته أو داخلها، لتسقطه في عالم ساحر ..أسمه الفن..

لقراءة هذا العالم الساحر دون أن نهتك سحره بعصبية ما، ثمة ضرورة الى “ذكاء تذوقي”، قد يفتقده الكثير من الأذكياء.

فثمة “عصبيات” تضاهي العصبية القبلية قد تبدو محمودة، لكنها أشنع منها بتقديرنا، ليس لما لها من آثار سالبة في التعاطي مع الآخر، مع المجتمع والعالم وحسب؛ فتأثيرها على قراءة الفن وتثمين الطاقات الإبداعية المُحررَة في عوالمه؛ أكثر شناعة. فالفن الذي يعده الثقات الكبار ملاذا للإنسان منذ القدم ولغة عالمية سامية بهويتها الإنسانية، لا يساق الى “غاية” تخدم بيت العصبية أو صعيدها، ولا يكرس كوسيلة عقلانية أو منطقية لبلوغ غاية غير غايته.

وإذا كان لابد من (تبجيل) الفن بغاية دخيلة لتعذر فهمه كجوهر وغاية، فلتكن غاية الفنان نفسه فيما يريد، ومن نسيج جوهره الوجودي والوجداني؛ وليس غاية مفروضة. فالفن بصنوفه، غريم القيود والفروض والإملاءات الخارجية، هذا لو صدقنا أن الفنان لا يشتغل ويبدع إلاّ في معبده الخاص، معبد حريته وأناه المتحررة، فلا يرى العالم من حوله إلاّ  كما يريد أن يراه، ومثلما يريد أن يفلسفه أو يتصوره. فلا غلو في وجود علاقة صميمية بين الفن والفلسفة.

نختم هذا الجزء بمقولة شاسعة الدلالة لأشهر رجالات النهضة، الفنان ليوناردو دا فنشي:

” الرجل العاقل يكيّف نفسه مع العالم، بينما الرجل الغير عاقل يصر على تكييف العالم وفقاً لنفسه، ولهذا كل تقدم.. يعتمد على الرجل الغير عاقل.”

سنحاول في الجزء الثاني الوقوف على بعض الصُعد لعصبيات منظورة، كثر ما يصار الى فلسفتها – بذات العصبية – إلى قيم إنسانية راقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لوحة “الصــرخة” للفنان النرويجي: ادفارت مونــك – 1893م.

ــــــــــــــــــــــــــ

خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار