حول الأحكام الأخلاقية في الأدب والنقد

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

كراهية قديمة – أذكرها  دوما بشيء من الفخر, ولعلي لا أعرف لها سببا حتى الآن- جعلتني  في وقت مبكر من حياتي, أنفر من كل أشكال النقد التي تنطوي على أحكام أخلاقية,كنت أراها دوما أحكاما خارج الأدب. ومازلت أظن  أن أغلب الذين يطلقون هذه الأحكام – دون وعي منهم- هم من المؤمنين بنظرية المحاكاة في الفن,والتي انتهت الآن من  العالم.

الفنان أو الكاتب- فيما  أعتقد- لا ينقل الواقع أو يحاكيه, هو بالأحرى يقوم بعملية تفكيك لهذا الواقع ثم يعيد تركيبه مرة أخرى وفق  وجهة نظره  .

 والنقد  كالإبداع – في  تصوري الشخصى -, كلاهما  شكل  من أشكال  التأمل في التجربة الإنسانية ذاتها, وكلاهما  أيضا لا ينمو إلا بالتساؤل المستمر لمنجزه .

وتبدو المناهج النقدية بالنسبة إليَّ مجرد أدوات- فحسب- تضمن  طريقة النظر إلى النص الأدبي وتقود إلى إنتاج معرفة به,غير أن النقد  الأدبي قد ينحرف  أحيانا عن مهمته الأصلية ويصبح مجرد أحكام أخلاقية,وهي أشبه بآراء عامة القرَّاء غيرالمدربين على  قراءة الأعمال الأدبية ذات الطبيعة الخاصة.

قد يعتنق بعض النقاد مثلا بعض الأحكام القيمية التي تنبع من المجال الأخلاقي، وإن بدت أحكامهم كأنها تنقد العمل (كأن  يحكم ناقد أدبي مثلا على رواية أو قصيدة لم تعجبه بأنها عمل قبيح  يشيع الرزيلة و يروج للانحراف الأخلاقي , وكأن القرّاء مجموعة من القصرلا أندادا لكاتب العمل ,ومن الممكن أن يتفقوا  أو أن يختلفوا مع الآراء  التي يطرحها عليهم في نصه. والناقد هنا في حقيقة الأمر يمارس نوعا من الوصاية ولا يتعامل مع العمل الأدبي بوصفه منتجا جماليا، وإنما يكتفي  بإصدارأحكام قيمة ليبين وجهة نظره الأخلاقية. وبعض النقاد يخلط أحيانا- دون أن يدري – بين موقفه الأخلاقي و بين حكمه الجمالي برداءة العمل الفني أو ركاكته.  

ربما يرجع  أيضا هذا-  فيما أعتقد- إلى  أننا لم نتلقَ التربية الجمالية القادرة على خلق القيم الإستاطيقية التي تمكنا من الحكم على الأعمال الأدبية, فأساس الأحكام الإستاطيقية يعتمد – فيما رأى الفيلسوف النمساوي فيجنشتاين (1889 – 1951م) مثلا-على نظام من المبادئ يصعب إدراكه بالكلمات. فما نحتاجه أولا هو المعرفة الجيدة ، المهنية. الأمر الذي يجعل الناقد أو القارئ أشبه بالصيرافي القادر على تمييز العملة,أو بالعارف الذي يملك سرّ بنية العمل الفني ويتعرف ، حدسا ، على آلياته.

لعل هذا ما دفعني  مثلا للإعجاب  بآراء ناقد قديم هو “قدامة بن جعفر”(ت 337هـ) , أوردها في كتابه”نقد الشعر”, ربما لأنه تخلص  من النزعة الأخلاقية في نقده , إذ انطوت آنذاك على نضج  مبكر, حيث  دعا إلى فصل الأدبأو الشعر عن الأخلاق, ودافع عن جماليات الشعر وانتصر لحرية الشاعر ,ووقف ضد من هاجموا قصيدة امرئ القيس التي تقول:

فمِثْلُكِ حُبْلى قد طرَقْتُ ومُرْضِعٍ * فَأَلهيْتُها عنْ ذِي تَمائِمَ مُحْوِلِ

إذا ما بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ *    بِشِقٍّ وتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَوَّلِ

لم يرَ مهاجمو قصيدة  امرئ القيس فيها  أبعد  من كونها  مجرد  قصيدة ماجنة و مليئة  بالمغامراته الجنسية الفاحشة ,فيما رأى قدامة بن جعفرأمرا آخر ودافع عنها  نقديا-  ولعله  سبق عصره  حين استخدم ما أصبحنا نصطلح عليه هذه الأيام بـ “جماليات القبح”.

استند  قدامه في دفاعه النقدي على  ذريعة انفصال مادة الشعر عن لغته بتشبيه الشعر بفن الصياغة أو النجارة, ذلك أن الحكم النقدي ينبغي أن ينصب على عملية تشكيل المادة وتصويرها لا على المادة نفسها. ومن هنا, فإن جودة المادة أو رداءتها لا ترفع من شان عملية التشكيل والتصوير, ولا تضع من قيمتها كما , بمعنى أن الحكم النقدي في مجال الشعر ينبغي أن يتركز في الصياغة اللغوية وعنصر التصوير لا في الفكرة أو المعنى, وأيا كان المعنى أو كانت الفكرة ,فإن العبرة في جماليات الأسلوب وجودة الصياغة والتصوير, ومن ثم فهو يستحسن قصيدة امرئ القيس التي أشرتُ إليها.

وعلى  النقيض من موقف قدامة بن جعفر,  صدمني  الموقف الأخلاقي الذي  هيمن على المقالات النقدية للكاتب إبراهيم عبد القادر المازني(1890– 1949م)  (التي نشرها المجلس الأعلى للثقافة مؤخرا ضمن أعمال الكاتب غير المنشورة) خاصة  أن المازني  كان واحدا من شعراء عصره المثقفين الذين قرأوا التراث العربي جيدا و احتكوا- في الوقت نفسه- بالثقافة الغربية ونقلوا عنها.

 مقالات المازني جعلتني أدرك أن خصوم طه حسين   – حتى المثقفين منهم- كانوا أقل منه بكثير,ويكفي أن أذكر رأيين  من آرائه النقدية- فقط-  هنا مما خص بهما طه حسين بنقده ,حتى وإن  كانت آراؤه  تلك سبيلا لتصفية حساباته مع عميد الأدب العربي.

الرأي الأول,عاب المازني على طه حسين فيما ذهب إليه من آراء في كتابيه”حديث الأربعاء”,حيث وصفه بأن له ولعا  خاصا- يعكس  غرضا في نفسه – بتعقب الزناة والفساق والفجرة والزنادقة حين تعرض للعصر العباسي ودرس-  بشكل خاص-  شعر الشعراء وما كان يجري في مجامعهم من حديث, خاصة أن طه حسين  قد رأى أن هؤلاء الشعراء كانوا أصدق تمثيلا لروح هذا العصر من الفقهاء والمحدثين وأصحاب الكلام, وأن هؤلاء العلماء على ارتفاع أقداراهم العلمية ومنازلهم الاجتماعية والسياسية,وعلى أن كثيرا منهم كان ورعا مخلصا طيب السيرة, لم يأمنوا أن يكون من بينهم من شك, كما  شك الشعراء.

 الرأي الثاني , وهو  يخص  موقفه  من  المعركة التي خاضها طه حسين مع بعض نواب البرلمان “السعديين”آنذاك بسبب كتابه “في الشعر الجاهلي”.

ورغم أنه رأى أن  رغبة”السعديين” في الانتقام من طه حسين كانت هي المحرك الأساسي في المعركة وأن مطالبهم سوف تشجع على انتشار الفوضى, وأنه تدخل غير جائز في القضاء , إلا أنه- في الوقت  نفسه – شن هجوما عنيفا على طه حسين  وعلى الكتاب وما به من آراء وحاكمه بمنطق الأخلاق  لا بمنطق الجدل مع  به من أفكار, فوصفه بأنه كتاب يمس العقائد,بل إنه تأسف على  وجود نقص بالقانون  المصري جعل إفلات طه حسين وأمثاله  من العقاب أمرا سهلا ,وأن  محاكمته يجب أن تكون من اختصاص الجامعة المصرية, مثلما فعل الأزهر مع الشيخ علي عبد الرازق؛فقد نظر في أمره علماء الأزهر,فقرروا استنادا إلى قانون الأزهر, إخراجه من زمرة العلماء,وترتب على ذلك فصله من وظيفة القضاء التي كان يشغلها.

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار