حميد العقابى: حتى العقرب ..تنتحر

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

" الفئران " كرواية عن تجربة السجن والاعتقال مغموسة فى الفانتازيا تتدرج من بدايتها التى تُذكّر بنَفَس ماركيزى أكيد إلى عوارض سريالية . قرب نهاية العمل كأنما أتممت دائرة أو دورة كاملة تشبه الحياة وعذاباً يجل عن الوصف فتكرر فقرات من البداية ثم تحرر عملك ليمنح القارئ نهاية متفائلة وإن غرائبية . ضاق الشعر وحده والسرد وحده عن حجم تجربتك ؟ 

بلا تبجحِ أو إدّعاء أقول، أنا غير مقتنع بأغلب ما يكتب من روايات، فأنا أرى أن جنس الرواية ماضٍ إلى الزوال، على الرغم مما نراه من اهتمام واسع، بل إن هذا الاهتمام هو الذي سيسرّع في نهاية الرواية كجنس أدبي، وما يدعوني إلى هذا الظن هو اتجاه الرواية في خط انحدار نحو الشعبوية بسبب ترهل بنائها ورخاوة زمنها، فستتحول ( في أوروبا تحولت ) إلى فن شعبي كحال القصيدة حينما تتحول إلى أغنية أو شعار سياسي. ربما بشيء من النزق أقول إن أي فن يسعى إلى موته حينما يتخلى عن نخبويته، فيتحول إلى أداة لقتل الفراغ أو لاستجلاب النعاس. لذلك أنا أسعى ( أو أطمح ) إلى كتابة رواية بشروط القصيدة، ليس من ناحية البناء الهندسي الصارم أو اتساع مساحة التأويل فحسب، وإنما بقلب المعادلة تماماً، فقد اعتاد القارئ أن يحكم على نجاح أو فشل الرواية من خلال ما تشيعه من وهمٍ يدفعه إلى تصديق ما يقرأه على أنه الواقع مكتوباً، وذلك بتنميط الشخصية وبنائها الذي يسعى إلى المطابقة مع الواقع. أنا أسعى إلى إخراج الواقع من واقعيته، لتبقى الشخصية تتحرك ضمن واقع النص وشروطه لا خارجه، أو على الأقل يكون للحدث في النص واقعٌ ورمز. في بعض روايات نجيب محفوظ نجد هذا الشيء، فالمكان على الرغم من وضوح تفاصيله والذى تشير إليه الحارة المصرية، إلا أنه يحمل بعداً رمزياً، وكذلك الشخصيات، وبهذا يحقق العمل الروائي أكثر من قراءة في الوقت نفسه.

الفئران كرواية عن تجربة السجن والاعتقال مغموسة فى الفانتازيا تتدرج من بدايتها التى تُذكّر بنَفَس ماركيزى أكيد إلى عوارض سريالية . قرب نهاية العمل كأنما أتممت دائرة أو دورة كاملة تشبه الحياة وعذاباً يجل عن الوصف فتكرر فقرات من البداية ثم تحرر عملك ليمنح القارئ نهاية متفائلة وإن غرائبية . ضاق الشعر وحده والسرد وحده عن حجم تجربتك ؟ 

بلا تبجحِ أو إدّعاء أقول، أنا غير مقتنع بأغلب ما يكتب من روايات، فأنا أرى أن جنس الرواية ماضٍ إلى الزوال، على الرغم مما نراه من اهتمام واسع، بل إن هذا الاهتمام هو الذي سيسرّع في نهاية الرواية كجنس أدبي، وما يدعوني إلى هذا الظن هو اتجاه الرواية في خط انحدار نحو الشعبوية بسبب ترهل بنائها ورخاوة زمنها، فستتحول ( في أوروبا تحولت ) إلى فن شعبي كحال القصيدة حينما تتحول إلى أغنية أو شعار سياسي. ربما بشيء من النزق أقول إن أي فن يسعى إلى موته حينما يتخلى عن نخبويته، فيتحول إلى أداة لقتل الفراغ أو لاستجلاب النعاس. لذلك أنا أسعى ( أو أطمح ) إلى كتابة رواية بشروط القصيدة، ليس من ناحية البناء الهندسي الصارم أو اتساع مساحة التأويل فحسب، وإنما بقلب المعادلة تماماً، فقد اعتاد القارئ أن يحكم على نجاح أو فشل الرواية من خلال ما تشيعه من وهمٍ يدفعه إلى تصديق ما يقرأه على أنه الواقع مكتوباً، وذلك بتنميط الشخصية وبنائها الذي يسعى إلى المطابقة مع الواقع. أنا أسعى إلى إخراج الواقع من واقعيته، لتبقى الشخصية تتحرك ضمن واقع النص وشروطه لا خارجه، أو على الأقل يكون للحدث في النص واقعٌ ورمز. في بعض روايات نجيب محفوظ نجد هذا الشيء، فالمكان على الرغم من وضوح تفاصيله والذى تشير إليه الحارة المصرية، إلا أنه يحمل بعداً رمزياً، وكذلك الشخصيات، وبهذا يحقق العمل الروائي أكثر من قراءة في الوقت نفسه.

ما نطلق عليه ( الفانتازيا ) أو ( الواقعية السحرية ) هو إحدى وسائل خلق الانزياح عن الواقع ليعلن الكاتب ومنذ الصفحة الأولى بأن ما يكتبه ليس ما حدثَ أو ما سيحدث في مكانٍ وزمانٍ محددين، وإنما يحدث في مكان النص وزمانه.

لأضرب مثلاً :

في رواية ( المسخ ) يصارح كافكا قارئه ومن الصفحة الأولى، بأن ما سيقرأه لا علاقة له بالواقع، وعليه ( القارئ ) أن يقبل الأمر منقاداً إلى مشيئة الكاتب في خلق شخصيات تتحرك ضمن شروط النص لا شروط الواقع.

في رواياتي الست ومن بينها ( الفئران )، حاولت أن أطبق فكرتي هذي ولا أدري مدى النجاح الذي حققته، حتى في كتابي السردي الأول ( أصغي إلى رمادي ) والذي جنّسته كـ ( فصول في السيرة الذاتية لم أكن أميناً 100% في نقل الحدث الواقعي، بل نقلته إلى واقع النص.

قد يرى البعض بأن النص هنا يفقد عفويته ولا ينجو من الافتعال، إلا أن المتمعن في الأحداث المروية المستمدة من الواقع سيجد أن ما جرى في الواقع نفسه يصعب أرشفته كتأريخٍ، بل هو أقرب إلى الأسطورة.

 (2) حين أقرأ شعرك أجد ” لغتين ” .. إحداهما ربما تخجل وتتأثم من الأخرى .. أشعر بلغة تراوغ سعياً للتحرر من لغة فخيمة أقل حرية واكثر حفاظاً على تلك الفخامة وقواعد اللغة والشعر..  أجد نثراً يتململ وفصاحة إيقاعية فى آن . هل هذه المنطقة الوسطى مريحة لك تعبيرياً عكس ما أفترضه ؟

مازلت ( وبعد أكثر من أربعين عاماً في كتابة الشعر ) أجهل ما هو الشعر، وكيف أستدرجه أو يستدرجني. كل الذي أعرفه هو أن راداري يلتقطه على شكل إيقاع، وأنا كأي إنسانٍ بدائي أستسلم له، لذلك لا أجرؤ على كتابة قصيدة النثر، وما كتبته من قبل وجدتُ فيه تحايلاً على النفس، حيث أني كنتُ مهووساً بإيجاد ما يمكن أن نطلق عليه ( الإيقاع الداخلي )، إلا أني وجدتني أكتب نصاً هو أقرب إلى القصة القصيرة جداً منه إلى القصيدة. لم أشعر أن البحور الخليلية شكل خارجي أو بناء جاهز، وإنما يشكل الإيقاع عندي محرّضاً لاستفزاز اللاوعي الذي ينتج القصيدة.

تقول الكاتبة الدنماركية كارين بلكسن في روايتها ( out of Africa ) وهي رواية ــ سيرة، بأنها مرةً جمعت أطفالاً أفارقة وقرأتْ عليهم قصيدة باللغة الدنماركية، فراحوا يضحكون ويرقصون، وحينما سألتهم عمّا فهموه من القصيدة قالوا ” إنه شيء جميل يشبه المطر “.

بعد أن انتقلت إلى كتابة القصة والرواية اكتشفت الطاقة السرية الكامنة في الشعر، والتي تختلف تماماً عن النثر، فلكل منهما فعلٌ وتأثير على النفس مختلفان تماما. وأعزو هذا الاختلاف إلى عامل الإيقاع، لذلك ومنذ مزاولتي لكتابة النثر، لم يعد الشعر يأتيني إلا مموسقاً، وبعيداً عن جرأة التشبيه أقول ” إنه صلصلة الجرس “.

 (3) هل احتجت مرحلة من التأهيل النفسى خارج الكتابة والعلاقات الإنسانية لتجاوز أهوال شخصية عشتها فى العراق وبعضها أيضا خارجه فى رحلة الهرب واللجوء إلى إيران؟

ليس تهويناً للأمر، أقول إن ما حدث في العراق من ظلمٍ خلال الأربعين سنة الماضية كان توزيعاً على درجة كبيرة من ( العدل! ) حيث لم ينج أحد مما أصاب المجتمع العراقي، فمنذ نهاية السبعينات، راحت المآسي تترى على الشعب العراقي بكل فئاته من سجون وقمع وتشرد وحروب ونفي، تاركة آثارها التي لن تزول إلا بعد انقراض جيلين أو ثلاثة، لذا فإن كل فرد حينما ينظر إلى مأساة غيره تهون عليه مأساته. أنا أعتبر نفسي محظوظاً إذ مازلتُ حياً، فأنا من مواليد عام 1956، وجيلي في العراق يكاد يكون منقرضاً، لأننا ما أن تفتح وعينا حتى وجدنا أنفسنا نتلفت خوفاً ونحن نمضي إلى الجامعة، البيت، العمل… ونخشى من الصديق، الزميل، الجار.. من أن يشي بنا إنْ همسنا بكلمة ضد الحكومة. لم يكتفِ النظام بإشاعة هذا الخوف فشنّ حروبه المعروفة منذ عام 1980 والتي لم تتوقف حتى الآن.

ساعدتني الكتابة كثيراً على الخروج من هذا النفق المظلم، لأني وجدت أن عليّ مسؤولية تسجيل ما كنت شاهداً عليه، ليس تطهيراً للنفس من أدران الماضي، ولا زهواً بالنجاة، وإنما لخلق معادل جمالي يساهم ولو قليلاً في تحدي القبح السائد.

 (4) كيف تصف لنا نوع التأثرأو ” التماس والانفعال الروحى ” إن شئت بين مبدَعَين أحدهما يرفض أو يزدرى أفكار ومواقف الآخر .. وأقصد حالة الاستلهام بين كتابك صيد العنقاء الصادر مؤخراً عن دار الجمل ( وإن كنت تهدم إقبال مع نهايته )  وبين شعر الشاعر الهندى محمد إقبال. مختلفان فى كل شىء لكنكما شاعران وتكتب مائة قصيدة فى فضائه ؟

اعتدنا أن ننظر إلى فكرة الوجود أو ( الله ) بمناظير محددة، وهي المنظار الفلسفي والمنظار الديني ومنظار التصوف، لكن لم ننظر إلى الله بمنظار شعري. هذا ما خطر في ذهني وأنا أكتب كتاب ( التيه ) منذ ثماني سنوات، ومع الأسف نامت مخطوطته عند أكثر من دار نشر بعد الموافقة على نشره، ولم ينشر حتى الآن، لذلك أطلقت عليه ( رواية شعرية ) وفق هذه الفكرة. سبق وأن اقترب الشاعر الهندي الكبير طاغور من هذه الفكرة في كتابه صغير الحجم وعظيم الشأن، وأعني ( ديانة الشاعر ).

هذه الفكرة عادت تلحّ علي ولكن هذه المرة شعرياً، وعن طريق المصادفة وقع بين يدي ديوان ( جناح جبريل ) للشاعر محمد إقبال فوجدتُ فيه شيئاً مما أفكر فيه، لكن وكما هو معروف أن إقبالاً وعلى الرغم من شطحاته الصوفية والفلسفية فهو في الوقت نفسه ملتزم دينياً، ويمكن أن نعتبره ( سلفياً )، خاصة في موقفه من الحضارة الغربية والمرأة والموسيقى. وأنا أقرأ في كتابه كنتُ ألمح صوراً شعرية باهرة، فأتأسف على أنه سبقني إليها وأشعر بأني أستحقها أكثر منه. لذلك كنت كلما أصادف واحدة من هذه الصورة أتوقف عن القراءة وأظل أحاور الشاعر، وبلا شعور مني كنت أكتب كل يومٍ قصيدة أو أكثر، وهكذا خلال ثلاثة أشهر أكملتُ كتابة أكثر من مائة قصيدة، ولأن هذه المجموعة ليست تناصاً ولا حواراً لذلك وضعت لها عنواناً فرعياً ( مائة قصيدة في فضاء محمد إقبال )، (وكتبت مقدمة وضحت فيها علاقتي بشعر محمد إقبال).

 (5) ألا يعكس هذا ربما شداً وجذباً أعمق بداخلك بين ما هو صوفى وما هو عدمى اخترت بوعى الانتصار فيه للأخير كما يبدو لى من أعمال أخرى لك مثل روايتك الشعرية التيه ( حيث نلحظ تأثراً واضحاً ببعض الصوفية المسلمين .. مثل أسلوبية النفرى الذى كتبتَ عن نفورك منه فى ذات العمل )  و ديوان منادى لا يسمع الذى سيصدر قريباً ؟

ما بين التصوف والعدمية قاسمٌ مشترك، ولا أشير هنا إلى ما توصل إليه أدونيس في مقاربته بين التصوف والسوريالية، حيث أني أرى هذا التقارب ليس شكلياً محصوراً في اللغة الباطنية أو شطحات اللاوعي، وإنما أرى قاسماً مشتركاً يجمعهما لكونهما نتاجَ ( تيهٍ شاسع )، أو محاولة لاجتراح وسيلة للخوض في خضم هذا الغموض الوجودي الذي يحيط بالكائن البشري.

حينما يقول أحد المتصوفة ” خضنا بحاراً وقف الأنبياء عند سواحلها “، نطرح على أنفسنا ” ماذا بعد هذه البحار ؟ “.. أنا أرى أنها البحار التي ربما في إحدى جزرها يلتقي الوجود بالعدم. ربما سيقول قائل ” هذا كلام غامض أو إنه لعبٌ بالمفردتين ” فسيكون ردي ” نعم.. إنها جزيرة الشعر. “

 (6) هل ترى المستقبل يميل نحو الرواية الشعرية أكثر فى عالمنا العربى ، أم أن انحيازك للشعر هو الذى يملى هذه الرؤية لأنى من ملاحظتى لواقع الكتابة السردية فى مصر – كمثال – أراها تحتوى خيوطاً شعرية أوقاتاً قليلة لكن ليس لدى الجميع وليس بالقدر الذى يشكل اتجاها؟ 

مصطلح ( الرواية الشعرية ) يشبه مصطلح ( قصيدة النثر )، من حيث تنافره، فالرواية وإن كانت تستوعب فنوناً أخرى ومنها الشعر، إلا أن هذا لا يعني أن تتحول الرواية إلى شعر، فلكل من هذين الفنين شروط تختلف كلياً عن بعضهما البعض إلا أني أرى ( وكما ذكرت )، أن الرواية ( كَفَن ) في مرحلة احتضار، وبحاجة إلى إسعافات سريعة وإنعاش، ولا يتم هذا ( في رأيي ) إلا على يد الشعراء، فمأزق الرواية الآن هو وقوفها على حافة الانحدار نحو الجماهيرية وستفقد قيمتها الفنية، فطريقة السرد السائدة في الرواية منذ القرن الثامن عشر أصبحت مملة والزمن ( السردي ) زمن سلحفاتي رخو لا يتناسب مع الإيقاع السريع للحياة في عصرنا الحالي، أما ما نراه من اندفاع القراء إلى الرواية فهؤلاء أغلبهم من ضعاف الحصانة الفنية وسيهجرونها سريعا لمشاهدة الأفلام والمسلسلات، عندها ستخسر جمهورها بعد أن خسرت فنيتها. من هنا أقول إن الرواية بحاجة إلى تكثيف في الزمن السردي عبر التكثيف اللغوي واتساع مساحة التأويل والدلالة، وهذا ما يجيده الشاعر الحقيقي، وكذلك إلى البناء الهندسي المحكم الذي عبره ستتخلص الرواية من الإطناب والتشتت والخمول. أنا أرى أن بمقدور الشاعر المبدع كتابة رواية بمواصفات القصيدة من ناحية البناء. أتذكر هنا مقولة الشاعر العراقي الكبير محمود البريكان بأن “أية كلمة في القصيدة تأتي في غير موضعها خيانة”، وهذا لا ينطبق على القصيدة فقط بل على الرواية أيضا، ولو بحده الأدنى.

من هنا جاء طموحي لكتابة رواية بمواصفات القصيدة من حيث البناء الهندسي المحكم الذي لا يحتمل الإضافة أو الحذف، وكذلك اتساع رقعة التأويل والرمزية فيها، لتكون حافزاً للقارئ على اقتراح تأويله الخاص. رواية يستمتع القارئ بقراءتها من الصفحة الأولى ولا يكون همّه منصبّاً على متابعة الحدث، لذا فأنا أسعى إلى أقصى ما يمكنني من الاهتمام بصياغة الجملة واجتراح أساليب سردية متنوعة كالشعرية والإيقاع والأغاني والمونتاج السينمائي، وظيفتها خلخلة السرد وخلق انزياحات، أو ( مسافات توتر ) بعبارة الناقد كمال أبو ديب لخلق متعٍ إضافية في السرد تجعل القارئ لا يقرأ راكضاً لمعرفة نهاية الحدث ومصير الشخصيات، بل يقرأ بتأمل مستمتعاً منذ الأسطر الأولى.

 (7) حكيت لى فى المغرب أن أمك كانت تجمع كتبك التى يمكن أن تسبب مشاكل مع نظام البعث فى العراق وتدفنها تحت الأرض . هل تروى لنا تفاصيل ؟

للأم العراقية حدس غريب في قراءة الأحداث، ربما نشأ بسبب تمرسها في العراك مع الظروف الصعبة، وكذلك بنظرتها إلى الأحداث بمنظار البراءة النبيلة، وقد صدق حدسها في أمور كثيرة. أروي لك واحدة من هذه النبوءات التي غابت عن ذهن النخب الثقافية والسياسية العراقية. في عام 1973 أقام النظام البعثي ما سمي بالجبهة الوطنية مع الحزب الشيوعي العراقي، على الرغم من التأريخ الدموي الذي كان يجمع ما بين الحزبين، فشهد العراق في فترة النصف الأول من السبعينات على أثر هذا الاتفاق هدوءاً واستقراراً. في تلك الفترة انضممتُ إلى الحزب الشيوعي العراقي وكذلك فعل أخوتي الثلاثة الذين يكبرونني. كنا نقيم اجتماعات حزبية في بيتنا، فكنت أسمع أمي وهي تعد الشاي للرفاق تردد مع نفسها ما معناه :

” أيها الأغبياء.. أيها المغفلون.. كيف لكم أن تثقوا بحزب البعث ؟ هل نسيتم الماضي ؟.. إنهم يستدرجونكم للفخ.. سيكشفونكم.. ثم ينقضّون عليكم واحداً واحداً… “

وهذا ما حدث فعلاً بعد خمس سنوات، حيث قام نظام البعث بإنهاء ( الجبهة الوطنية!! ) ونقض ( الميثاق الوطني !! ) فراح ضحية هذه الحماقة التي ارتكبها الحزب الشيوعي العراقي الكثير من الشباب العراقيين ما بين السجن والإعدام والنفي أو الاختباء والتسقيط.

مظهر آخر من مظاهر قوة الحدس عند الأم العراقية هو أنها ببراءتها النبيلة كانت تدرك أن الطغاة جهلةٌ، ويعادون النخب الثقافية فيتحول الكتاب إلى دليل إدانة ضد حامله، ومن هذا الهاجس كانت الأم العراقية تتوقع هجوم زوّار الفجر في كل لحظةٍ ومداهمتهم للبيوت للبحث عن الكتب الممنوعة كدليل إدانة. ( زوّار الفجر مصطلح يطلق على رجال الشرطة السرية ).

كانت أمي وحتى في فترة الهدوء السياسي، تقوم بإخفاء الكتب التي غالباً ما تكون أغلفتها حمراء أو تحمل صوراً لرجال بلحى طويلة.

حول هذا الأمر كتبت عام 1996 قصيدة بعنوان ( اللحى )، ضمّها كتاب سيرتي الذاتية ( أصغي إلى رمادي ) الصادر في عام 2002 :

 

                                    اللحى

  في حديقتنا، تحتَ نارنجةٍ

دفنتْ أمي الخائفةْ

( روائعَ طاغور )

إنها لا تجيد القراءةَ، لكنها متيقنةٌ

إنْ أتوا، سوفَ تأتي الرعونةُ، والخوفُ والفكرةُ الزائفةْ

تحتَ نارنجةٍ دفنتْ سرّ أبنائها

دفنتْ كلّ ما تحملُ الأغلفةْ

من لُحىً :

الخمينيّ

ماركسْ

وطاغور.

ثم نامتْ على السرّ

نامتْ…

وماتَ الجميعُ

ومازلتُ وحدي

أقيمُ الجدارَ على الكنزِ

حتى اغتلامِ الصبيّ الذي لن يجيءَ

وها أنني، بعد عشرين عاماً

وعشرين أرضاً طويتُ

ومرّ مقصُّ الزمانِ على لحيةِ الشيخِ والفيلسوفِ

أنام على فكرةٍ نازفةْ :

أن أعودَ وأنبشَ أرضَ الحديقة

كي أشمّ تراباً تعفّرَ بالشعرِ

والموتِ

والفلسفةْ.

         25/2/1996 دمشق

 

(8) ما أكثر شىء تتذكره أو هيمن على عقلك أثناء رحلة هربك من الجحيم .. من وقت كنت تقود دبابة فى الجيش العراقى فى الحرب العراقية – الإيرانية ثم ما حدث من لجوئك فى إيران بينما تسعى لرحلة حلمت أن تنجيك باللجوء السياسى انتهاءً لوصولك الدانمارك ؟

أول هاجس خطر في ذهني وأنا أعبر الحدود العراقية ـ الإيرانية مشياً في شتاء عام 1982 هو الخط الأحمر الذي نراه في الأطلس والذي عادة ما ترسم به حدود البلدان. ” لماذا أحمر ؟ “، سؤال لم يخطر في الذهن من قبل، لا أعني هنا لون الدم أو اللهب الذي طبعته في أذهاننا الحروب التي شُنت بين البلدان من أجل شبر يظنه الإنسان مقدساً، ولا لدلالته كعلامة وقوف في إشارات المرور، وإنما لأمر غامض يصعب وصفه. خطوة واحدة تفصل عالمين. خطوة واحدة كفيلة بأن تقلب تفكير الإنسان ومشاعره رأساً على عقب. هل هذا الشعور ناتح عن ارتباط الإنسان بالمكان ؟ أو أنه بُعدّ زمنيّ وجد تجسده في مترين متجاورين تفصلهما صخرة تحدد ثنائية غريبة ( الوطن ـ المنفى )، اجتيازها يعني الدخول في زمن آخر يختلف تماماً عن الزمن الأول. الغريب في الأمر هو أني حينما كررت التجربة مرة ثانية بعد سنتين، وقمت بمحاولةٍ للهروب ثانيةً، ولكن هذه المرة من إيران إلى أفغانستان، ما كنت أشعر بالشعور ذاته، بل كان إحساسي أقرب إلى البلادة واللامبالاة، وحتى حينما تم إلقاء القبض عليّ من قبل ( المجاهدين! ) وبتهمةٍ خطيرة لا يحتاج تنفيذ عقوبتها إلى تردد، خاصة من قبل أناس لا يضعون في حسابهم قيمة كبيرة للكائن البشري، لم أكن أشعر بما شعرتُ به وأنا أغادر العراق بل هو عبور في مفازة يتساوى فيها الوصول أو الرجوع، وحتى الموت في منتصفها لا يعني إلا تجسيداً لعبثية الوجود. لذلك أرى أن ثناية الوطن ـ المنفى لا علاقة لها بالمكان، بقدر ما تحمل بين مكونات معادلتها أموراً غامضة تحتاج إلى قدرة كبيرة لوصفها.

 

” أوازي الطريقْ

نلتقي في المدى

ربما نلتقي

قد يضلُّ الطريقُ

فأتبعه مثلَ ظلٍّ

أو أضلّ الطريقَ

وأتبعُ ظلّي إلى المُشتهى

فالمدى نقطةٌ

وأنا المتقاطعُ في نقطتينِ

وأقصرُ كلّ الخطوطِ إلى المبتغى

              كان منحنياً .”

                      20/11/1982

 

 (9) هل يمكن للشعر – وحده – أن يكون مُنجياً أو خلاصاً ؟

أنا لا أرى الفن عزاءً أو ملجأ يلتجئ إليه الإنسان في خيباته، وكذلك لا أتفق مع المفهوم النيتشوي الذي يعتبر الفن أداةَ لجعل الحياة تستحق أن تعاش، أو بما عبر عنه الشاعر الهندي محمد إقبال بقوله ( مهمّتي أجمّلُ الطبيعة ). أنا أرى في هذا مبالغةً مصدرها حماس الفنان الطفولي، أو محاولة لاجتراح وظيفة رسالية للفن. لا أريد التقليل من عظمة الفن ولكني أرى أن عظمته تأتي من عظمة الحياة نفسها، فالفن في رأيي تقريظ للحياة واحتفاء بالطبيعة وبجمال الإنسانية. ربما يساهم في تهذيب حواس الإنسان فيجعله يرى ما تحت الأديم أو يسمع موسيقى الجذور، وبالتالي يكون وسيلة كشفٍ لمواطن الجمال، لكنه يبقى انعكاساً جميلاً على سطح نهرٍ سبقه في الوجود.

 لنعشِ الحياة بعمق، فسنكتب أجمل القصائد والروايات ونرسم أجمل اللوحات ونعزف أسمى السمفونيات.

 (10 ) بارتون جونسون يرى أن ” أى مثال نقى لنوع أدبى هو طير نادر فى الحقيقة ” . ألا يجوز – حتى وإن لم يكن هذا يعنيك – وضع مسميات أخرى لروايتك التيه عدا ” رواية شعرية ” .. مثلاً : ” الشعر السردى ” أو ” السرد الشعرى ” أو ” الشعر الحوارى” و” الحوار الشعرى ” .. أيضاً يلفتنى كونك عنونت الجزء الأخير من منادى لا يسمع بـ ” قصائد نثر ” فى مقارنة مع بقية قصائد العمل ؟  

كتاب ( التيه ) كما أسلفتُ، لم ينشر بعد، ولكني نشرتُ فصولاً كثيرة منه، ومازلت متردداً في تجنيسه. وأخيراً قررت أن أضع له عنواناً فرعياً هو ( عهد الشاعر ). ربما لا يزال الالتباس قائماً عند القارئ، لكن فكرة الكتاب مبنية على المنظار الشعري للوجود والخالق، بعيداً عن الرؤية الدينية، الفلسفية، والصوفية.

أما عن الشق الثاني من السؤال وهو إفراد مجموعة قصائد تحت عنوان ( قصائد نثر ضمن مجموعتي الأخيرة ( منادى لا يسمع ) والتي جاء أغلب قصائدها على نظام التفعيلة، فقد كنت أشير بوضوح إلى أني اعتمدت في كتابة قصائد النثر على المفهوم الغربي لقصيدة النثر وليس كما هو شائع الآن في الكتابة العربية… ربما هي مشاكسة لا أكثر..

 (11) حين أشار النقاد إلى الرماد ( الجزء الثانى من روايتك الضلع ) وصفوا أحد الشخصيات بكونه يحمل ” عداءً شرساً لكل شىء .. للوطن والقيم والأحزاب والأخت والأم والصديق والدين والحياة ” . عن نفسى وجدتُ فى عمق أعمالك الأخرى شعراً ونثراً – التعب من الوجود والذاكرة . هل نجحتَ فى التخلص من الغضب العاتى ( الشخصى والوجودى ) عبر دواوين وروايات وربما سيرة ذاتية أم ما زلت تشعر أنك لم تكتب كل عذاباتك بعد ؟

رواية ( الضلع ) الصادرة عام 2007، تعتمد ثيمتها على فكرة الكبت الجنسي ( باعتباره سبباً ونتيجة ) وتأثيره على الشخصية العراقية. الشخصية المحورية في الرواية شاب عراقي لم يلتقِ بامرأة في حياته بسبب الوضع المضطرب في العراق، وبسبب ما عاناه الشاب من سجون وحروب وتشرد، لذا فهو شخصية سلبية وعدوانية، تعاني من انفصام يؤدي بها إلى الإنتحار.

تناولتُ الواقع العراقي في رواياتي كلها، وأعتقد أن السنوات الخمسين الأخيرة في التأريخ العراقي منجم غني جداً للكاتب يستوعب مئات الروايات، حيث بإمكان الكاتب أن يمتح مما جرى من أحداثٍ لا تحتاج صياغتها سوى لمسات فنية طفيفة، بل حتى لا يحتاج الكاتب إلى الفانتازيا، فما مرّ به العراق ينتمي في الكثير من مفاصله إلى مسرح العبث واللامعقول.

 (12 ) سبق وعبرت عن حيرتك وعدم فهمك لعدم حدوث انفجار إبداعى عراقى بعد سقوط صدام.. على الأقل مما افترضته مطموراً لسنوات من القمع . الآن مع أوضاع العراق الراهنة هل ترى ملامح إبداع عراقى متنوع الاتجاهات يتشكل فى الشتات ؟

نعم.. كانت خيبة أمل كبيرة فى الكاتب العراقي، فقد كنت أعتقد بيقين بأن هناك عشرات الروايات والمجموعات الشعرية كتبها الكتّاب العراقيون وأخفوها عن عين الرقيب، وستظهر بعد زوال نظام صدام، ولكن مع الأسف كنت واهماً، فقد مر أكثر من عقد على سقوط النظام البعثي ولم يظهر أي عمل [ سوى رواية مهمة صدرت قبل سقوط النظام للكاتب الراحل مهدي عيسى الصقر بعنوان ( بيت على نهر دجلة) ]. أعزو هذا الأمر إلى أن الكاتب العراقي كان يائساً من سقوط النظام، أو أن الخوف استبد به فتغلغل الرقيب في أعمق أسراره وعزلته. بعد سقوط النظام ظهر كتّاب شباب موهوبون لكن الأحداث الجارية الآن والتي لا تقل تراجيدية عن الوضع السابق شغلتهم فلم يلتفتوا إلى الماضي القريب. ولكن.. كان لنظام صدام ( فضيلة!! ) قدّمها للأدب العراقي من حيث لا يدري، فقد كان السبب في تشريد عدد كبير من الأدباء العراقيين منذ نهاية السبعينات، وفّر لهم المنفى حريةً لكتابة جريئة تناولت الواقع العراقي فظهرت روايات كثيرة في خارج العراق، سيكون لها ( في رأيي ) شأن وأثر مهمين في تأريخ الرواية العربية.

ومن أهم الكتب كتاب ـ الرواية العراقية، صورة الوجع العراقي ـ للناقد حسين السكاف، وقد صدر حديثاً و أرشف فيه ما صدر من روايات خلال عامي 2004 و 2012 .

 (13 ) كنت حكيت لى أنه أثناء رحلة هربك من العراق محاولاً اللجوء السياسى اتجهت لإيران وذات يوم هناك أدركت – كما أتذكر كلامك – أنه رغم الأهوال التى عانتها أسرتك من نظام صدام فهناك ما هو ” أسوأ من صدام “. 

ما هو هذا الأسوأ ؟

عبارة ( هناك ما هو أسوأ من صدام )، تقال في لحظات الغضب، أما في الحقيقة فلا يوجد من هو أسوأ من صدام حسين ونظامه. ولكن للطغاة وجه واحد، والقتيل لا يهمّه أسلوب القاتل في تنفيذ جريمته، لذلك فالنتيجة واحدة. كل الطغاة مهما بلغت درجة طغيانهم يتشابهون في سلوكهم وأمراضهم مادامت الغاية التي يسعون إليها هى امتهان كرامة الإنسان ومسخ إنسانيته.

حينما دخلتُ إيران لاجئاً، تم حجزنا في معسكرات لا تقل عن معسكرات الأسرى أو أبشع أنواع المعتقلات. وأحد  هذه المعسكرات كان يقع بين مدينتيّ ” أندمشك” و”خُرم آباد ” الواقعتين غربي إيران، وكان المعسكر يقع في وادٍ بين سلسلة جبال متقاطعة. كانت الشمس تشرق علينا الساعة الحادية عشرة وتغيب في الثالثة ظهراً ولا نرى من السماء سوى قطعة صغيرة، أما في الصيف فكانت الأرض تغلي تحتنا، والعقارب تختبئ تحت وسائدنا. بقيتُ فيه ستة أشهر ثم هربتُ منه بسيارة الأرزاق بعد أن قدمتُ لسائقها ملابسي رشوة فخبأني تحت زكائب البطاطا، حتى كدت أختنق في رحلة ذكرتني برواية غسان كنفاني ( رجال في الشمس ).

في إيران التقيتُ بالكثير من أعضاء الأحزاب الدينية ( الحاكمة الآن في العراق )، وقد لمست حينها مستقبل العراق الذي لا يقل ظلامية عن حاضرهِ آنذاك، وقد صدق حدسي.

 (14 ) ما هى القسوة يا حميد ؟

من المعروف أن العقرب حينما تُحاصر بدائرة من النار، تحاول أن تخترق محيط الدائرة من جهات مختلفة ولا تستطيع. تكرر المحاولة عدة مرات حتى تشعر باليأس، عندئذ تقف في مركز الدائرة. ترفع نصفها الأمامي وتغرز إبرتها في جسدها وتموت.

هذه اللعبة مارستُها حينما كنتُ في معسكر اللجوء في إيران وتأكدت من حقيقتها، وقد ذكرها نيتشة في كتابه ( هكذا تكلم زرادشت ).

القسوة هي حينما يكون حال الإنسان كحال هذه العقرب. قد يكون تشبيه الإنسان بالعقرب غير موفّق ولكني نظرتُ إلى الأمر من جانب الكبرياء وعزة النفس. 

 (15 ) لو عاد العراق اليوم هل تعود إليه ؟

سأعود إلى العراق حينما أشعر بأن لوجودي هناك ضرورة، ويمكنني أن أفعل شيئاً ذا فائدة.. ولكن مع الأسف لا أرى هذا في المستقبل القريب. أخبركِ يا صديقتي غادة بأمرٍ جعلني أرى شاهدة قبري في الدنمارك بعين يقيني. في الأسبوع الماضي نشرتُ على صفحتي في الفيس بوك ( بوستاً ) أنتقد فيه ظاهرة منتشرة في العراق بشكل مخيف، استلمتُ على أثره مائة واثنتين وأربعين رسالة تهديد من ( أصدقاء ! )  يقيمون في العراق، أغلبها مكتوب بأسلوب قذرٍ وكلماتٍ لم أسمع من قبل بمستوى بذاءتها. والمؤلم في الأمر أن أغلبها من شباب في بداية العشرين من العمر.

أشعر الآن بأن هناك عراقين وليس عراقاً واحداً.

 عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم