حمدية

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كاميليا حسين

كل سمراء نحيلة ، تحمل فوق ظهرها ضفيرة ، وفي العينين ضحكة ، تدفعني للجري وراءها لمشاركتها مكعبات السكر قبل أن تغيب وتخدش في قلبي اسم حمدية.

جاءت إلى مدرستنا من آخر حدود الصعيد ،تحمل اسما (قديمًا) قِدَم  بشرتها السمراء الشاحبة اجتذب سخرية فتيات مدرسة المعادي الإعدادية لعدة أيام ، قبل أن يتناسوها  تماما ويعودوا للانشغال بالمنافسة المعتادة التي لم يسمح لها جسدها الضئيل أو ملامحها العادية بأن تصبح طرفا فيها.

لم أقترب منها كثيرا، فصول البنات في المدارس الإعدادية تنقسم عادة إلي دائرتين كبيرتين ودوائر أخري صغيرة تتماس دون أن تتشابك، هناك دائرة فتيات الصف الأول، يقضين حصص الموسيقى والرسم في عمل الواجب ، كي يجدن وقتا أكبر للمذاكرة في المنزل ،يتنافسن دائما على الكشكول الأكثر تنظيمًا ، و القدرة على الإجابة عن أكبر قدر من أسئلة المدرس . وهناك دائرة الصف الأخير ، تلمع أعينهن بالحكايات القادمة من خلف الأسوار البعيدة ، عن طعم أول قبلة ، عن لون مشد الصدر الأول، و عن أكثرهن اصطيادا للمعاكسات والغزل بالأمس، يقضين حصة الرسم في السخرية من أبلة كريمة (العانس ) السمراء، وحصة الموسيقي في السخرية من ماكياج أبلة آمال ومحاولة إثبات أن شعرها ليس أشقرا بطبيعته . بينما كانت حمدية تتقافز على الأعراف، تقضي حصص الرسم في محاولات لا تنتهي لرسم (الأمل في توشكى )أو (الربيع الباسم)  و حصص الموسيقى في النشاز ، وتتنافس مع نفسها علي توجيه أكبر قدر من الأسئلة للمدرس.

لم أقترب منها أبدا كنتُ منشغلة بالتنقل المتتالي بين الدوائر في محاولات لا تنتهي للبحث عن مكان، ربما جلَسَتْ إلى جواري مرة أواثنتين في دروس التقوية الخارجية أيام الجمع حيث كنا نتفنن في ارتداء ما يؤكد أننا كبرنا ، أذكر صندلي الأبيض الناعم الذي كان يلف ربلة الساق بإحكام فتبدو أجمل حين أصعد السلم بخطوات متسارعة أمام مدرس اللغة العربية ، الكعب العالي الذي صعد بجسدي إلى السماء ، وأضاف لخطوتي مزيدا من الاهتزازات المحسوبة ، خصلة الشعر المنفلتة من الحجاب ، ورفضي الحاسم لارتداء ملابسي التي تحمل صور شخصيات كارتونية ، والضحكة التي صار لها نغم يؤكد (أنا كبرت) ،بينما كانت حمدية بيننا تقفز بفستانها المنفوش المزركش بالبهجة لتؤكد على حقيقة واحدة أننا جميعا سنكبر، وستبقي وحدها صغيرة بالخلف .

أصيبت حمدية بخُرَّاج صغير أعلى ذراعها، كان مؤلما بعض الشئ، ربما سمعتها تخبر سارة في الطابور أنها ستتغيب يوما لتذهب للكشف في التأمين الصحي ، لم أهتم ولا أعتقد أن سارة قد اهتمت.

لم ينتبه أحد لغيابها ، ربما فقط حين التفتت المعلمة لتكرار اسمها بشكل يومي في كشوف الغياب لشهر كامل ، أدركنا أننا لم نرها منذ شهر . عرفنا أن طبيب التأمين الصحي أعطاها (أدوية غلط) أثّرَتْ بشكل غامض على المخ وأصابتها بفقدان جزئي للذاكرة ، ربما حاول مدرس العلوم أن يشرح لنا العلاقة المتشابكة بين القشرة الخارجية للمخ و الذاكرة ، كمحاولة لتذكيرنا وتذكير نفسه برسالة الماجستير التي لم يتمها أبدا ،لكنه لم يستطع أن يشرح لنا العلاقة بين خراج صغير أعلي الذراع وذاكرة طفلة .

ربما جمعنا بعض النقود وذهبت مجموعة منا لزيارة بيت حمدية ، ربما امتنعنا جميعا بعدها عن الذهاب للعلاج في عيادات التأمين الصحي ، لكن الأكيد أننا تناسينا الأمر بعد عدة أيام ، حتي قرر أحد الأطباء أن مقابلتها لزميلات المدرسة وقضاء يوم دراسي عادي قد ينشط ذاكرتها بعض الشئ .

جاءت حمدية بعيون زائغة ، كانت تبدو أصغر ، أصغر كثيرا من أي وقت ، نظرت لي فجأة وابتسمت ونطقت باسمي ، فرحنا جميعا والتففنا حولها وقد اعتقدنا أنها بدأت في التذكر ، أخذت الفتيات يسألنها : (طيب وأنا ..) (فاكراني..؟) ( أنا مين يا حمدية) لكنها لم تفعل سوى الابتسام وتأمل وجوههن وهي تردد اسمي ولم أفهم هذا الأمر أبدا.

كنا نسمع في الأيام التالية عن تدهور حالتها يوما بعد يوم ،أنها أضاعت اسمها..و ملامح أبويها ، ثم جاء ذلك اليوم الذي يجئ دائما ، حين دخلت إلي الفصل لأجد الجميع يبكي ، وعرفت أن حمدية ستبقي وحدها صغيرة جدا في الخلف بفستانها المذركش تنادي اسمي بذاكرة مثقوبة وخراج في أعلي ذراعها سينفجر في وجه العالم.

4 نوفمبر 2012

خاص الكتابة

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون