حلم يترجل

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 48
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن

لم نكن قد التقينا من سنوات. هاتفته، أخيرا، فأتاني صوته متعبا، وكأنما يتنزّل من عالم آخر بعيد.

- لديّ بعض الحكايات، وددت لو أسمع رأيك فيها.

زفر بعمق حتي أحسست بالهاتف يسخن بيدي وفوق أذني. أجاب:

– خبر طيب.

ثم مُستدركا بأسي:

– يسرّني أن أقرأها طبعا، تعرف أني لطالما انتظرتها، أما الشيء الآخر فقد توقفت عنه.

شعرتُ بنوع من الصدمة، وبقدر غير قليل من الاندهاش. كان الشيء الآخر الذي يشير إليه هو عمله، أي حياته التي عهدته مستغرقًا فيها، كليّة وبغير حساب وبحب يُقارب الافتتان والعبادة. لمتُ نفسي بشدة علي غيابي الطويل، علي توقّفي عن الكتابة لأكثر من سبعة عشرة عامًا أضعتها في السعي وراء لقمة العيش بالبلاد الغريبة، وعلي تقطّع الاتصالات كل تلك السنوات مع أحلام الشباب في الإبداع والحب والصداقة وتغيير العالم. هي الحياة! فكّرت.

– هذا خبر سيئ يا صديقي.

كنت منزويًا، في ظلام عزلتي ووحدتي الباردة بالإسكندرية، أتدفّأ بمحاولات لا يعلم بها أحد، وغالبًا لا يحفل بها أحد، لخربشة روحي فوق ورق أبيض رخيص. أنهيت كتابًا نقديًا شاملاً عن إبداع وحياة إدوار الخراط، أعقبته برواية لم أكن أصدّق أني سأكتبها يوما. وصلني صوته لأوّل مرّة عبر هاتف المنزل، فلم نكن بمنتصف التسعينيات قد ولجنا زمن المحمول بعد:

– اسمي حسني سليمان، صاحب ومدير دار شرقيات للنشر. علمتُ بوجود نص روائي لديك، فهل أطمع بأن تسمح لي بقراءته؟

هكذا دشّنت كلماته، المُصاغة بتهذيب وحدب وببعض التحفّظ الذي لا تُخطئه الأذن، علاقة عمل استحالت بسرعة لصداقة. علاقة كان أميز ما يميّزها تشارك وانهمام، حقيقيين تمامًا، بحرفة الأدب. وبسرعة، رأيتني عضوًا في حلقة صغيرة من الأصدقاء والمبدعين، كانوا شبابًا وقتها، الذين شكّلوا ما سُمي، فيما بعد، كُتّاب التسعينيات لشرقيات. وهكذا حملتنا أشواق وأحلام الكتابة، الروائية والشعرية، بأجنحتها المسحورة، حتي ظنّنا الوجود مُجرّد عُرس لكتاب خالد؛ علينا أن نخطّ بضعة سطور إضافية فيه بحبر أرواحنا المتطلّعة القلقة!

غرور الشباب وأوهامه الرائعة، غرور بطعم السكّر المالح، نرشف منه فنعطش وندوخ قليلا. وهكذا دخنا ورحنا ندور؛ من رواية لكتاب ومن ندوة لورشة عمل ومن قصيدة لمؤتمر، إلي أن حلّت أزمنة الرحيل والصمت، وقد كنتُ بين أوائل الراحلين الصامتين، أولئك المقايضين لروحهم بوظيفة، ولكلماتهم بكسرة خبز طريّة!

اليوم، في السادسة والخمسين من عمري، أناضل، مجدّدًا، لجسر هوّة الغياب التي توسّعت بروحي قرابة العقدين من الزمان. أجاهد كي أستعيدني وأستعيدهم؛ أصدقائي ورصفائي! ليس كما كنتُ أو كما كانوا، بالقطع لا، فهذا ضدّ الحياة ومنطق الأشياء، وإنما كما وددتُ دوما أن أكون وأن يكونوا. سيترجّل البعض، لكن البعض سيبقي، والبعض الآخر سيأتي، من الدروب المجهولة سيأتي، ومن الزمن القادم الذي سيغرس راية تقدّمه، وبرغم كل الظلمات المحدقة، في أرض الإبداع والحرية.

ما كان حلم شرقيات حلمًا صبيانيًا، ولا حلقيًا، ولا قبائليًا، ولا تجاريًا، ولا، وبالتأكيد، استعراضيًا احتفاليًا. لم يكن يُشبه هذه الأحلام المترائية، والمُرائية، التي أكاد أميّزها الآن من عناوين منشوراتها وصخب احتفالاتها وغزارة المُراجعات الصحفية الرديئة عن منتجاتها الأشد رداءة، حيث تزكم أنفي روائح العطن الحلقي. فلكل المترجّلين سلام وإلي لقاء، ولكل الآتين رجاء؛ لتأخذونا، وإياكم، إلي أراضي الحلم الحق، وسنكون لكم من الشاكرين!

……………

*نقلا عن مجلة روزاليوسف

مقالات من نفس القسم