حكاية الرحلة بحثًا عن “جبل الزمرد”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

حين تقرأ عملاً ممتعًا، تستغرق فيه ومعه، يسكن روحك، لا تستطيع أن تكتب عنه أو حتى تتحدث، تكتفي بالصمت المتشبع بالمتعة إلى آخر قطرة، قد تحتاج إلى وقت أطول، وربما قراءة أخرى بعين الدارس لا بقلب المستمتع، وهذا ما لم تتح لي الفرصة للقيام به مع هذه الرواية الصادرة مؤخرًا عن دار التنوير بالقاهرة: "جبل الزمرد" لمنصورة عز الدين.

شأن الروايات الكبيرة، لا يمكن تلخيص رواية “جبل الزمرد”، أو تكثيفها في صيغة واحدة تلخص المعنى النهائي، فهل يمكن أن نقول على سبيل التلخيص المبتذل إنها رحلة خيالية تقوم بها سلالة النساء في أزمنة وأمكنة مختلفة من تاريخ الكون، يصعدن فيها من جبال متعددة ويخترقن حدود الكون الضيق إلى كون أوسع؟ هل يمكن أن نقول إنها رحلة متعددة الطبقات والأصوات إلى عالم ما قبل الحياة وليس ما بعدها؟ لقد اعتدنا في سرود سابقة على مدى التاريخ، أن يتشوف الناس إلى عالم ما بعد الموت، أما راوياتنا المتعددات في هذه الرواية فيشتقن إلى العالم الأول، عالم ما قبل الحياة، المرتبط بألف رباط أسطوري مع حياتنا اليومية الآن. إنها محاولة مستميتة لاستعادة حكمة جبل قاف، أو جبل الزمرد، وفلسفته، التي ستؤدي – كما تقول الراوية في نهاية الفصل الأول، وفي واحدة من المرات القليلة التي تخرج فيها المؤلفة وراويتها عن تحفظهما وغموضهما – ستؤدي إلى “فهم الذات، ومن ثم فهم العالم” (ص 19). إنها رحلة أسطورية مضنية لاستعادة حكمة جبل قاف، أو جبل الزمرد الذي يسكننا.

الرحلة هي الهاجس الأول المهيمن على هذه الرواية وشخصياتها من النساء والرجال على السواء. الرحلة شوق مقيم يطارد كل الشخصيات تقريبًا، وهي شخصيات تنتمي إلى أزمنة مختلفة، من الزمن الأسطوري الأول خارج هذه الحياة، هناك حيث جبل الزمرد وجبل المغناطيس وجبل النحاس وجبل الماس وجبل السحاب والعنقاء والرخ، مرورًا بالطبع بجبال الأديان والحكايات الشعبية وألف ليلة وليلة، وصولاً إلى جبال الحاضر في إيران والمكسيك والنمسا، جبال الديلم وجبل دماوند وجبل الحياة أو سيرو دي لابوفا وذاك الجبل في مدينة “إنسبورك” بالنمسا.. إلى آخر بقاع الأرض، بما فيها بالطبع القاهرة المصطخبة بغبارها وضجيجها في أتون ثورة يناير. الشخصيات كلها تقريبًا، خياليها وواقعيها، مهووسة بالرحيل الدائم، تجتاز المسافات وتخترق الحجب، تنفتح على الأساطير والأعاجيب، يسوقها سحر كامن قديم عجيب لم يفارقها يومًا، بما في ذلك أيامنا هذه. وهو سحر لسبب ما، يتجلى أفضل ما يتجلى، ويكشف عن آياته في النساء على وجه الخصوص، وفي بعض الرجال المقدسين الذين حكت عنهم الأديان والحكايات، كإيليا وبلوقيا.

ترحل الراوية الأساسية، واسمها “بستان البحر”، على مساحة الأرض الحاضرة منذ مولدها في ستينيات القرن العشرين إلى اليوم، وتحكي ما دار هنا وهناك، تعرف ما حدث في الأزمنة الأولى، وما يدور في نفوس البشر والحيوانات والطيور والكائنات الغريبة، وتملك معرفة لم تُتَح لحكاء من قبل، هوس بالرحيل ومعرفة حصلتهما من جين أنثوي وراثي يصلها بملكات الحياة الدنيا والحياة الأولى والحكايات الشعبية، بزمردة ومروج ونور سين ومنار السنا، كما حصلتهما من كفاح ممض ضد مانعيها من الحكي والتدوين والمعرفة، حصلتهما من الحكايات الموروثة، ومن الكتب والرقوق.. “لا أرغب إلا في أن أكون

مثل منار السنا، لن أستخدم ثوب الريش سوى مرة واحدة في العام، أحلق به نحو الممالك والبلدان البعيدة، أحوم فوق جزر الواق واق، وجبلي الماس والمغناطيس، ووادي الحيات..” (ص 129). هكذا تقول بستان البحر في نهاية رحلتها إلى “ساوث شيلدز” المدينة البريطانية المبللة بالمطر، المنعزلة على بحر الشمال، حيث تبحث عن مخطوطات سحرية نادرة.

أما هدير، ابنة الطبقة الوسطى المصرية في قاهرة القرن العشرين، فيهيمن عليها تمامًا ولعٌ بالسفر والرحيل، بعضه جاء من جين وراثي صغير وبعيد، توهمنا الرواية أنه ربما وصلها من الجماعات التي قامت برحلة “النزوح إلى العالم”، بعد انهيار جبل قاف، وانسربت إلى كل جبال الأرض واختبأت عن الأعين. مغرمة هي بالسفر منذ أن أضاعت وهي طفلة خاتم أمها ذا الفص الزمردي وسط كومة من القش. وسط كتبها كروت وصور من كل العالم، من روسيا والصين وكوريا والبلاد الاسكندنافية..إلخ. قامت هدير برحلة خرافية إلى المكسيك، أهدتها إياها جدتها، التقت بكريم خان الذي أعادها في رحلة بحث في القاهرة عن بستان البحر. أما الرحلة الكبرى التي قامت بها هدير، فتلك الرحلة السحرية التي تنتهي بها الرواية ويتحطم الكون بأسره، رحلة بالنيابة عن كل النساء وكل البشر، “رحلة التجلي” كما تقول الراوية. رافقها كريم خان إلى شقة بستان البحر المسحورة في الزمالك، وفي مكتب بستان خان بدأت في قراءة حكاية “الفتاة التي أضاعت خاتم الزمرد”، و”مع آخر جملة قرأتها هدير، شعرت بأنها تطير، تطفو فوق العالم، بتفاصيله التافهة، بمشكلاته الجادة، بأسئلته غير القابلة للإجابة، كانت خفيفة، منسجمة مع نفسها ومع الكون من حولها، شعور رائع بالصفاء والتناغم مع الذات هيمن عليها..” (ص213) . وقد كانت هذه بداية رحلة خيالية كبرى إلى العالم الأول تنتهي بها الرواية، رحلة تلتقي فيها بالعجائب كلها.

رحلات أخرى كثيرة، ستقوم بها نساء كثيرات، وبعض الرجال القديسين في الرواية: زمردة ترحل من جبل إلى جبل ضد أعراف عالمها ثم تعود، ونور سين تختطف على متن العنقاء إلى جبل قاف، ثم تخترق المحظور وتجتاز جبل قاف إلى جبل المغناطيس وتختفي، وإيليا الباحث عن الليل، العملاق الأعمى الذي قطع آلاف الأميال بحثًا عن جبل الزمرد وأحجاره الفضية، وبلوقيا الصائغ الفارسي القادم من الطرف الآخر من العالم “التائه في سديم الزمن، الباحث عن المستحيل” الذي تلح عليه الهواجس أن يرحل ويتيه، فيقرر عدم مقاومة ولعه المقموع بالرحيل، يسرق الخاتم الثمين من محل معلمه ويقول لربان أكبر سفن الميناء”أرغب في السفر إلى حيث لم يذهب أحد قبلي، إلى آخر الدنيا حيث كل شيء مختلف عما عرفته وتعلمته” (ص 91) يخوض الأهوال في رحلة أسطورية طويلة حتى يطأ جبل قاف المستحيل ..إلخ.

من الطبيعي أن يكون الفضاء المهيمن على هذه الرواية هو فضاء الجبل، ليس لأن عنوان الرواية نفسه “جبل الزمرد”، ولكن لأن الشخصيات في الرواية لا تكاد ترحل إلا من جبل إلى جبل، وما أكثر الجبال في الرواية في عالمنا الأرضي وفي ذاك العالم الأول البعيد. الجبل كان عبر التاريخ محط اتصال الأرض هذا العالم بعالم آخر، في السماوات العلا أو في الجبال الأسطورية المحيطة بالأرض في التصورات الدينية والشعبية. الجبل مكان لاعتكاف الأنبياء والنساك والمتصوفة. “والأسمى من الجبال” – كما تقول الراوية – “فكرةُ الجبال، أن ترمق العالم من علٍ، أن تصير أنت الجبل وهو أنت”. وفي عرف الراوية بستان البحر أن المدينة الخالية من الجبال “بلا عرق يربطها بجبل قاف”. “وفي صباها كانت نور سين تسمع أباها يتحدث مع رفاقه عن جبل قاف، اعتاد أن يؤكد أنه ليس مكانًا حقيقيًّا، إنما جوهر الحقيقة صعبة البلوغ”(ص 26). هذا ما ورد في حدوتة نور سين التي استجمعتها الراوية من مصادر مختلفة. الجماعات الصغيرة التي ترسبت من النزوح الكبير من

جبل قاف إلى العالم، “كل جماعة يقودها حكيم، وتختار جبلاً معينًا للجوء إليه والاستقرار فيه، حتى يحين موعد عودتهم إلى جبلهم الأم ما إن ينتصب قائمًا من جديد.. وهكذا حتى استقرت الجماعات السبع في سبعة جبال” (ص 203). الجبال، مثل الجن والعفاريت والمجانين والحيوانات، هي مواطن صلتنا بعالم الغيب، بالعالم الغامض المجهول خارج عالمنا، سواء قبل حياتنا هذه على الأرض أو بعدها.

الحكاية هي تميمة الإنقاذ والخلاص في هذه الرواية. و”جبل الزمرد” كما يقول العنوان الفرعي، هي “الحكاية الناقصة من كتاب الليالي”. بستان البحر هي الحكاءة المنوط بها ملء ثغرات الحكاية وضم أجزائها معًا”(ص 9) يقول لها والدها “نحن غرباء أبديون” “لا شيء يبقى سوى الحكايات، تنتهي الذاكرة بموت صاحبها، وتظل الحكايات كذاكرة بديلة متوارثة” (ص 10) . كان النساك المتبقون من جبل قاف “واثقين من أن حكاية “جبل الزمرد” كانت الحكاية المفضلة لشهر زاد من بين حكاياتها الآسرة، وأنها التميمة السحرية التي حمتها من بطش شهريار”. ومع الوقت كما تقول الراوية، بدأ النساك المتحدرون من قاف في التناقص. حتى عقود مضت لم يكن قد تبقى منهم إلا سبعة: ناسك في كهف سري في جبل قاسيون بدمشق، وآخر في جبال زاجروس، وثالث في جبال الأطلس، ورابع في جبل سانت كاترين، وخامس يعيش في الهيمالايا، وسادس عند قمة جبل دماوند في إيران، وسابع على مقربة من أطلال قلعة ألموت بجبال الديلم، وكل ناسك منهم حريص على أن يختار بعناية قبل وفاته، ناسكًا آخر، ليحمله عبء الحكاية”..” (ص18).

الحكي والحكاية، مثل الجبل، أشد الكلمات تداولاً في رواية جبل الزمرد. عطش للحكايات لا يرتوي، حكايات من الخيال وعوالمه الغريبة، حكايات فرعية وحكاية من داخل حكاية. حكاية شفوية غير قابلة للمحو، ينقلها جيل لجيل وتنسرب من جين لجين، الكتابة كما تقول الراوية “انغلاق الدائرة، خيانة للمعنى ذاته”. الكتابة تعني اكتمال الحكاية، ولا شيء مكتمل في هذا العالم”. الحكاية تميمة البقاء، والنساء حاملات عبء الحكي لأنهن كما قال جد مروج “أقدر على الإلمام بالتفاصيل، وتحليلها ووضعها في سياقها الصحيح، لو كان الأمر بيده لاختار من بينهن حكيمات وناسكات وكاهنات..” (ص205).

الحكايات الفرعية المتعددة في الرواية، تصلنا على لسان ومن وجهة نظر راويات ورواة متعددات ومتعددين. أما الحكاية الكبرى، فتقف على رأسها راويةٌ واحدة، هي بستان البحر التي تملك المعرفة الأوسع التي لا مثيل لها. ولأن هدير ابنة القاهرة في القرن العشرين تبدو وريثة عشوائية من وارثات زمردة الأسطورية، فإن الراوية تعطيها مشهد الرحلة الختامية والتعليق الختامي الذي يبدو تكرارًا حرفيًّا لبدء حكايتها مع تغيير طفيف. تبدأ حكاية هدير مع بداية الفصل الثالث من الرواية على هذا النحو: ” أضاعت هدير زمردة في طفولتها، وقدرها أن تضيع طوال حياتها بحثًا عنها! من كان ليخبر الطفلة ذات السنوات الست أن خطأ بسيطًا، أو فعلاً منسيًّا نقوم به دونما قصد قد يرسم مصيرنا، لو لم يخلب الفص الأخضر البرّاق لبها، لو لم تشتهيه وهو يتوج بنصر أمها، لو لم تلتقطه خلسة من درج التسريحة، وتخرج به إلى حديقة بيت جدها، ، ويسقط منها في كومة القش، لو لم يحدث كل هذا، لربما عاشت هدير حياة أخرى، لربما ما كان لحكايتنا أن تكون، لكن من يمكنه إقناع الشابة الجامحة بهذا بعد أن كتب على مصيرينا التلاقي؟”. ستنتهي أحداث الرواية بما يبدو أنه تحطم الكون بأسره في نهاية رحلة هدير السحرية النهائية إلى جبل الزمرد، بعدها ستخلو بستان البحر إلى مكتبتها لتكتشف أن حكاية جبل

الزمرد قد عادت إلى مكانها في قلب كل طبعات الليالي، ثم تبدو منومة وتكتب وهي تغالب الانفعال، الكلماتِ السابقةَ نفسها، مع تغيير طفيف في الجملة الأخيرة، فبدلاً من “بعد أن كتب على مصيرينا التلاقي” تكتب: “بعد أن فات الأوان؟

تتركنا الرواية أمام انطباعات بعيدة غامضة، بأننا إزاء رحلة وجودية في البحث والاكتشاف، تذكرك بالإسراء والمعراج أو بحي بن يقظان أو بروبنسون كروزو أو بآلاف الرحلات الخيالية التي قام بها البشر الباحثون عبر التاريخ، رحلة البحث عن الحكاية الناقصة في كتاب الليالي، تقود الشخصيات النسائية والمقدسة برحلة بحث مضنية عن البعد الغامض الناقص في وجودنا على الأرض، لكن الرواية تكاد تقول في النهاية بأن النقص هو قانون الوجود وسره؛ فالكتابة واكتمال الدائرة يعني الفناء ونقصان المعنى واللعنة وتحطم الكون، النقص هو سر مواصلة السعي والحركة.

الرواية مبطّنة في مواضع متعددة بهمٍّ ميتافيزيقي غامض، لكنه همٌّ يراوِدُنا، ولا يكاد يتجلى على السطح. هناك لمسٌ رقيق للقضايا الميتافيزيقية الكبرى – وربما القضايا السياسية أيضًا، خصوصًا في مصر – لكنه لمسٌ من بعيد، دون انخراط أو تورط يوحي بالفهم الكامل. كان يمكن لهذين الهمين (الميتافيزيقي والسياسي) لو ظهرا على السطح في جبل الزمرد، أن يدمرا ما أنجزته الرواية، لولا أن المؤلفة ظلت واعية بهذا من البداية إلى النهاية، وإن تبدى الهم السياسي أكثر مما ينبغي قليلا في فصل “في الضباب”، ومن خلال أفكار هدير وجدِّتها.

منصورة عز الدين وريثة سلالة طويلة من الحكّاءات، يبدأن بزمردة النادرة هناك في عالم ما قبل الحياة، ومرورًا بشهر زاد الشهيرة، ووصولاً إلى بستان البحر وهدير. ولم يكن مستغربًا أن تتمكن من ضبط إيقاعات الحكاية وقطع الحكايات الفرعية المتعددة وتوصيلها، إلى أن تلتئم في نهاية الرواية. وأهم ما يميز العمل وصاحبته، ليس فقط امتلاك خيال بلا حدود، تغذيه التجربة والقراءة، وإنما أيضًا امتلاكُ لغة مطواعة على نحو مدهش، تلامس الحكايات الأسطورية من ناحية، وتلامس الشعر وإيقاعاته من الناحية الأخرى، من أن تفارق حياتنا وهمومنا اليومية.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم