حكايات من الحياة .. حكايات من السينما (3/3)

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

3- "نانسي/ماري"

 (1)

عرفتك منذ النظرة الأولى .. واللقاء الأول، أنت هي .. "نانسي/ماري"، تلك الشخصية المزدوجة من "الوعد"، تلك التي تجمع بين البراءة والكبرياء، فرأيتك في مشاهد الافتتاح القصيرة المتوالية، التي قد تبدو بريئة ساذجة .. لكنها صادقة ومؤثرة، وبمصاحبة الأغنية الجميلة الموحية تتوالي المشاهد كلوحات تعبر عن علاقة الحب النامية بينك أنت "نانسي" الفنانة التشكيلية الشابة ذات الأصول البسيطة، ورجلك "مايكل" سليل العائلة الثرية، تلك المشاعر البسيطة الصادقة التي تجمع بين شاب وفتاة في مقتبل العمر، يحملان قدرا من الطفولة والبراءة بداخلهما، هكذا تبدأ الحكاية، وهكذا يهبك "مايكل" العقد الأزرق زهيد الثمن الذي ربحه من أجلك في الكرنفال ليكون رمزا لبساطة الحكاية .. وبساطة العلاقة، وحين يطلب منك الزواج يأتي الوعد بالإخلاص والارتباط إلى الأبد، تقولين له: "لا أريد العالم بأسره، أريدك أنت"، فيجيبك قائلا: "لقد حصلت علي"، هكذا تحت السماء وبين الأشجار، وفوق مرتفع يطل على أمواج البحر تعدينه عند الصخرة بأنه مقدر لروحيكما أن تتحدا وتصبحان كيانا واحدا، وأنه لن يفرقكما شيء، فطالما بقي ذلك العقد وتلك الصخرة .. ذلك البحر وتلك السماء، فإنك لن تنسي أبدا ذلك العقد وما يرمز إليه، وعندما تطلبين منه أن يعدك هو الآخر، يتطلع إليك مأخوذا بصدقك وبراءتك وحبك له وللحياة، فلا يجد من الكلمات ما يستطيع قوله إلا أن يعدك بألا يقول لك وداعا أبدا، هكذا تنمو الحكاية بينهما بريئة ساذجة .. جميلة وصادقة، كجمال اللوحة التي ترسمها "نانسي" والتي ستصبح مفتاحا من مفاتيح تلك الحكاية البسيطة، هكذا يستعدان للزواج غير عابئين بأن العالم من حولهما ليس بمثل هذه البراءة .. ولا بمثل هذه السذاجة، وأن الفوارق الاجتماعية، والمال والسلطة والمصلحة، وحب التملك والسيطرة، تطغى على كل شيء فيما عداها، وتدهس المشاعر البسيطة الساذجة بين البشر، وحين يواجه الشاب الباحث عن السعادة "مايكل" أمه بتلك المشاعر البريئة الصادقة، وبرغبته في الزواج من فتاة أحلامه، تصدمه بلغة المال والسلطة والمصلحة، وبأن زيجة كهذه سيكون لها آثارا سلبية عليهم، فتكون المواجهة .. ويكون الصدام، ساعتها يقرر "مايكل" أن يضحي بهم جميعا، وبالمستقبل الواعد الذي تعده به الأم، أن يرث ويدير أعمال وأموال العائلة المتشابكة، لكنه يختار الحب والحياة والسعادة، يختار فتاته الفنانة البسيطة، غير عابئ بما يخفيه له ولها البشر والقدر.

(2)

كنت هناك في تلك اللحظة، اللحظة التي يقرر فيها “مايكل” رغما عن كل شيء أن ينفذ قراره ويتزوجك، فيستدعي صديق عمره ويحملك إلى سيارته، تتوجهون ثلاثتكم لإبرام عقد الزواج، في تلك اللحظة بعينها تكون الحادثة المروعة، فيقف القدر في صف الأم ويمنحها الفرصة كي تعيد تشكيل مسار الأحداث على هواها، فها هو “مايكل” راقد في غيبوبته، وها هي “نانسي” قد حطمت الحادثة وجهها بالكامل، فصارت امرأة بلا وجه، أو بوجه بشع مخيف عدمه أفضل من وجوده، فتستغل الأم الفرصة .. وتعقد الصفقة، الصفقة التي ستعيد إليك .. أنت “نانسي” وجهك كما كان عليه، بل ربما أفضل مما كان عليه، تثير مخاوفك بأن “مايكل” عندما يستفيق فلن ترغبين أبدا أن يراك على مثل هذه الحالة من التشوه والبشاعة، تخبرك بأن الأمر ليس هدية بل إنك ستدفعين الثمن، والثمن هو أن تبتعدين عن “مايكل” بصورة نهائية، فتكون القطيعة إلى الأبد، ويكون الفراق إلى الأبد، تستسلمين للمقايضة .. وهل كان بيدك خيار آخر؟ فتعدينها وعدا مخالفا للوعد الأول، ذلك الوعد الذي وعدتيه “مايكل” عند الصخرة، ثم تكمل الأم ما انتوت عليه، وتبدأ في الاتصال بالجراح الذي سيعيد إليك وجهك أفضل مما كان، وتبرم معه الاتفاق، ولكي تكتمل خطتها تخبر “مايكل” .. حبيبك أن الموت كان هو نصيبك من تلك الحادثة المرعبة، تكذب عليه لتقطع تماما أي فرصة لإعادة التواصل بينكما، لحظتها يفرض المال سطوته فيربح المعركة، لحظتها يلعب دوره في القضاء على الحكاية البريئة الساذجة، فيسحق المشاعر الجميلة الصادقة، لحظتها يتباهى بقدرته على تغيير مسار الأحداث إلى المسار الذي أرادته الأم حتى لو كان ذلك عن طريق الكذب والخداع.

(3)

وها هو “مايكل” يتعافى على مهل من تبعات تلك الحادثة المشئومة، يتعافى بدنيا .. ويتعافى نفسيا، يتعافى من ذكرى فقدك، أنت التي تمثلين الحياة .. كل الحياة بالنسبة إليه، أراه وهو يستعيدك لمرة أخيرة بزيارة خاطفة إلى المكان الذي يشهد على ذكريات حبكما البسيط الساذج، يستعيد الذكرى لتبقى بداخله إلى الأبد، فيغلق قلبه وحياته عليها، وينهمك بالكامل في العمل، فيتحقق لأمه ما أرادت أن يكون، يكرس وقته وحياته للمال والسلطة والمصلحة، وتبقين أنت في أعماقه، تمثلين له الحياة الحقيقية، الحب والدفء والطمأنينة، وهكذا تدور به الطاحونة مستسلما لها، عاجزا عن استعادة طعم الحياة وبريقها الذي كان، عاجزا عن الاستمتاع بالحب من جديد، فيعيش رجلا بلا روح .. رجلا بلا مشاعر، أما عنك أنت “نانسي” فقد كنت خلال تلك الفترة الطويلة نفسها تخرجين من غرفة العمليات لتعودين إليها، سلسلة متعاقبة من العمليات الجراحية لاستعادة وجهك الذي تهشم، أو بمعنى أصح إعادة بنائه من جديد على يد ذلك الجراح البارع، وتعويضا عن وجهك الذي تغير بصورة كاملة فأصبح غريبا عنك، تخوضين رحلة البحث عن روحك .. عن شخصيتك .. عن موهبتك وفنك، فتستعيدينها من خلال التصوير وتتفجرين إبداعا من جديد، وتختارين لنفسك اسما جديدا لحياة جديدة .. “ماري”، وتضعين لمساتك الأخيرة على تلك اللوحة التي بدأتها “نانسي” وأنهتها “ماري”، هكذا تمضي الحياة بكما في طريقين مختلفين يفصل بينكما آلاف الأميال، لكنهما طريقان قد يلتقيان ذات يوم.

(4)

وها هي إرهاصات اللقاء المستبعد بين “ماري” و”مايكل” تلوح في الأفق، رأيتك ساهمة عند التقائك المفاجئ مع صديق “مايكل” المقرب “بن”، من كان يفترض أن يكون شاهدا على ذروة سعادتكما وعقد زواجكما، فناله هو أيضا نصيبه من تلك الحادثة المشئومة، يدهشك أنه لم يتعرف عليك، وعندما يعرض عليك العمل لحساب الشركة التي يديرها حبيبك “مايكل” ترفضين بحزم، وتتركينه مندهشا من تلك التي ترفض فرصة لا تعوض لإدراك المال والشهرة، وعندما يتصل بك “مايكل” هاتفيا لإقناعك يباغتك الأمر ويهز أعماقك هزا، فتتلعثمين ولا تتمكنين من التفاعل معه، ثم تتمالكين نفسك وتصدينه بعنف، وترفضين أن يلتقي بك عند حضوره إلى مدينتك، ثم رأيتك في ذلك المشهد الهائل الذي تنهمك فيه “ماري” في العمل بالأستوديو الخاص بها، فيتملكها الذهول وتشلها المباغتة حين يدخل عليها من حيث لا تدري رجلها الذي فرقت بينها وبينه حادثة مرعبة وتفاصيل مؤلمة، تلك الحادثة وتلك التفاصيل التي وضعت حدا لعلاقة الحب البريئة الساذجة بين “نانسي” و”مايكل”، وأعطت لها وجها جديدا وحياة مختلفة بعيدا عن حبيبها، يدخل عليها والضوء مسلط على وجهه يجبره على خفض بصره، بينما هي في الظلام تراه ولا يستطيع هو أن يراها، يخاطبها دون أن تتضح ملامحها له فيما تنتفض هي بكل كيانها، وعندما تنير المصباح فيبين له وجهها تأخذه المباغتة هو الآخر فيتواجهان ويسود الصمت لثوان، تأخذه النظرة الهائلة في عينيها، وتتحرك بداخله مشاعر غامضة، أتكون هي التي لا يعرف سوى أنها فارقت الحياة في تلك الحادثة المشئومة؟ أتكون هي صاحبة الحب وصاحبة الوعد؟ لكن كيف يكون ذلك؟ يبدو الأمر مستحيلا بالنسبة إليه، الأيام تمضي ثقيلة تسحق روحه وتقتله كل يوم ألف مرة، فيما لحظة مثل تلك اللحظة، ونظرة مثل تلك النظرة، ومشاعر مثل تلك المشاعر، تساوي عمرا بأكمله، فماذا لو كان العمر كله كتلك اللحظة .. أو كتلك النظرة؟

(5)

أتابعك “مايكل” وأنت تحاول جاهدا أن تقنع “ماري” بفكرة العمل معك، تقاوم صدها لك وتغريها، وعندما تعلم أمك بأمرها يساورها الشك، أتكون هي التي أزاحتها عن طريقك وعقدت معها صفقة شيطانية في لحظة ضعفها واحتياجها؟ تقرر أن تستكشف الأمر بنفسها فيصدق حدسها، وتكون المواجهة بين المرأتين، لكنك “ماري” هذه المرة وعلى عكس المرة السابقة تبدين في أوج قوتك وذروة تألقك وثقتك في نفسك وفنك، فتواجهينها بما ارتكبته في حق ابنها وما آل إليه حاله، وما فعلته بعلاقة الحب البريئة الصادقة التي تآمرت عليها، تتركينها لتواجه نفسها بما فعلته، ولتعرف معنى الندم ربما لأول مرة في حياتها، حينها يقرر صديقك الطبيب البارع الذي أعاد إليك وجهك كأجمل ما يكون، والذي وقع جزئيا في حب ذلك الكائن الجميل الذي ساهمت يداه وخبرته في إعادته إلى الحياة أن يخلصك نهائيا من آثار الماضي، فيخوض معك تجربة مشابهة لتلك الحادثة المروعة التي دمرت حبك وحياتك، لتكون تلك التجربة جزء من العلاج النفسي الذي تحتاجينه لاكتمال شفائك، آملا أن تجدي في نفسك الرغبة والقوة لإهمال الماضي بكل ما يمثله لك، والتطلع معه هو وحده إلى مستقبل مشرق يكون هو جزء أساسيا منه.

(6)

لكنك يا “مايكل” لا تيأس ولا تكف عن المحاولة، شيء ما يجذبه إليك ليس فقط فنك وموهبتك، شيء في أعماقه وأعماقك، لكنه شيء غامض غير مفهوم يناقض ما لديه من وقائع حول رحيلك الأبدي في تلك الحادثة المشئومة، تعترف لها بذلك فتشفق عليك لكنها لا تستطيع أن تخبرك بالحقيقة، الحقيقة التي أخفتها عنك أمك، والتي تعجز هي عن أخبارك بها، فتحاول مرة بعد مرة اجتذابها إليك، بكل الطرق المعقولة حينا والمتطرفة حينا آخر، وعندما تسألينه عن أثر الجرح الذي برأسه، يتهرب من الأمر ويخبرك بأنه ناتج عن حادثة صغيرة، وأنه قد نسى كل شيء عنها، تصدمها إجابتك، وتثور في وجهك وتتهمك بعدم الالتزام وعدم الولاء، تتحير يا “مايكل” من ردة فعلها الحادة وتسألها: “لماذا أنا؟ ما الذي تأخذينه ضدي؟”، فيرحل كل منكما غاضبا متحيرا، وتتصاعد الأحداث وتتابع المشاهد، فتلجئين يا “ماري” إلى طبيبك وصديقك البارع، وتخبرينه برغبتك في الذهاب إلى المكان الذي يشهد على الحب .. ويشهد على الوعد، يحاول أن يثنيك عن عزمك، لكنك تصرين وتطلبين منه أن يكون في انتظار عودتك، أما “مايكل” فهو في تلك الأثناء هائم على وجه يحاول أن يستجمع أطراف الصورة، وعندما يقرر الذهاب إليك لاستجلائها لا يجدك، فيذهب إلى طبيبك بحثا عنك، وبحثا عن إجابات محتملة لأسئلة كثيرة تمزقه، وعندما تحدث المواجهة بينهما ويلكمه في وجهه، يقع أرضا ويسيل دمه، لحظتها يرى اللوحة .. تلك اللوحة التي بدأتها “نانسي” وأنهتها “ماري”، لحظتها تتكشف الحقيقة سافرة أمام عينيه، فيدرك أنك أنت هي، ويدرك كم كان غبيا لتجاهل وجودك، أنت هي .. “نانسي/ماري”.

(7)

وتتابع المشاهد تشدني إليك وإليه، أتابعك “ماري” حين تذهبين لاستعادة العقد من تحت الصخرة، من ذلك المكان الذي يشهد على حبكما ووعدكما، تظنين أنك ذاهبة للتخلص نهائيا من ذكرى تلك العلاقة البريئة الساذجة، لكن القدر لم يقل كلمته الأخيرة بعد، فتتفاجئين باختفاء العقد، وتتفاجئين بظهور “مايكل” .. حبيبك ومعه العقد، يخبرك أنه مسئول عن حمايته، يخبرك بالخدعة التي تعرض لها عندما قيل له أنك قد توفيت، وحفاظا منه على الوعد وخوفا على العقد وما يرمز إليه فقد احتفظ به معه، يتعجب كيف أنه لم يتعرف عليك، رغم أنك تملكين عينين تحملان تعبيرا لا مثيل له، وجمالا لا يمكن تخيل أنه يموت، وهكذا تحدث المعجزة .. وتتغلب حكاية الحب البريئة الساذجة على المال والسلطة والمصلحة، على غدر البشر ومكرهم، فيستعيد الحبيبان بعضهما البعض، وعلى وقع الأغنية الجميلة كما في مشهد البداية يوقعان مشهد النهاية كأجمل ما يكون، وكأروع ما يكون، نهاية تمنح أملا لي ولك، لكل عاشقين فرقتهما أطماع البشر، وعوائق أخرى اجتماعية واقتصادية، وغيرها من العوائق التي لا تعد ولا تحصى، صغيرة كانت أم كبيرة، المهم أن الحب قد انتصر .. والأمل قد انتصر، ولو في مشاهد على الشاشة وأمنيات في الحياة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“الوعد”                                       The promise 1979

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون