حكايات الدقائق الثماني

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن

طَلع البدرُ

في كل صباح، ينهض من فراشه مستبشراً آملاً. يتبلغ ببضع تمراتٍ على عجل، ويأخذ طريقه، المعتاد منذ أيامٍ، إلى “ثنيَات الوداع”، حيث يمضي سحابة نهاره، وحتى غروب الشمس، مُستطلعاً بزوغ فجر الرْكب المنتظر، قبل أن يرجع للدار، في نهاية المطاف، خائباً حزيناً.

أياماً، طويلة كثيرة، أمضاها في الترقب والانتظار، من دون أن يساوره الشك، ولا للحظة واحدة، بورود الواردين، بوصول الواصلين، الذين طيرت رياح الصحراء العربية خبر قدومهم، وبعثرته مع سحابات الغبار الأصفر الكثيف. وهكذا، راح يسلي نفسه، ويراود أشباح وحدته الهازئة، بصياغة أهزوجة الفرح التي سيلقى بها القادم.

وصباح بعد صباح، يوم إثر يوم، عام بعد آخر، قرن من وراء قرن، ظل شيء ما بداخله يشتغل على تجويد الأغنية، وكذا على نسيان مناسبتها وصاحبها الذي لا يأتي، أبداً. وفي الصباح الأول بعد الأخير، وبعد حوالي خمسة عشر قرناً من انتظار منْ لا يجئ، ربما فهم، وإنْ متأخراً كثيراً، أن الغاية، الخفية، من خروجه، المُلتبِس، باتجاه “ثنيَات الوداع”، لم تكمن في استقبال المهاجر، بل في صُنع الأغنية.

**

ربما ليسَ أبداً!

بكيفيةٍ ما، عرف دائماً أنَه سيواصلُ العيشَ، حتى بعد أن يوسدوه الثرى المبتلَ، ويسدوا أمامَه بوابةِ الخروجِ، الأخيرةِ المُقَببة، فالعناصرُ الاثنين والتسعون التي يزدحم بها وجوده، من قبلِ أنْ يوجَد، والمُدرجةُ ضمن قائمةِ الدوامِ الكوني، غير قابلةٍ للتلاشي.

لا، لم يكن السؤال يبحث فيما إذا كان سيبقى، أم سيفنى، بل في إمكاناتِ وطبائع البقاء. وكذلك لم يكن سؤالاً عن المغزى أو الغائية، وإنما عن الطريقةِ والكيفية.

فكَر، بأسى، في هذا الجنسِ البشري الأحمق؛ في همومِه ومساعيه وشغفِه لاستجلاءِ المصير وإدراكِ معنى الوجود، في تنقيبِه البائس بحفرياتِ البداياتِ، وفي تحديقِه اليائس بجِنانِ الأكوانِ والنجمات، وفي لا يقينية كلِ يقينٍ يبدعه له شوقُه وولعُه!
– إذن، أراكَ قد وضعتَ قدماً بين أولئك المؤمنين ممنْ تُنكِر عليهم إيمانَهم. تهانيَ.
تذوق بأسى، صامتٍ رزين، الطعمَ المالحَ لسخريتِه المُعتَادة. سرح ببصرهِ في اتجاهِ الموجِ المُنقلبِ زبْداً مِلحياً يشي بهشاشةِ العناصرِ التي يتدرع، عقلياً، بخلودِها وبلا نهائيتِها. زفرَ بصوتٍ لا يكادُ يَبين:
– ليسَ بعد يا صديقي، وربما ليسَ أبداً.

***

هدية عيد الميلاد

في صبيحة يوم عيد ميلاده السابع والخمسين، فتح عينيه ببطء وتكاسل، واستمر مستلقياً على فراشه الدافئ، غير راغبٍ بالنهوض. لم يفكر هذا الصباح، وكما اعتاد أن يفعل لعشرات السنين، في مد يده إلى الجانب الآخر من السرير، ليتحسس جسدها، ويواصل اغفاءته، راضياً متلذذا،ً بفكرة وجودها هناك. وعِوضاً عن ذلك، راح يغمض عينيه، ويتصنع النوم، مستشعراً تصاعد أنفاسها الرتيبة بالجوار. كانت قد عبرت له خلال الليلة الماضية، ربما خلال كل الليالي الماضية، عن سأمها وضجرها وبرمها، هي أيضاً، بحياتهما المشتركة، ملوحة بعزمها على إنفاذ قرارها، الوشيك، بالخلاص من ذلك كله. لم يعرف ما الذي عنته، بالضبط، بقولها ذاك، غير أنه أوجس شراً، كبيراً مستطيراً، على أية حال. ساعتها، ولدهشته الكبيرة، استطاع أن يميز، بداخل روحه، ظلاً من راحة أخذت تتراقص، بتهتك مثير، على ستائر مسرح الذاكرة والرجاء.
– لن أذهب بها إلى الساحل لتمضية بضعة أيام، وسيرفعون أسماءنا من قوائم المستحقين لدعم أرغفة الخبز التموينية.
هجس لنفسه، مرتبكاً، غير قادرٍ على تحديد ما إذا كان عليه أن يبتهج أو يبتئس لذلك؛ من ناحية، فقد أرضاه انتقامه، التافه ذاك، منها، ومن الناحية الأخرى، فقد كان طبيعياً أن يستشعر، بداخله، مدى تفاهة وبلاهة هذا الانتقام.
– أنتقم منها لأنها لم تعد منشغلة بي.
– أهذا كل شئ؟
تردد، قليلاً، قبل أن يتورط في ردٍ غير محسوب، ثم قال:
– لا، ليس هذا كل شئ، ثمة أشياء أخرى أعلمها أو لا أعلمها.
أحس باللمسة، الرقيقة الباردة، فوق وجنته، صعوداً إلى عينيه وجبهته. شق زاوية عينه، ليراه واقفاً عنده مباشرة. راعه أن يقترب منه، أثناء غفوته، هذا القرب كله، ليصبح، وكما يقولون حرفياً، واقفاً على رأسه. ابتسم له، وهمس بنبرة آمرة وجازمة:
– انهض حتى لا يتأخر بنا الوقت.
لم يجد أمامه مفراً من الصدوع للأمر. أخذ يحدق فيه بفضول، وبرعب مكبوح؛ راعه طول قامته، غير الاعتيادي، تحت الملابس السوداء الكاملة، لكن أشد ما راعه كانت نظراته، وبدت له عيناه كشريحتي كريستال، شفافتين ومتوامضتين، وبرغم ذلك مجبولتين من العتمة والطين، أو فلنقل من عتمة الطين المصهور بالنار.
– أتيتك بهدية ميلادك.
هتف به، وهو يمد يده، الناعمة البضة، بأصابعها، الطويلة المسحوبة كأصابع عازف “أورغون” باروكي، بلفافة، على هيئة عصا قصيرة، مربوطة بأناقة. أمسك بالهدية، لثوانٍ، قبل أن يضعها على “الكومودينو” الملاصق للسرير، حتى نبهه الصوت بلومٍ:
– ألا تفضها لتعرف ما فيها؟
لسببٍ ما، لم يجد بنفسه ما يكفي من الرغبة لمعرفة طبيعة تلك الهدية. هز رأسه لمحدثه بعنادٍ:
– لا يهمني.

– أعرف، وهل كنتُ لآتيك بهديتي لو أن الأمر يهمك؟
عاجله الزائر الأسود بصوت، معدنيٍ رنان، مقرونٍ بابتسامة، خبيثة حقود، ثم تابع:
– لكنك ربما ستهتم، قليلاً، حين تعلم أنها هديتي قبل الأخيرة لك، فهيا، خذها وافتحها.
فض اللفافة العصوية بنوعٍ من التسليم، وكم كانت دهشته لمَا وجدها عبارة عن “فلوت” أنيق رشيق بدا قديماً، موغلاً في القِدم، برغم لمعانه الباهر الذي يخطف الأبصار.
– الآن، أمامنا سنة أخرى كاملة لنتعلم كيف نجيد العزف عليه، ولنؤلف قداسنا الجنائزي الخاص، من بعد.
همس الزائر، بافتتان، قبل أن تنتشر، في أرجاء المنزل، نغمات موسيقى “راقيم” لموتسارت.
– أكرر، هذه هديتي قبل الأخيرة لك.
أمسك الناي بيده، وجرب أن يضع رأسه بين شفتيه، ويشرع بالنفخ. لم يجد الأمر مستحيلاً كما خشي دوماً. ألقى بنظرة حانية باتجاه زوجته النائمة، لا تزال، في الفراش، وقصد المطبخ ليعد لنفسه كوب شاي ساخن كعادته كل صباح.

**

ثماني دقائق

 

– هي ثماني دقائق لا غير!
فكَر بأسى وتسليم، موقناً أنها النهاية هذه المرَة؛ النهاية التي لن تعقبها أية بدايات أخرى، بحالٍ.
– وهل أنت متأكد من ذلك؟ وما يدريك أنه كما خرج العالم، في المرَة السابقة، من بيضته الكونية، التي تتكسر الآن، والتي لن يكون لها وجود بعد دقائق ثمانٍ لا غير، لن يعاود خروجه للوجود مجددًا؟ ما يدريك أنه ما خرج لهذا الوجود، من قبل، مرِات سابقات بلا عد؟.
قال لنفسه، وهو يتابع، بجزعٍ وإشفاق، هرولة الحشود، التائهة تحت أنظاره، على كل الطرقات، وتلتقط أذناه صرخاتهم، لعناتهم، ضراعاتهم، صلواتهم، ابتهالاتهم، وشتائمهم التي راحوا يطوحون بها في الاتجاهات الخمسة؛ شرقاً وغرباَ، شمالاً وجنوباً، ثم أعلى فأعلى باتجاه السماء التي تتخلل سحبها، القليلة المتهافتة، آخر شعاعات الشمس التي انطفأت قبل نحو ثماني دقائق، غير مصدقين أنها نهاية ما سيهبهم نجمهم الأم، الميت منذ الآن، من ضوء وطاقة، ورافضين قبول ما تعلموه في دروس الفيزياء الكونية الأولية من أن ما يعاينون، في لحظتهم الراهنة، ليس سوى صورة لهذه الطبيعة، ولتلك السماء، في الماضي بالذات، وأن شمسهم قد استنفدت، كليةً، مخزونها الطاقي، وخمد مرجلها المشتعل لنحو عشرة بلايين من السنين، وأن الظلام الأبدي موشك على الهبوط، فقط خلال دقائق ثمانٍ.
عارفاً أن إنكار الحقائق الطبيعية غير مجدٍ، كما أن التمرد على حتميتها تفاهة وصبيانية، راح يفكر في أفضل السبل المتاحة لتزجية واستثمار هذه الفرصة الأخيرة الممنوحة له وللعالم؛ هذه الدقائق الثماني الثمينة.
جال بخاطره كل النساء اللواتي أحبهن وأحببنه، خذلهن وخذلنه، خانهن وخنه، كل ليالي العشق المشبوبة بالعواطف اللاهبة؛ بالقبلات والأحضان الدافئة، بدفق اللذة المنسرب من أعمق نقطة بأسفل عموده الفقري، بالنوم الهانئ اللذيذ بعدها، باللعنة وبالندم، بمرارة مذاق الإثم المغوي، أو باليقظة العابرة في الحلم على لثم الشفاه الرقيقة وأنفاس الغرام العطرة. جال بخاطره كل الأهل والأصدقاء؛ الأبناء والأخوة والوالدين، رفاق الصف المدرسي، المشاكسين السعيدين، ورفاق السفر، الفرحين أو المكروبين، المغروسين بطين الأرض أو التائهين العابرين، في تلك الرحلة، الطويلة المدهشة، التي يطلقون عليها اسم الحياة، وكذا كل الأعداء؛ الكارهين، والحاسدين، والشامتين، القتلة المقتولين، الطامعين، واللا مبالين.
جال بخاطره كل البلدان، البعيدة الرائعة، التي حمل أشواقه وأحلامه وأوهامه إليها مسافراً، وكذا كل البلدان، الأشد روعة، التي لم يتسن له أن يطأ ترابها بقدميه وظل يتوق لبلوغها يوماً ما.
جال بخاطره آلاف الكتب التي قرأها، وآلاف الآلاف غيرها التي لن يقرأها أبداً، المعرفة التي حصلها، أو توهم أنه حصلها، والحكمة التي تاق إليها، وما بلغ شطآنها المحجوبة في الظلال والعتمة، الأغنيات والموسيقى التي عشقها وراح يرددها صباح مساء، وتلك التي نسيها، ملَها، أو هجر حبها.
وجال بخاطره الامتداد، الأزرق اللا متناهي، لبحر مدينته، تكسُر الموج المندفع قرب الشاطئ الرملي، وانقلابات الزبد، الملحي الأبيض الهش، المعطر بروائح اليود والطحالب، الخضراء البنية، تَسلُق الشمس على كتف المدينة، وصعودها، رويداً رويداً، نحو قدر الغياب عند رأس الميناء الغربي، خلف قلعة قايتباي، ثم صفحة السماء السوداء، اللا محدودة والملغزة، والأنجم البعيدة تتوامض وتأتلق لبشرٍ يحدسون أنها ميتة من قبل أن يولدوا.
آلاف الخاطرات والصور والأفكار التي عبرته خلال هذه الدقائق الأخيرة، ثم لم تخلف له من شعور غير تعميق الأسى، أو ربما الإشفاق، على كل ما قد كان؛ كل ما لن يكون ثانية، أبداً، على الأقل بالنسبة له.
وفيما هو سادر في حلمه الختامي، راح الليل يهبط على الوجود، بسرعة، ويدهمه. اقتعد صخرة ضخمة فوق الحاجز الحجري للكورنيش، وأسلم نفسه للماء، للملح، للبرودة، وللظلمة. عقفت فمه ابتسامة صغيرة شاحبة وهازئة، ثم غفا.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون