حسين الذي….!!!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قصة : محمد فتحي *

منذ اليوم الذي عرفت فيه حسين كان هادئًا رغم استفزازي المتكرر له.

أقول له: "يا تخين"، فلا يرد.

"يا فشلّه"، لا يرد.

"يا مرات العسكري"، لا يرد، وإنما يرد الأستاذ مكرم بعصاه الغليظة التي أسماها عزيزة -غالبًا– على اسم أمه.

في نهاية يومنا الدراسي الأول في أولى ابتدائي بمدرسة الشهيد مصطفى الطباخ بالشرابية فصل 1/4 عرفت لماذا لم يتحرك حسين؟، ولماذا لم ينزل الفسحة ؟، ولماذا لم يرد على استفزازاتي المتكررة؟.

حسين..........

قعيد.

عنده شلل أطفال يجعل من نصفه الأسفل مخدرًا بالكامل، ومن نصفه الأعلى مترهلاً بفعل الجلوس الدائم. ذهبت إليه وأنا أربت على كتفه : "ما كنتش اعرف انك مشلول".

رد: "ولا أنا".

صار حسين – أو الحسين كما هو اسمه في قائمة الفصل والذي سبب له العديد من المشكلات بسبب حرفي الألف و اللام- صديقي الحميم.

أذهب لألعب معه يوم الجمعة بعد الصلاة، وأدفع كرسيه المتحرك أمامي وأنا أغازل به السيارات ونحن نعبر الشارع في طريقنا للمدرسة، وأعاونه على الجلوس في مقعده قبل أن أتقاسم معه السندوتشات في مرح، ويكون يوم سعدي هو اليوم الذي يحضر حسين معه سندوتشات البسبوسة فأبادلها معه بكيس الكشري، فلم نسمع وقتها عن الاختراع المسمى بالفراخ البانيه أو الاكتشاف المدعو (هامبورجر)، وكنا نظن حين سمعنا لفظ (كاتشب) للمرة الأولى أنها سبة، لدرجة أنني كنت أشتم العيال التي أتخانق معها قائلاً لهم: يا ولاد الكاتشب.

لكن حدث ذات مرة أن نسيت مصروفي في البيت وكانت أمي مريضة فلم تعد لي أي ساندوتشات تذكر، ولما قلت لحسين إنني جائع قال لي: تاكل إيه؟

سألته مستهينًا: وانت يعني معاك أكل ؟، لكنه ردد بإصرار: تاكل إيه بس قل لي؟

رددت مازحًا: فراخ، وعلى الفور أخرج حسين من شنطته الصغيرة ساندوتش فراخ أعطاني إياه متجاهلاً نظراتي الذاهلة، وحين أكلت منها زاد ذهولي، فقد كانت تبدو كما لو أن أمي هي من صنعتها وأعدتها، وحين سألته: جبت الفراخ دي منين ؟ قال لي بحزم: كل وانت ساكت، دي من عند ربنا.

تطلعت إلى شنطته الصغيرة التي لا يوجد بها سوى كتاب وزمزمية فرغت قبل أن نصل للمدرسة فقال لي: تشرب حاجة؟.

اعتبرت أن الأمر الآن سيدخل في طريق المزاح فقلت له: بيبسي لو سمحت، وعلى الفور أدخل حسين يده في الحقيبة وخرج بها حاملة علبة كانز بيبسي.

قلت له وأنا اشرب بتلذذ مستمتعًا ببرودتها: منين يا حسين، فرد: من عند ربنا.

سألته: هو ربنا عنده تلاجة ؟. ضحك وقال: ربنا عنده كل حاجة

فيما بعد كان من الممكن أن أتعامل مع تلك الواقعة على أنها حلم، خاصة بعد أن كبرنا ودخلنا نفس المدرسة الإعدادية، وفي الثانوية العامة، ولأنه معاق، أجلسوه معنا في اللجنة في امتحان الفيزياء – رغم كونه أدبي – لأنه جاء متأخرًا في صحبة والدته، لكن ما حدث بعد ذلك كان غريبًا، فبعد أن انهمك الجميع في الحل ترك حسين القلم فجأة قبل منتصف الوقت وهو يزفر زفرة ارتياح ويقول بصوت مسموع: الحمد لله .

سأله المراقب: خلصت يا حسين؟

– لسه حضرتك

– أمال سبت القلم ليه وما بتحلش

– كده كفاية حضرتك

– كفاية على إيه يا حسين

– مش عاوز أكتر من كده..كفاية 40 من 50.. ما جتش على العشر درجات دول!!

حاول المراقب أن يثنيه عن تركه القلم لكنه أصر على الاكتفاء بما كتب، وحين طلب إليه المراقب تسليم ورقته بمجرد بلوغ نصف الوقت ومغادرة اللجنة تمسك حسين بالجلوس لآخر الوقت وسط دهشة الجميع.

بسبست له: بست..بسسسست..ما تخرج يا ابني واللا مفيش حد يروحك ؟

رد بصوت خفيض: أنا قاعد عشانك يا بني آدم !!

نهرنا المراقب: بطلوا كلام، ثم سخر من حسين: طب انت أدبي وهو علمي، سيبه يتوكس لوحده

رد حسين: مفيش وكسة ان شاء الله..

أعطأنا المراقب ظهره، ووقف عند الباب يتبادل حديثه مع المراقب الآخر فناداني حسين: “قول دعاء فك الكروب واكتب أول 3 صح، وبعدين غلط غلط صح، والسؤال اللي بعده الكثافة بتساوي الكتلة على الحجم، والمسألة معكوسة، يعني عشان تجيب الكتلة اضرب الحجم في الكثافة يطلعلك الناتج، وياللا بسرعة عشان تلحق تحل الباقي”!

في هذه المرة فتحت فمي من كثرة الدهشة، فلم يكن حسين ينظر إلى ورقتي، ولم يكن يعرف شيئًا عن الفيزياء، والأهم من كل ذلك أنني بالفعل توقفت عن الحل عند هذين السؤالين تحديدًا، لكن حسين أشار لي بعلامة السرعة في الإنجاز، وحين كتبت ما قال كان ذلك سببًا كافيًا كي أنجح في هذه المادة، ويوم النتيجة كان حسين ناجحًا في مادته وكانت درجته 40 من 50

من بعدها لم أعد أسأل حسين عن شىء يدهشني، وصرت أجلس معه بالساعات وهو يحدثني عن كل شىء. عن الفلسفة والتاريخ والحضارة الإسلامية، وعن الذين ضيعوا الأمانة في الأندلس، و تدمع عيناه إذا ذكر اسم النبي وهو يهتز في لحظة عجيبة ويردد في خشوع وشوق: يا حبيبي يا رسول الله، قبل أن يعود لما كان يسرده.

يخرج لي من مكتبته كتبًا عن كل شىء، ويجلس معي إلى الكمبيوتر يعلمني ما لم أكن أعلم، وحين دخلنا الجامعة أصبح حسين طالبًا في كلية الحقوق بينما التحقت أنا بكلية العلوم، وكثيرًا ما حضر معي حسين إلى المعمل وفعل بعضًا من معجزاته أمام نظرات الإعجاب والدهشة ممن حوله، لدرجة أنه كان سببًا في أن أعرف العديد من بنات الدفعة، وكانت رانيا من بينهن.

فتاة جميلة مشرقة الوجه تبعث فيمن حولها رغبة في الحياة، وتفاؤلاً لمجرد أنها تبتسم، وحين شعرت بأنها تقترب من حسين كان لابد أن أتراجع أنا رغم ما شعرت به تجاهها، فقد اختارت الأفضل، وحسين يستحق الكثير.

صارت جلسة حسين المفضلة مع رانيا التي تغيرت كثيرًا فتحجبت ثم انتقبت وسط دهشة من حولها وغيظ الكثيرين منهم، ويمكن أن تقول إنها صارت منذ الآن محجوزة كزوجة لحسين حين تسمح ظروفه

لكن اليوم الذي لن أنساه أبدًا كان يوم رفض أحد ضباط الحرس الجامعي على البوابة دخول رانيا قبل أن تكشف وجهها .

حاول حسين حل الأمر بلباقة وهو يقول بهدوئه المعتاد: طب حضرتك فيه واحدة تتأكد منها في أي مكان مقفول؟، فرد الضابط: وانت هتعلمنا شغلنا؟.

قالت رانيا في صبر: طب أدخله وارجعلك تاني وابعت معايا حتى حرس أو خد بطاقتي، لكن الضابط كان سفيهًا ولم يرض بشىء لدرجة استفزت رانيا مما جعلها تتجاهله وهي تخطو إلى داخل الجامعة تقود كرسي حسين المتحرك متخطية الضابط، لكن هذا الأخير جذبها فجأة بمنتهى القسوة من طرحتها فخلعها، واختل توازن رانيا فوقعت على الأرض مفلتة يدها من كرسي حسين المتحرك، الذي جاءت التفاتته المفاجئة ليرى ما يحدث سببًا في وقوعه هو الآخر على الأرض، وعلى الفور انفجر الموقف.

اندفع الطلاب الذين رأوا الواقعة نحو الضابط ودفعوه في قسوة وتجمع الكثيرون داخل الحرم يشاهدون ما يحدث، ووصلت لأجد حسين على الأرض ورانيا تبكي بينما الضابط يسب الجميع ويحاول الإمساك برانيا من شعرها.

اندفعت لأمسك يده بينما اندفع أمناء شرطة يحاولون ضربي في اللحظة التي تدافع فيها الطلاب من خارج الجامعة إلى داخلها، وتكهرب الموقف أكثر حين داس الجميع على الضابط بينما كنت أجاهد لمساعدة رانيا على النهوض، وفي أقل من خمس دقائق كان الطلاب يشتبكون مع عدد من الضباط إضافة لأمناء الشرطة، فيما كانت هتافات قد بدأت في التعالي من حولي، وتحول الأمر إلى مظاهرة وقد فطن الجميع للموقف، وعلى الرغم من استدعاء قوات الحرس الجامعي إلا أنها فشلت في تفريق المظاهرة، ولمحت بطرف عيني عربات أمن مركزي تحيط ببوابة الجامعة من الخارج وفشل الحرس في تخليص الضابط من براثن الطلاب الذين أوسعوه ضربًا وركلاً وسبًا وبصقًا بكل ما يستطيع أحدهم فعله حتى نجح في التملص من بعضهم، وانطلق يعدو بعيدًا وهم يجرون خلفه، وفي مقدمة الجموع كان أحدهم يرفع حسين بكرسيه المتحرك عاليًا وهذا الأخير يصرخ: حسبنا الله ونعم الوكيل، فيرد الجميع وراءه: حسبنا الله ونعم الوكيل، ولم أكن أتصور أبدًا أن الأمر سيتطور لأبعد من هذه الهتافات لولا أن فوجئت بزجاجات فارغة وكميات هائلة من الحجارة يلقيها الطلاب على أفراد الحرس الجامعي وقوات الأمن المركزي التي يبدو أنها تلقت أوامر بالتدخل فاندفع جنودها إلى داخل الحرم الجامعي وهم يضربون بعصيانهم الغليظة كل من يقع تحت أيديهم، غير مفرقين بين شاب أو فتاة، ووجدتني أجري نحو حسين الذي اندفع حوله بعض جنود الأمن المركزي معتقدين أنه مهيج المظاهرة وقائدها، وقبل أن تصل العصا إلى رأسه كنت أتلقاها بدلاً منه وأنا أحميه بجسدي، وآخذه بين ذراعي لنسقط سويًا على الأرض تدهسنا أحذية الجنود لتظلم الدنيا بعدها، ولا أفيق إلا في غرفة ضيقة أجلس فيها مقيدًا ينزف الدم من جروح عديدة في جسدي، وبجانبي حسين ملقى وقد كسر أنفه وراح يتأوه تأوهات منغومة غريبة بعثت في داخلي قشعريرة ارتعشت معها للحظة قبل أن أعود لطبيعتي.

لم أكن في حاجة لأن أعرف أننا في أمن الدولة لاسيما بعد أن دخل علينا ضابط ضخم الجثة يرتدي ثيابًا مدنية ويفرك في يده بتلذذ غريب بين الحين والآخر، ومن خلفه دخل أكثر من خمسة رجال ضخام الجثة تشي هيئتهم بأنهم مخبرون أو شئ من هذا القبيل. يقترب الضابط مني في بطء وأجرب أن أقول: إحنا هنا ليه؟، فيعاجلني بصفعة قوية أسالت خطًا من الدم في جانب فمي، وشعرت معها بصفير مزعج في أذني سمعت من خلاله حسين وهو يصرخ، وحين التفت إليه وجدتهم يهيلون عليه مياهًا ساخنة يتلوى معها في ألم رهيب.

صرخت: حرام ده مشلول، فعاجلني الضابط بركلة بين قدمي وهو يقول: عارفين يا روح امك، بس هو اللي عمل فيها دكر، يبقى دكر بأه للآخر.

صرخ حسين: انتو اللي بدأتم، فصفعه أحدهم في قسوة، واقترب منه الضابط وهو يقول: ما هي امك الوسخة لو بتبطل تنام مع رجالة ما كانتش جابت عيل شرموط زيك يا ابن القحبة .

صفعه ثانية وهو يقول: بتحسبن علينا يا معرص، ليه.. احنا كفرة وانت بكس امك نبي؟.

كان يصفعه بين كل كلمة وأخرى حتى ظننت أن حسين سيغمى عليه وقد احمر وجهه وبانت آثار حروق الماء المغلي على ما ظهر من جسده، لكنه بدلاً من ذلك رفع وجهه فجأة وبصق في عين الضابط، وقبل أن يفيق الضابط مما حدث اندفع حسين برأسه ليغرس أسنانه في رقبة الضابط بكل ما أوتي من قوة والضابط يحاول التملص دون جدوى، وتدخل المخبرون بأقصى ما استطاعوا من سرعة لتدارك الأمر، وراحوا يضربون حسين على رأسه وهم يجذبونه بعيدًا، لكنه ظل متشبثًا بأسنانه في رقبة الضابط الذي راح يصرخ ألمًا وحسين يزمجر بصوت غريب، وحين استطاعوا انتزاع حسين أخيرًا كانت رقبة الضابط تنزف بغزارة وحسين يصرخ من بين الركلات والصفعات والضرب المبرح: مش حسيبك..مش حسيبك.

حاولت الاقتراب وأنا أزحف في صعوبة لكن تقييدهم لي منعني من الوصول إلى حيث يضربون حسين، ورحت أهتف بهم: اضربوني بداله..مالكوش دعوة بيه، لكن الجميع تجاهلوني والضابط يصرخ فيهم بهستيريا: قلعوه .

بدأت في البكاء وأنا أصرخ فيهم: لأ والنبي.. بلاش تعملوا فيه حاجة تاني.. كفاية، لكنهم راحوا يجردون حسين من ملابسه في قسوة وهذا الأخير ينظر للأعلى وهو شارد في شىء ما بينما صرخاتي تتعالى: لأاااااه…لأااااااه، وهم أبدًا لا يبالون، حتى عندما ارتفعت عقيرة حسين فجأة بالدعاء وهو يصيح بكل ما أوتي من صوت: “اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس”.

خلعوا بنطلونه ولباسه الداخلي وقلبوه على وجهه وأنا أبكي .

قيد اثنان منهم حركة يديه ومنع اثنين آخرين نصفه الأعلى من الانتفاض ومحاولات التملص، بينما تكفل الشلل اللعين بتخدير نصفه الأسفل، في حين راح الضابط يشعل نارًا في ركن صغير من المكتب ملئ بالفحم و قوالح الذرة داخل قصعة كبيرة وهو يضع فيها سيخ حديدي ويسكب جازًا على النار.

“أنت رب المستضعفين، وأنت ربي”.

راحت حياتي مع حسين تمر أمام عيني لحظتها وأنا أشعر بمنتهى الذل والهوان وروحي تنسحب مني في بطء .

حسين يعطيني سندوتشاته .

حسين يلعب معنا كرة القدم في حصة الألعاب وهو يراوغ الجميع بكلتا يديه ويمر من بين أقدامهم وقد ارتكز على إحدى يديه ليجعل نصفه الأسفل منتصبًا لأعلى.

حسين يقرأ القرآن في الإذاعة المدرسية، ويقول حكمة اليوم: إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك.

“إلى من تكلني”

حسين يرفض أن يعاونه أحد حين أسقطه الواد محسن من على كرسيه المتحرك وسط ضحكات العيال، ويوليه ظهره قبل أن يدفع نفسه بحركة رشيقة ليجلس على الكرسي من جديد، والواد محسن يدخل (أوضة الفيران) في نفس اليوم، ويخرج وهو ينزف من كل فتحات جسده وسط دهشة الجميع .

حسين يعطيني السويتر الذي كان يرتديه حين شعرت بالبرد وأنا أدفع كرسيه المتحرك وسط المطر، بينما يفرد ذراعيه ناظرًا للسماء وهو يقول: هيييييييه

“إلى بعيد يتجهمني؟…أم إلى عدو ملكته أمري؟”

ينزع الضابط السيخ وقد احمر سنه المدبب، وأحاول اعتراض طريقه بجسدي لكنه يركلني، ويدوس على ظهري قبل أن يكمل طريقه وحسين يصرخ:

“إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي”

يدفع الضابط السيخ في فتحة الشرج تمامًا فيصرخ حسين ألمًا قبل أن يكرر في إصرار عجيب: “إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي”.

أرى أحد المخبرين يرتعش فجأة، وآخر يبدأ في البكاء فيلطمه الضابط وهو يعيد فعلته مرات ومرات، ويبدأ ضوء الغرفة في الاهتزاز قبل أن تنفجر اللمبات تباعًا والجميع ينظرون لبعضهم البعض في خوف قبل أن يحل ظلام مفاجئ، وأسمع حسين وهو يكمل منتحبًا:

“أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات”.

أسمع نحيبًا آخر في مكان ما، وأحاول التخلص من قيودي بينما يصرخ الضابط ألمًا لسبب لا أعرفه، وحسين يكمل وصوته يبتعد “وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة”.

يبتسم حسين بعد أن يعطيني الشيكولاتة وهو يقول: ربنا عنده كل حاجة حلوة والوحش بيبقى عندنا احنا بس .

“أن ينزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك”.

أقول له: إوعى تسبني يا حسين، فيرد ضاحكًا: أنا ما بسبش حد يحبني .

يبتعد صوت حسين أكثر وأكثر، وأسمع صرخة فزع من الضابط، ويتعالى صوت النحيب والنشيج، ويبدأ أحدهم في دق باب الحجرة من الخارج وصوت حسين يبتعد وأجد نفسي أصرخ أنا الآخر:

“إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي”.

ينكسر الباب تحت وطأة عشرات المخبرين والضباط الذين دخلوا وأشعلوا جميعًا بطاريات صغيرة بددت بعضًا من ظلام الغرفة، وأرى على هذا الضوء الشحيح المخبرين الذين كانوا يعذبوننا ما بين واحد ينتفض كالممسوس، وآخر يبكي وينتحب كالأطفال الصغار، وثالث بال على نفسه وألصق ظهره للحائط في خوف، وفوق رأسه، وبعرض الحائط، كان مكتوب بخط كبير أعرفه جيدًا “إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي” لعلها كتبت بسن السيخ الحديدي الذي انغرس في قلب الضابط المسجي على الأرض، والذي راحت الدماء تنزف بغزارة من وريده العنقي بينما جحظت عيناه في ارتياع، أما حسين فقد اختفى..

اختفى تمامًا.

وفي الأيام التالية سار كل شئ بسرعة عجيبة.

خرجت من محبسي بعد أن أثير الأمر في الصحف وبعض الفضائيات لتصبح قضية رأي عام، وبحثت كثيرًا عن حسين الذي قال البعض إنه رأى جثته تطفو في الأسكندرية، وقال والدي إنه قابله على جبل عرفات في رحلة حجه الأخيرة، وكان يمشي على قدميه، بينما أكد آخرون على أنهم يجلسون معه في مسجد الحسين في كل صلاة فجر ويقرءون القرآن معًا، في حين أقسم الكثيرون أنهم يرونه مع رانيا – التي اختفت هي الأخرى – عند باب الجامعة إذا ما مروا من هناك ليلاً، إلا أنني لم أصدق أيًا منهم لأنني أقابل حسين كل صباح، وأدفع كرسيه المتحرك أمامي تحت المطر، وآخذ منه السندوتشات بينما يضحك وهو ينظر إلى حيث لا أستطيع الوصول ببصري مهما فعلت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*قاص مصري

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون