“حسن الختام” تجربة إبداعية مدهشة

"حسن الختام" تجربة إبداعية مدهشة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عـزة مـازن

ذلك المذاق الفريد من الدهشة والانبهار هو ما يشعربه قارئ رواية "حسن الختام" (2014 ) للروائية والقاصة الشابة "صفاء النجار. وهي تجربتها الروائية الثانية بعد روايتها "استقالة مَلَك الموت" (2005). في روايتها الأحدث يتكئ السرد على فكرة جريئة ومدهشة، تجربة استنساخ طفلة من خلايا الأم وحدها، دون حاجة إلى رجل. رغم أن الكاتبة كانت ألقت ببذور فكرتها في الرواية الأولى، إلا أنها جاءت محورًا للسرد في الرواية الأحدث. حقيقة تتواصل الروياتان وتنفصلان. فتلقي الرواية الأولى بظلالها على الرواية الثانية وتضئ ثنايا السرد فيها.

في الرواية الأولى تتبادل “حسنة الفقي” دفة السرد مع مَلَك الموت، الذي تصادقه، كما تلتقي بأطياف كل من رحل من أسرتها. تحتل “حبيبة النحال”، حفيدة “حسنة الفقي” من ابنتها “راوية”، مكانة خاصة في قلب جدتها. في الروايتين يتشظى الحدث الروائي وتستخدم الكاتبة تيار الوعي، تجمع به شذرات الحكاية المتناثرة على جدران وعي الساردتين. في “استقالة ملك الموت” تتقافز الذكريات في ذهن الجدة، بينما هي تنتظر حفيدتها التي سافرت لإجراء تجربة استنساخ طفلة من خلاياها وحدها، دون زواج. لا تفهم الجدة ما أقدمت عليه الحفيدة: (لا أفهم… ابنتك ليس لها أب، ابنتك لوحدك، مريم أخرى ومسيحة جديدة)؟! وتبقى الجدة في انتظار الحفيدة: (حبيبة! بأي لون يمكن أن تلوني حياتي؟! الألوان التي تعطيني إياها ألوان قديمة، واثقة نقية، فيها سكون ورضا، ورغبة في الكمال. أريد ألوانا حقيقية، أريد ألوانك. سأنتظرك.) وينتهي السرد في الرواية الأولى بملك الموت يشعر بقرب موته هو نفسه، فيمد يده يرقص مع السيدة التي عرفها (عمرا طويلا.. بينما حفيدتها تنزل من سيارتها وعلى ذراعها مولودة جديدة وبالذراع الأخرى تدفع بوابة السرايا الكبيرة).   

في “حسن الختام” يتواصل تشظي السرد وتتناثر شذرات الحكاية متكسرة على جدران وعي الساردة “حبيبة النحال”،  بيد أن السرد هنا يتخذ منعطفًا جديدًا تتجسد فيه وحدة الحفيدة وحزنها، فتتدفق الأفكار بين ذكريات الماضي وقلق الحاضر واستشراف المستقبل، متناثرة متشذرة على مدى تسعة فصول تتواكب مع شهور الحمل التسعة في “أدنبرة” باسكتلندا، حيث تخضع لتجربة استنساخ طفلة من خلية من خلاياها. يتراوح السرد بين صيغة المتكلم والمخاطب، فيكرس لغربة الراوية/البطلة عن ذاتها. في “الشهر الأول” – الفصل الأول – يُستهل السرد بوحدة عميقة تنغلق شرنقتها على الراوية: (في عائلتي أجد من يتحدث كثيرًا عن الحزن.. تقول جدتي: إنه أسود ثقيل، بينما تصفه أمي بأنه شئ مقبض، لكن لا أحد يتحدث عن الوحدة، وأنا وحيدة دون حزن أو فرح، أسكن على طرف العالم، في منطقة غائمة، تلفني شرنقة، تحاصرني خيوط متراكمة وعلاقات متشابكة). بينما تمحور السرد في الرواية الأولى حول شخصية الجدة وعالمها الريفي المحدود، تدور الرواية الأحدث حول الحفيدة/الراوية “حبيبة النحال” التي تخرجت في كلية الفنون الجميلة، وتقطن حي الزمالك، وتمارس الرسم منذ طفولتها. تكرس الرواية الجديدة لعالم تسعى فيه المرأة لاختراق شرنقة حديدية يفرضها مجتمع ذكوري على روحها، مجتمع يستمد فيه الرجل مكانته من أنه المسيطر اقتصاديًا والمانح للمرأة أمومتها. في “استقالة ملك الموت” لم تستطع الجدة فكاكًا من تلك الشرنقة، فاستسلمت لها، إلى أن رحل الزوج فصارت إليها مقاليد الأمور. في “حسن الختام” تستسلم “حبيبة” لتلك التقاليد في الظاهر، إنما في الداخل تتملكها قوة أخرى، تسعى إلى التحرر من نظرة دونية إلى المرأة، لاترى فيها سوى جسدًا يُشتهى ورحمًا ينجب الأطفال: (في داخلي تتصارع قوتان، واحدة في وضح النهار والأخرى في الظلام، في جوف الأرض حيث الوحدة والأسرار، ما لا يعرفه أحد سواي، ربما أعيش عمرًا دون أن أصل إليه أو أكتشف وجوده، الغريب أن هذا الجزء المنفي منا قد يكون هو أكثر ما فينا حيوية، الجزء الذي يكسبنا فرادتنا، الذي يميز هويتنا عن غيرنا من البشر رغم أن موروثاتنا متشابهة تقريبًا). تسبب ذلك الصراع الداخلي في علاقات حب مبتورة عانتها الساردة منذ صباها الأول، فنفرت من الرجال وتحدتهم بأن رسمتهم عراة، وضم معرضها الأول لوحاتها لرجال دفعوا من أجل أن ترسمهم هكذا: (التطور واضح أمامك، تتحولين من رسم الأشياء إلى رسم نفسك إلى رسم العراة، ولكنهم عراة مختلفون، يتطهرون من ذنوبهم بعريهم، بتثبيت لحظات من حياتهم دون سرقات، اختلاسات، سيخلعون ملابسهم أمامك، كي ترسميهم، سيكون المعرض الثاني مفاجأة صادمة.. رجال أعمال، فنانون، مثقفون سياسيون…. لن يخبئوها في خزينتهم، بل سيعلقوها في غرف استقبالهم الخاصة، في المخابئ السرية، يرونها عند السهر لتبادل الصفقات).

في ثنايا السرد تعود “حبيبة”  إلى البداية، عندما صادفت إعلانًا يطلب متطوعات لإجراء تجربة استنساخ طفلة من خلية من خلايا المرأة وحدها، دون تدخل ذكوري. تقدمت لإجراء التجربة عليها، وبالفعل وقع الاختيار عليها، فسافرت إلى “أدنبرة” دون أن تخبر أحدًا من أسرتها بحقيقة الأمر، سوى جدتها في وقت لاحق. تمر شهور الحمل التسعة ويتدفق تيار الأفكار على ذهنها وتتصارع داخلها القوتان، تلك التي تستكين لتقاليد المجتمع فتتساءل عن مدى تقبل مثل هذا المجتمع المحافظ لطفلة مستنسخة من أمها وتجربة جديدة تهز عرش الرجال، بعد أن هزه من قبل تحرر المرأة الاقتصادي: (يتساءل الرجال، ونحن أين دورنا.. مَن سنورث؟) وربما يتحول الرجال الذين يرون قوتهم في الانجاب إلى ديناصورات: (ومثل ديناصورات بطيئة تجر أقدامها والضوء يخبو قليلًا.. قليلًا، يقوم الرجال من المقهى على أمل ألا تكون زوجاتهم قد شاهدن ماحدث، وكل يفكر كيف يمكنه أن يحافظ على نفسه ويضمن استمرار وجوده….)

    يتشابك الواقع مع الخيال ويتقاطع مع أحلام كفكاوية على مدى تسعة فصول تنتهي بميلاد “مريم”، الطفلة المستنسخة من أمها. وفي لحظة الميلاد تتوحد آلام كل نساء العائلة وتمتزج: (تتزايد انقباضات الرحم لست أدري دقيقة أم ساعة لكني أعود أمر بكل ما عشته من قبل في رحم أمي، أنا حبيبة، راوية، مريم، في لحظات مختلفة…. وتأتي “مريم” لتشعر بطعم الوحدة الساكن عميقًا في رحم أمها، الخواء الذي لم تستطع أن تملأه، تهدهد أمها وخزة إبرة تشعر بها في حبلها السري، لماذا يحمل الحبل السري لهذه العائلة عطبًا ما؟ وخزة، ندبة، العلاقة الموصلة بين الأم وابنتها: حسنة، راوية، حبيبة، مريم….).

   رغم سيطرة النساء على فضاء السرد في الرواية، إلا أنه لا يمكن اعتبارها رواية نسوية بالمفهوم الغربي. “حسن الختام” تجربة إبداعية مدهشة تنساب بلغة شفافة رقراقة، يتشابك فيها الواقع مع الخيال وتتقابل الأحلام مع الأساطير، تستشرف مستقبلًا تتحرر فيه النساء من شرنقة مجتمع ذكوري لا يقدر قيمتهن الإنسانية، ويتواصل فيه الجميع – رجالًا ونساءً – على قدر من المساواة الإنسانية والعقلية.

 

 

مقالات من نفس القسم