حذاء فيلليني.. الصَّوت وفتنة الكتابة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

باسم محمود

ويسْألُونكَ عن الرّوائي، فقُلْ: إنّهُ، حَاوٍ كَبير، يخلقُ من الكلمات كهَيئةِ القَصَص، فينفخُ فيها فتكون كما الحقيقةِ بإذنه، بَلْ، لعلّهُ يحتالُ بنسيجِ الحقيقةِ ذاتِه، ويحيكُ فيها ومنها وبها وعليها حكايته، لكن، حين تنتقلُ الحكاية التي تحدث في عقل الرّاوي إلى عقلك، فتصيرَ أنتَ المُعذَّبَ والمبتهج، وتسمع صوتَه يتحدّث من داخلك، عندها، ستؤمنُ أنّ للكتابةِ شياطين، تُلازمُ كلَّ كتابٍ كي تهبكَ سِرَّه، وهذا ما أحدَثَه وقعُ حذاء فيلليني، وهذا هو ما حدث بالضبط.

هو “لا يحكي عن التعذيب، فمائة رواية كتبها كُتّاب من مختلف بقاع العالم لم تشفِ غليل أحد ولا جعلت السلطة تتوقف عن التعذيب”، لكنّهُ صادقٌ يكذبُ بصِدق، ولا شيءَ أصدقُ من الأحلام عنّا قد يُبين. فلا عجبَ أن يُختارَ فديريكو فيلليني الذي صنع من أحلامه أفلاماً؛ ليكون الحاضر الغائب لتلكَ الرواية، “هل تعرف فيلليني؟ وما علاقتك به؟! صفعة ثمّ، هل تعرف مأمون؟”.

تبدأ الرواية بدخولٍ مشهديّ لديكتاتور، ستالين آخر، ومُطاع -ساعتها كان ما زال مُطاعاً- كان حاضراً في ذلك الاجتماع الأُممي لشحذ الوعي القومي، والموسيقى التصويرية يصنعها حذاؤه -حذاء الأخ الكبير- والكلُّ صامت، كأنّ على رؤوسهم الطّير. “يمكن للغافل أن يعرفه من وقع حذائه، دقات كعبيه واضحة عالية ترجف قلبك، تخرقه قبل أذنيك، كنت في المؤتمر الأممي المنحوس، واحد على الطاولة يهمس لرفيقه بجملة ليمررها لزميله ثم لزميل آخر، وهكذا حتى تتحول في النهاية إلى جملة أخرى عكس الأولى تماماً، أعرف أنك قلت: أحبك، وربما كنت تقصد أو تتخيل أن تنتهي في النهاية إلى: “أحبك يا جارتي..”.

“مُطاع” الذي كان ضمن مجموعة من المعالجين النفسيين، يتلقّون دراسات للحصول على الدكتوراه في بولندا؛ ليعود من إحدى “الدول الشيوعية الوحيدة التي تستقبلنا كأبنائها وتفتح لنا الأبواب والشبابيك”، وقد صار مالكَ أمره؛ الطبيب مُطاع.

تلك حقيقة، تلك هي القماشة، و(عليها) سيرسم الراوي قصته، “كنتُ وأنا طفلٌ صغير جزءاً من نظام تربوي يُمجّدُ الأبطال، قيل لنا: إنّ الزي العسكري والأوسمة تجعل صاحبها من الخاصّة المنفردة بالتبجيل، أنا شخصياً لم أتفهّم ما لقيه موسوليني من إعجاب شديد، كان مملاً بالأبيض والأسود، وأنا أتذكّر أكثر ما أتذكّر جزمته”، هو قَولُ الرفيق فيلليني في مذكّراته، وهو ما لم يذكره الروائي في كتابه، لكن، على القارئ أن يبحث عن المِفتاح، وهنا هو مفتاحُ القارئ، لولوج باب العمل، الباب المصنوع من الأبيض والأسود الذي يشبه باب الليل،

ثمّ يكمل السيد فديريكو: “واتّفق لي آنذاك أن سقطت قنبلة، عمّ الذّعر، وانهار السقف، وتراكض النّاس هُنا وهناك، ووجدتُ نفسي بالسروال في الشارع، وفي يدي فردة حذاء التقطتها وأنا مندفع للنجاة من السقف المنهار، كانتا فردتَي حذاء معاً، ولكن لا أعلم لماذا التقطتُ واحدة فقط”، لعلّه حذاء المهرّج وحده الذي نجا/ينجو، وهو سِنُّ الإبرة، التي يحرّكها خيالُ الكاتب -كما يحرّك دُماه- و(بها).. يحيك على قماشة الحقيقة حكايته، تنغرس الإبرة وتعلو -حيث يسمو الفن- ليصيبَ ما يصيب من حياة فيلليني -المعترف بهشاشته، وجبنه أحياناً، كما هو حال البطل- ثمّ يهبط إلى قسوة الواقع، بفعل حادثٍ غير مفهوم؛ ليهوي تحت الحذاء، حذاء الجلّاد، في غرفة التعذيب، القبو “قبو لا تعرف كيف دخلته ولا كيف ستخرج منه،

القبو يجعل فكرة العودة للحياة وهماً، أُمنية مستحيلة، ساعتها ستعرف أنّ الجدران تستطيل فعلاً أمام عينيك بمزيج الخوف، القبو مكان آخر غير السجن، جحيم آخر، القبو مكان تحت القبر، مكان الحساب على الأرض، يقيمه آلهة من البشر، لم تمر عليهم كلمة الرحمة في قاموس الحياة”.

وللمرء أن يتصوّر كيف تكون الحياة بعد الظلام، وأنتَ لا تعرف من الألوان سوى الرّمادي، رمادي يصنعه ضوءٌ خَفيّ يكاد يُجنُّك، في سجن، وفيه أنتَ تبحث عن مخرج -وتحتمي أحياناً منه داخل عقلك، ولا تفلح- “في كلّ مرّة يأتي تنكمش الحيطان ثمّ تتمدّد، وأنا معصوب العينين والروح، كأننا في فيلم” -والرّمادي ثابتٌ يحيط بك، يحيل حياتك رماداً، والجلّاد -دائماً هناك جلّاد- المالك، الفاعل والمتصرِّف في مقاليد الأمور، المطاع؛ المفعول له، كغيره من الجلّادين، تصنعهم السُّلطة، والتي بدورها “تصنع ببطشها وبغبائها أبطالاً، ثم تستدير تعدُّ العدة لمقاومتهم”،

ولا ملام، فكبيرهم الذي علّمهم السّحر هو الإله ماو، هل تعرف ماو؟ “هل تعرف شعور ماو، عندما تهتف باسمه ثلاثمائة مليون حنجرة في توقيت واحد في قلب بكين العاصمة؟ ترجُّها كأن الزلزال الحقيقي قد وقع، ثلاثمائة مليون ذابوا جميعاً في شخص واحد. سيقول واحد بصوت غير مسموع إنّ بعض المباني خرَّت سراعاً كأنه تم تفخيخها، وانقطعت الكهرباء في كل الأحياء المتاخمة، وما تراه الآن عياناً بياناً هي أنوار الزعيم.. قل ما تشاء، تخيل ما أحببت ومسموح لك أن تخرف، سيصدقك الجميع، لكن ما لا يمكن أن تراه أن عضلات الاستبداد تتورَّم في هذه اللحظة الفاتنة عند الرفيق ماو، تنتفخ ولا تتمزَّق، وأنا العظمة في روحه تتمدد حتى تغطي قارة آسيا بكاملها وتعبرها مسرعة إلى القارات المجاورة،

بل إن الحقيقة التي لا يعرفها سوى الجلادين دائماً وعلماء النفس أحياناً أنه في هذه اللحظة يولد ماو آخر اسمه الإله ماو”.

وهكذا في كلّ العصور، تتمّ صناعة الدّيكتاتور. وحواريّوه؟ أين هم من أنوار الزعيم! “في هذه اللحظة تحديداً يفقس الديكتاتور جلادين، فيقدسونه، يتحدثون باسمه ويدافعون عنه بكل الوسائل التي تخيلها ولم يتخيلها”. ومُطاع، المملوك، المفعول به، يصير فاعلاً، لكن، على مقاسه في فيلم القهر “ما اسمك؟ اسمي مطاع يا فندم. اسمك مطيع منذ الآن يا ابن المحروقة، أعد كتابة كل ما كتبته وابدأ باِسم مطيع، هو اسمك منذ الآن وحتى تموت قريباً”. وترنيمة ما بعد الخروج للحياة، بل، ما بعد الموت: “هذا الرجل حطّم ما بيني وبين العالم”.

تلاشتْ أحلام الجارة التي كانت تراوده عن نفسه، الجارة التي “لم تترك ركناً إلا وضخَّت فيه رائحتها، ولا ملاءة لم تضع أنفاسها فيها، لم تضنّ بشيء، حطت كحورية بحر مستعدة لأن تعطي كل شيء مقابل شيء اسمه الحب، تمنع نفسها عنك فتمتنع عنها، تتمنَّع عليها فتجري وراءك”، أيا جارةَ لو تشعرين بحالي، الجارة التي كانت كدُرّة، لكنه الآن لن يستطيع أن يناغيها ويلاعبها ألعاب الهوى.

ثمّ، فجأة، على حين غرّة، يأتيه في عيادته مريض، بل مشروع جثّة، رقبته ملوية إلى اليسار -يساري أنتَ أم يميني؟! – بصُحبته زوجته – ويا لَها من فاتنة! – ويا للمصادفة (دائماً ما تُسمّى مصادفة، تماماً كما التقى فيلليني نينو روتا مصادفةً، ليصنع له موسيقى أفلامه)- “هذا الصوت مرّ على أذني من قبل، لا، لا أظن. علو الصوت خرق روحي قبل أذني، أيكون….”، بل هو الجلّاد.

والزوجة تسرد حكايتها وحكايته، للطبيب مُطاع -أمْ مُطيع؟!- “عشت مع واحد لا أعرفه، لم يشبع يوماً، لا من الرجال ولا من النساء، قالوا إنه مجنون بحب الوطن، يعشق رائحة الدم، الوجوه المكلومة، الأرواح المكسورة، الأنوف النازفة كرامتها، الانسحاق، التذلل، صعقة الكهرباء، المطارق، كماشة نزع الأظافر وكماشة نزع الروح، ثم بعد ذلك اليقين بأنه المنقذ لها من الضلال والزندقة”.

تتلاعب به بغيٌّ على طريقتها في علاقة حبٍّ ثلاثيّة، رغمّ أنّه الكعب العالي يُخدَع، وتنكشف الحكاية للسلطة، “السلطة تدفن خطاياها على طريقتها، لم يعلم بالموضوع سوى عشرة، وحين تزداد الأسئلة عن الأسباب لا يجد أحد جواباً، الجواب في معدتها، تحفظ أسرار الجميع وتقتل أسرار أعضائها، لم يعرف أحد سبب نقل الرسمي والعرفي”. إلى أن يأتي وقت الاستغناء عن خدماته، ويا لها من مأساة! مأساة عزيزَ قومٍ ذَلّ “لا بد أنك تعرف أنّ الذين يخرجون على المعاش في عز السلطة يكسرون الأكواب في أول صباح، أنت لا بد تعرف أن الرجال ينامون على اليمين ويتركون اليسار للنساء،

أدار وجهه ناحية اليسار بعد الإخفاقة الأخيرة، وعندما صحا في منتصف الليل ليشرب – إنه يشرب مثلنا- كان وجهه كما تراه قد غادر الأمام والخلف متجهاً ناحية الشمال، التوى حيث صحا خجله، راح يعدو كالمجنون في الشقة، يعدو من مرآة إلى أخرى، يكسر واحدة ويعود إلى الثانية، ضرب المرآة الأخيرة برأسه وسقط مغشياً عليه”، لينقلب الحذاء، ليصير المالك مملوكاً، ويُوهبَ المفعول به فُرصةً للثأر أو التشفّي.. لكن، أيقتله؟

“لا بد من قتله”، أو تعذيبه، تعتمدُ الرواية الكتابة بتقنيّة تيّار الوعي؛ حيث تتناوب الشّخصيّات الحديث والإبانة عن دواخلها عبر حديث الذّات، الذي يسرده الرّاوي، شخوص القصّة تتحدّث حديثاً مُعلَناً تارة، وحديثاً خفيًّا تارةً أخرى.

وعلى خلاف ما يفعله ساراماغو في فواتح حديث شخصيّاته بخطٍّ ثقيل، هنا، الحديث غير مفصول، ولا علامة تسِم شخصيّةَ المتحدّث، لا علامة لأين يبدأ الحديث المعلن ولا أين ينتهي الخفيّ، لكن، أنتَ حتماً ستميّزه -كما كان يروق السيّد جويس هو الآخر أن يفعل- وهو الأكثر تناسباً لبيئة الرّواية، فالحكاية تدور داخل عقل الراوي كما الحلم، وكأنّه، من فرط الخوف، ينكفئ على نفسه -انتبِه، الأخ الكبير يراقبك- يستبطنها، يكاد يكتم فِكره، كي لا يتفوه على الورق بكلمة. بإمكانك أن تظلّ في قوقعتك، لائذاً بعزلتك، بخوفك من الرّقيب،

محتميًّا بصورةٍ وهميّة، تكتب ما يدور في رأسك بلا حبر، في مستطيل أبيض، دون أن تتفوه بكلمة، ويقرأ العالم بأكمله ما تقوله، فلعلّ الأسلوب نفسه انعكاسٌ وتجسيدٌ لما خلّفته وسائل التواصل الاجتماعي في البشر، أو ما خلّفه بقايا الخوف الوهميّ من الرّقيب.

ثمّ يأتي دور الجلّاد، الذي بعد أن كان مالكاً، صار مفعولاً به، لكن، مَن تعوّدَ إطلاق الأوامر ليس في حساباته أن يخضع يوماً ما، ولو جُرّد من سلاحه، “من أنت يا مطيع؟ حشرة على جدار كبير بنيناه نحن، تأخذ من تعبنا لراحتك، تأكل وتشرب وتنام وتحلم، ولو جاءك كابوس فأنت المخطئ”، بالتأكيد فالحرية هي العبوديّة، والتَبِعةُ على التّابع، “أنت واحد من هؤلاء، أنتم من تصنعون الجلاد، الرعاع هم مطيته ووقوده، لا يفلحون في شيء آخر بعد صناعته سوى عبادته دائماً ورجمه أحياناً، ثم تطلبون منه أن يكون بشراً عادياً!”.

لكن الديكتاتور والجلّاد، كلاهما يصدّق نفسه، “لست نادماً على شيء فعلته، ضميري هو من كان يحكمني. الدولة عميقة يا مطيع. تقولون عني إنني جلاد، أنتم جاحدون يا مطيع، أنا فعلت ما فعلت من أجل الملايين الأخرى، حاولت أن أحميكم من أنفسكم ومن الآخرين” للجلّاد منطقه أيضاً، على طريقة: “اللي ما لوش خير ف حاتم، ما لوش خير ف البلد”، لكن، هل يقتله؟ هل يعذّبه؟

“كانت لي مهمة واحدة شريفة هي أن أزيد عدد أصحاب الشعر الأبيض في هذا البلد ليصبح بلداً وقوراً، هذا هو القانون، ونحن من نخلق القانون، نحن نراكم دمى”، هكذا ينظر الديكتاتور وجلّادوه إلى رعيتهم، وإن قلبنا الكتاب، بل اللوحة، “كنتُ في التاسعة عندما بدأتُ أصنع الدّمى وأقيم العروض. كنتُ أرسم شخوصاً لدُمى مسرحي المصنوعة من الورق المقوَّى والصّلصال”. فكلّ شخصيّة هي احتمالُ دميّة، تُسكَب على الورق، هكذا يرى فيلليني/ الفنان/ الراوي جلّاديه- أو هكذا قد يرى الفنّان الجميع.

“اصطادوك من لعبة الهمس أو لعبة القاعات، حين كنت في المؤتمر الأممي المنحوس”، وهكذا اصْطيدَ القارئُ أيضاً عبر الصَّوت؛ صوت الرّاوي -كما تسمع أنتَ أيضاً الآن تلك الكلمات- وكذا فتنة الحكاية، وكأنّ الكتابة هي خلقٌ لعالمٍ موازٍ ممكن، حلمٌ موازٍ لعالم الحقيقة- لكن، لعلّ الأحلام هي الحقيقة -فيكادُ الروائي يُقارِبُ الشخصية التي استعان بها وبنهج حياتها، ويكاد يماثله في سَمته، بقُبَّعته- كما كان فيللني يحلو له أيضاً أن يعتمر قُبّعته، بل التشابه في الملامح، وتلك في الحياةِ حقيقة، و(فيها)، ينصب الصيّادُ للقارئ شبَكَته.

وتستمرّ لعبة الـ”فوق/تحت”، وبينهما تستكين قماشة الحقيقة.

في مذكّراته، يقول فيلليني: “وحين كنتُ تلميذاً صغيراً، غنّيتُ في المدرسة، وقال المعلِّمون إنّ لي صوتاً جميلاً، وبقيتُ أغنّي حتى دخل أخي الأصغر المدرسة، وفاقني في الغناء، كان صوته جميلاً حقاً، تعجّب المعلّمون كلهم من روعة صوته، وكانوا محقّين، توقّفتُ أنا عن الغناء، وما غنّيتُ بعد ذلك مطلقاً”، وتلك حقيقة، و(منها) سيكمل الحاوي لعبته، وللقارئ أن يتقصّى سيرة الرواية، ففي غير مرّة،

يعترف الروائي في لقاءٍ تلفزيونيّ بأنّه كان يغنّي، لكنّه ترك الغناء واكتفى بالسّماع، وهو ويا لَلعجب، له أخ، استمرّ في الغناء. وحين يحاول فيلليني إعادة إحياء بطله؛ كي يتخلّص من كوابيسه، من سجنه، بأن يحلم بمطاع، “اجذبه بقوة من ماضيك، وإذا كان من الواجب أن تقتل أحداً فاقتل مطيعاً، الشيء الذي يجب أن تعشقه وتحرص عليه أن ترى صورتك في المرآة، ترى مطاعاً في مطيع”، فيجبه الرّاوي: “لكنّني وحيد”، كأنّه إمعانٌ في المراوغة، في اللعبة، فهو اسم صاحب الكتاب الذي ساقته الحوادث، ليُنشَر في دار عربية (دار المتوسط -التي شعارها الموسوم على الإصدار- إن قمنا بتأويل مضاعف (أو سوريالي)، هو صورة دون كيخوته، كما تخيّله بيكاسو، لكن، وهو يركب عجلة، وكأنّ الأمر كلّه مُرتّب، استعادة لتقنيّة الصَّوت، وانتصارٌ للحكاية لكن، في عصر السرعة “لا شكّ أنّ الرفيق فديريكو سعيدٌ بهذا الآن في السماء”)،

ربّما هو مزيدٌ من توريط القارئ في النّص؛ لذا، كما يقول د.هـ. لورانس: لا تثق بالرّاوي، ثق بالحكاية، وظيفة النّاقد هي أن يحاول الحفاظ على الحكاية بمأمنٍ عن الفنّان الذي أبدعها.

لكأنّه كتب عامداً استثارةَ الحِسّيّ في نفس المتلقّي، بالكتابة بالظلال، الهمس، الصوت، باعثاً الروح في بطله، وكأنّه يُجالسك أنتَ وحدك، يقصُّ عليكَ حكايته. ولسرده إيقاعٌ لا يحيد، لكأنّه يشبه رتم اللغة الإيطالية في الحديث بها، موسيقاها؛ قمةٌ فقاع، في شكلٍ موجي؛ فنغمةٌ، تعلو طبقتها قليلاً كجوابٍ؛ يسوق جملةً تحلِّقُ بك في أعالي الحلم، تتبعها أخرى بلحن قرارٍ تعيدك إلى واقعك: “تنادي بصوتٍ لا يتخطى عتبة الباب، فتنادي هي نيابةً عنك”. وما زالتْ تتضارب الأصوات في رأسه، “رحت أحكي الحكايات بصوته حتى نسيت صوتي”،

هل يقتله؟ هل يعذّبه؟ وقبل أن يعرف مَن هو مأمون، يحدثُ في لحظاتٍ من اللازمن، في مشهدٍ، يشبه كثيراً حوار ميتيا كارامازوف مع نفسه -أو مع الشيطان- عندما أصابته الحمى، وقد صار هو الآخر لا يدري من الذي يحكي الآن -مطاع أم مطيع؟”- لا أدري -يجب أن أعرف من معي الآن لأدعوه للشراب، مَن أنتَ؟- أنا الشيطان يا مطيع” يحاوره، يغويه، هل سيقتله؟ هل سيعذّبه؟ هل سيسامحه؟ “نعم، أفكر أن أسامحه بعد أن تنازلت عن بقية الخيارات”، وما زال الشيطان يواصل وسواسه، “حاول أن تعترف أن كوب الماء الذي مددت يدك به إليه وهو مشبوح أمامك خلق علاقة إنسانية ما بينكما، كما أن قرص الدواء الذي أعطيته إياه ليهدأ ذات مرة جعله ينظر إليك بامتنان، وأن هناك شيئاً حياً دب بينكما”.

وما زال يلقي إليه بالبراهين؛ كي يقنعه أنّ ما سيفعله، هو من اختياره هو، وهو حوارٌ يتناص مع محاورة ميتيا للشيطان، أمّا شيطان دوستويفسكي فيقول:

“لقد زرعتُ في نفسك الشّك برواية تلك النّادرة، فبذلك أقودك من الإيمان إلى الشك، ومن الشك إلى الإيمان مرّة بعد مرة بالتناوب، فمتى شككتَ في وجودي أردتَ أن تبرهن لي على أنني لستُ إلا حلماً، فبهذه الوسيلة أكون قد حققتُ هدفي، وهو في الحقيقة هدف نبيل جداً، فأنا إنّما أرمي في الواقع إلى أن أضع في نفسك بذرة إيمان، والحقيقة أنّ هذه هي رغبتك الخفيّة المستترة المتكوّمة منذ زمنٍ طويل، ولسوف تحقّق هذه الرغبة يوماً، فتتغذّى بالجراد ساعياً إلى الخلاص في الصحراء”، ما زلت تضجّ الأصوات في رأسه،

أهو صوته أم صوته أم صوت مأمون أم الشيطان؟ يقنعه بأنّ الجلاد الأصغر ضحية الجلّاد الأكبر، وكأنّه يتقمّص دور المحامي فيتوكوفيتش في دفاعه عن ميتيا المتّهم بقتل أبيه؛ ليثبت للجميع أنه إن كان المجرم مذنباً في حقّ أحد، فإنّ المجتمع مذنبٌ في حقّ المجرم، ثمّ يتّخذ قراره أخيراً، وكأنّ لسان حاله في نهاية الأمر: لقد صرتُ أحبّ الأخ الكبير.

حذاءُ الجلّاد، قد يحاول أن يسحق الفنّ، يلطّخه بالدّم، لكنّه محالٌ أن يطال الخيال، فإن وُهِب الفنّان القدرة، ممسكاً بريشته، ليعيد إنتاج الوقائع، ويصوغ الواقع كيفما تقتضيه الرّغبة، لترميم ما أحدثه من شروخ الرّوح التي، قد أحدثتها الهزائم، متّخذاً من الدّم حبراً يسطّر به حكايته، عندها، تنقلب اللوحة، ليعلو الفنّ حيث هو في الأصل، ويعود الحذاء حيث يجب دوماً أن يكون.

لكن.. أفِعلُ الكتابة ذاته هو للبَوح، أم الانتقام، أم التشفّي؟ قد تكون جميعها، وقد تكون لا شيء منها. فربّما، هو إعادةُ اعتبارٍ “إلى الذين صرخوا ولم يسمعهم أحد.. إلى الذين لم يستطيعوا أن يصرخوا”، والذي هو الإهداء المُصدَّرُ به الكتاب. كتابٌ للجميع، مَن ذاق، أو مَن سمِع، رغم أنّه يقول إنّه لا يتحدّث نيابةً عن أحد، لأنّه لو عرف -أو عرفنا- ما حدث كما حدث؛ لابيضّ شعر الرّأس، “ربما سقط وسقط معه وجهي دفعة واحدة. هناك روح لكل وجه لا يمكن أن تتغير مهما كبرنا إلا إذا تم تعذيبنا، الذين وقعوا فريسة تبدلت ملامحهم، وربما يكون هو من بدَّل ملامحه،

لا لا يمكن، ملامحه تغيرت إلى الأسوأ، حاجباه كأن قرضة مرت عليهما أكلت نصفيهما، وأنفه للداخل، لكن روحه التي تترقرق في عينيه تقول إنه هو”؛ لتنتهي القماشة، كلوحة، ما يشبه دُمية (فيلليني)، أو وجه مهرّج، يزيّن غلاف الكتاب، ويتركها للقارئ يؤوّلها كيف يشاء، لعلّه في الأخير هو إنجيل فيلليني، برواية وحيد الطويلة.

كل شيء يبدأ في الأحلام، أي والله العظيم هذا ما حصل، ويمكنكم أن تسألوا فيلليني أو مارلين مونرو.

وهكذا، وأنتَ هناك، داخل الحلم؛ حيثُ تتداخل حياةُ الحقيقة وحياةُ الحلم، داخل عقل الراوي، ومن ثَمَّ في عقلك، ولا مناص إلا أن يخرج في صورةٍ ما، وما من خلاصٍ سوى فيما يقوله فيلليني لمطاع/مطيع: “عليك أن تتخلَّص من كوابيسك، من الجلاد، كن جلاداً مثله.

هم بدأوا الفيلم لكنك أنت من يجب أن يضع النهاية”. ولا يكون ذلك إلا عبر الكذب، بذاك الحِسّ السّاخر الذي تفيضُ به الكلمات، الذي يجعلك تضحك من فرط الألم؛ كي يتعالى الأسير على التجربة، ويتخلّص من كوابيسه “حاول أن تصنع من القصة قصة أخرى، الحقيقة صعبة موجعة، وعليه فالناس تعشق الأكاذيب”. فيوصيه فيلليني ألا يقول الحقيقة: “لأنك حين تقولها لن يصدقك أحد، يجب أن تؤلف وتخترع ولا تنتظر أحداً يصدقك مهما كنت صادقاً”،

وفي رواية، يقول السيد أومبرتو إيكو: “الواجب على مَن يريد الخير للبشرية، أن يجعلها تضحك من الحقيقة، ثمّ يجعل الحقيقة تضحك، فيتحرّر الإنسان”. تُرى، هل كان هذا هو ما حدث؟

لربّما، هذا هو ما حدث.. على الأرجح.

 

عودة إلى الملف

 

 

 

مقالات من نفس القسم