“حجر الصبر”.. العلاج بالبوح والخلاص بالموت!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فى جلسة واحدة، يمكنك أن تفرغ من قراءة الترجمة العربية لرواية "حجر الصبر" للكاتب والمخرج الأفغانى عتيق رحيمى، والحائزة على جائزة الجونكور الفرنسية للعام 2000. صدرت الطبعة العربية عن دار الساقى بترجمة صالح الأشمر فى 110 صفحة فقط ، وكانت الرواية قد تحوّلت الى فيلم سينمائى معروف من إخراج عتيقى أيضاً، ولكنى أثق أنها ستبقى لوقت طويل فى ذاكرتك، بعالمها الفريد المغلق، وببطلتها ذات الأسرار، صاحبة القدرة على الحكى، وبمغزى الحكاية الهام فى التعاطف مع المرأة، وفى الحفاوة بالجسد، وفى إدانة انتهاك مشاعر الإنسان وحريته وحقه فى أن يختار وأن يكون.

فى هذا التكثيف المروّع تكمن قوة هذه  النوفيلا، فى عباراتها الوصفية المقتصدة، وفى قدرة مؤلفها على أن يدير أحداثها فى حجرة واحدة بمنزل يسكنه الصمت، وتعيش فيه الأسرار، وتقطن فيه الغيبوبة، وتحاصره الحرب وطلقات الرصاص، نحن تقريبا أمام مونودراما مثالية: زوجة تفرغت لرعاية زوجها الذى يعيش فى غيبوبة منذ أسبوعين، أطلقت عليه رصاصة فى شجار مع شخص فى جماعته، فاستقرت فى عنقه، نحن الآن فى بداية الأسبوع الثالث من سكونه الجسدى إلا من أنفاسه ومن عينين مفتوحتين على السقف، بعد فواصل مستمرة من التسبيح بأسماء الله الحسنى طلبا للشفاء، وانتظارة لإشارة أو حركة من الزوج، تقرر الزوجة أن تبوح للزوج الصامت بأدق أسرارها، تستدعى أسطورة حجر الصبر، يقال إنه حجر سحرى تلقى إليه بكل أسرارك، وعندما يتفتت أخيرا، يمكنك أن تتحرر من كل آلامك، يتحول الزوج الى حجر للصبر، وتتحول الرواية الى نوع من التعرّى النفسى والجسدى الكامل، تحكى المرأة عن جسدها، وجسد زوجها، وجسد المجتمع كله، الرواى العليم بكل شئ لا يغادر الحجرة، تخرج المرأة وتعود، نسمع خطبا للمُلا فى مسجد قريب، نسمع أصوات دبابات وانفجارات وصلوات وصرخات ، نكاد نشم رائحة جثث ملقاة فى الطرقات، تقتحم الحجرة عدة شخصيات، ولكن رواية”حجر الصبر” ليست سوى هذا البوح الطويل، وهذا الهتك والتعرى الأنثوى أمام شبح رجل كان زوجا، ومع ذلك لا تشعر لحظة بالملل، ولا يترهل السرد، ذلك لأنه مع كل سر لمسة جديدة فى بورتريه لامرأة ولرجل ولوطن معا.

يمتلك عتيق رحيمى قدرة واضحة على الكتابة بالصورة، ملامح المكان وتفاصيله، وصف الشخصيات، ثم إضافة أدق السكنات واللفتات والحركات، وكل قطعة أو جزء لها دور ووظيفة: الستارة المثقوبة ذات اللونين الأصفر والأزرق التى تحلق فى سمائها طيور مجهولة، العنكبوت والذباب والدبور، المحلول الذى تتوالى قطراته وقد امتزجت فيه الحلاوة والمرارة، نقوش سنابل القمح وزهوره على جلباب المرأة، الخنجر المعلق على الحائط بجوار صورة الزوج شابا بنظرته الساخرة، أصوات طفلتى المرأة فى خارج الحجرة، الستارة الخضراء التى تقع خلفها حجرة للمهملات ستنقل المرأة الزوج المغيّب إليها، السبحة السوداء التى تحرك المرأة حباتها مرددة أسماء الله الحسنى وفقا لنصيحة الملا، المصحف الذى تفصل صفحاتة ريشة طاووس، الأجواء الضبابية والرمادية التى تملأ الحجرة بسبب الحرب، أصوات الجارة العجوز التى فقدت عقلها بعد أن ذبحوا زوجها وابنها، وغناء شاب يتغزل فى محبوبته، وأطفال يلعبون على أطلال مدينة، ونباح كلاب تبحث عن جثث.

يحضر الجسد فى “حجر الصبر” حضورا مكتسحا، بل إن الرواية تقتبس فى بدايتها عبارة لأنطونين أرتو تقول :” من الجسد وبالجسد ومع الجسد منذ الجسد وحتى الجسد”، لدينا فى الحقيقة جسدان يقودان الحكاية الى تشريح جسد المجتمع كله: جسد المرأة الأنثى التى تتحرك بحيوية بالغة، وجسد الرجل الذكر الخامد، ليس فى الرواية اسم لأى شخصية، ولكن هناك فقط المرأة والرجل والعمّة والطفلتان وأم الزوج ووالد الزوج وأم المرأة ووالدها والمراهق والرجال المسلّحون، يعطى هذا التعميم الرواية مذاق تلك الأعمال الى تقدم شريحة لمجتمع وليس لشخصيات فقط، سيتضح ذلك تدريجيا عندما تقوم المرأة بتعرية أسرارها الحميمة فتكشف لنا من زاوية أوسع أوضاع المرأة المتدنية فى مجتمع ذكورى وبدائى، لقد تزوجت فى سن السابعة عشرة، ولكن لم تر زوجها الذى كان يقاتل لتحرير بلده إلا بعد الزواج بثلاث سنوات، عاد عاشقا للبندقية، يؤدى مهمته فى التلاحم الصامت بجسدها، يشبع لذته فقط، عندما تأخرت فى الإنجاب، هددت الأم بأن تزوج ابنها امرأة أخرى، لجأت الزوجة الى تلقيح نفسها من رجل آخر، أنجبت طفلتين لزوج لا يعرف أنه عقيم، الزوج أيضا عنوان نموذج لذكور الرواية، أولئك الذين يقاتلون ويصلّون، الذين انتقلوا من تحرير وطنهم الى الحرب ضد بعضهم، الغريب أن الزوج لم يصب برصاصة فى معركة ضد الجماعة الأخرى، ولكن لأن رجلا من جماعته سب أمه، المرأة بالنسبة للرجال كومة من اللحم، بطلة الرواية اضطرت أن تقول إنها مومس حتى لا يغتصبها الرجال الذين يريدون أنثى قطاع خاص للإغتصاب، مراهق صغير يضاجع المرأة فى الحجرة مقابل المال، نكتشف أن عمة المرأة كان بغيا فى ماخور، تزوجت من رجل لا ينجب، تعرضت للإنتهاك الجنسى من والد زوجها فحطمت رأسه، والد المرأة كانت لديه سبع بنات لم يقبل واحدة منهن أبدا، ولكنه كان يقوم فقط بتقبيل الطائر الذى يصارع به طيور المنافسين، تكشف المرأة فى اعترفاتها الجريئة لزوجها عدم فهمه لجسدها، تستنكر تأففه من دماء حيضها، تسخر من حديثه عن الشرف والروح بعد أسقطت الحرب الأجساد والأرواح والشرف.

يغلف البناء المتماسك غلاف ديني وسحري فى آن واحد، المرأة رغم أن اعترافاتها تكشف عن فوضى جسدية وعاطفية، إلا أنها تتمسك فى البداية بوصفة المُلاّ الدينية: الشفاء يتحقق إذا رددت المرأة واحدا من أسماء الله الحسنى تسع وتسعين مرة فى اليوم، وذلك خلال تسع وتسعين يوما، كل يوم اسم محدد، أصبح اليوم بالنسبة لها ليس محسوبا بالثوانى أو بالدقائق أو بالساعات ولكنه يساوى تسعة وتسعين دورة تسبيح، كل تسبيحة تواكب نفساً من رجل فارغ ، تبدأ المرأة بالصلاة بجوار رجلها الحاضر الغائب، تمسك بالمصحف  وتنزعج عندما يسرقه مجاهدو آخر زمن، هناك شعور قوي بالذنب يظهر فى اعترافاتها وفى أحلامها، بل إنها تفسر ما فعلته مع المراهق بشيطان سيطر عليها، تعتبر نفسها ممسوسة، تطلب من الله أن ينقذها من شيطانها، حتى أسطورة حجر الصبر تمتزج مع الحجر الأسود الذى تحتضنه الكعبة، والذى يستمع الى آلام المسلمين الذين يطوفون حوله، تعانى المرأة من انقسام ذاتها بين تجربة مريرة فى مجتمع أهان جسدها وروحها، وبين أحلام وعوالم سحرية تتمنى أن تنقذها من نفسها، وبين مناخ دينى يسيطر عليه الملالى، ويتفرغ فيه الرجال للجهاد والقتل باسم العقيدة، وتعيش فيه المرأة على الهامش، لا يمكنها العلاج بالبوح إلا أمام زوج فى غيبوبة، ولا تستطيع أن تتحرر مثل طيور الستارة التى تحلّق فى سماوات صفراء وزرقاء إلا بالموت.

تقول المرأة : “ما أصعب أن يولد الإنسان امرأة ..وما أصعب أن يولد الإنسان رجلا”، كلا الطرفين جزء من مجتمع شديد القسوة والجفاف، لم يعد أمام الرجل والمرأة إلا المواجهة الجسدية الأكثر عنفا، عودة الرجل من الغيبوبة هى نهاية شهرزاد، وكأنه لا مفر من الموت بعد معرفة الأسرار المدفونة، يتفتت الرجل/ حجر الصبر، تدفع المرأة الثمن راضية، على الأقل تخلصت أخيرا من آلامها وكوابيسها، طفلتاها بصحبة العمة، ومن لم يمت فى منزله، قتلته الدبابات والرصاصات فى الشوارع، مأساة امرأة تتحول بريشة عتيق رحيمى الجسورة الى مأساة كل النساء المقهورات الصامتات، ومأساة كل النساء تترجم مأساة بلد لا يعرف رجاله كيف يمارسون الحب، ولكنهم يعرفون كيف يشعلون الحروب. تقول المرأة لزوجها  بصوت غريب مهيب:” إذا كان كل دين هو حكاية كشف، كشف حقيقة، فإن حكايتنا نحن، يا حجر صبرى، هى دين أيضا، ديننا نحن .. نعم .. إن الجسد هو كشفنا .. جسدانا نحن، أسرارهما، جراحهما، معاناتهما، ملذاتهما ..”، وماكان لجسد أبدا أن يحتمل كل هذه الأسرار.

 

 

مقالات من نفس القسم