حامل القرابين

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 59
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد العزيز دياب

   هو عندي حامل القرابين، رغم أنه كثيرًا ما كان يحمل صينية القهوة، يخرج بها بكل حماس من حجرة صغيرة يسميها أهل المكان “بوفيه”، رشيقا يتفادى الآخرين، يخطو كأن الأرض تنسحب من تحت قدميه، ينقر الباب المصقول المغلق بطرف سبابته ويدلف، يضع فنجان القهوة بحرص ويده مرتعشة تمسح بسمته المتواضعة بحركة محسوبة، يضعها في جيبه مغلفة بالمكر إلى وقت الحاجة إليها، الكل يعرف أنه لا يغيب بالداخل كثيرًا، يخرج وبحوزته ملفات أنيقة تكتمل بها وجاهته وهو يتحدث في مناسبات مختلفة- رغم سريتها- عن خطوط سيرها، أتخيل صورتي، ربما كانت مرفقة بأحد هذه الملفات، قد لا تكون صورة واحدة، إنما أكثر من صورة، فهي إما صورة روتينية وظيفية 4X 6 أفْتَقِدْ فيها الحكمة والانطلاق، أو كروت فوتغرافية تبوح بالحمق والكياسة، رغم ذلك كله هو عندي حامل القرابين، ويمكنه في لحظة ما أن يتحول إلى كاهن فرعوني برأس أصلع محشو بالكهانة.

   كل صباح من الصباحات الوظيفية أضع اسمه الحقيقي في راحة يدى، أتجاهل صرخته وأنا أفعصه فَعْصًا جميلا، استبدله باسم “عنخو”، تطربني موسيقي هذا الاسم وأنا ألهج به، عمره أربعة آلاف عام لكنه طازج، يركض في البراري وراء أنثاه، وهى تستجير من شقاوته: عنخو.. عنخو أرجع لم تتم بعد مراسم عرسنا، أيقظه الضجيج- بعد كل هذه السنين- وهو على راحة كفى:

   “أين أنا…؟”

   ………………..

   فر من على كفى وراح يركض بكل ما أوتى من عافية، أنادى عليه:

   “عنخو… عنخو….”

   الغريب أن عامل البوفيه أجاب ندائي، كأنه كان يعرف أن هذا الاسم له، فتش في جيبه، أَخْرَجَ البسمة التي احتفظ بها إلى وقت الحاجة طازجة… مشعة… خبيثة ، ذلك وقتها، ألْصَقَها على شفتيه، اتسع البوفيه الضيق، صار معبدًا للإله، تقام بداخله الطقوس والصلوات إلى جانب شرب الشاي والقهوة، وراءه مهمة عاجلة الكل يقدرها، فمن غيره يوزع البخور في الطرقات بحركات مسرحية هائلة تجعل الأخرين ينتظرون موعدها، بحرفية يقذف حفنة في “الطاسة” المركونة إلى جانب الجدار، ينتقل بكهنوته من طاسة إلى طاسة إلى أن ينتشر الدخان، يخرج أهل المكان من وراء مكاتبهم بأزياء فرعونية على آخر صيحة، يعرفون أدوارهم جيدًا، يرقصون رقصة “عيد سد” حتى يرضى عنهم الفرعون، فذلك هو عيد جلوسه الثلاثين على العرش، يدخلون المعبد.. ويخرجون من المعبد، ثمة خيل وعجلات حربية جاهزة وتنتظر بالخارج نشوب المعارك.

   هو حامل القرابين، فكل الرشاوى، والهدايا، والإكراميات، والدخان يقدمها المتحايلون.. الأفاقون.. الانتهازيون إليه، يتلقاها في البوفيه بنفس راضية قربانًا للذي يسكن وراء الباب المصقول يشرب قهوة الضحى، ينادى عليه:

   “قهوة الضحى…”

   وهل هناك ما يسمى بقهوة الضحى، حامل القرابين هو من اخترعها إلى أن يقوم بتسجيلها بمكتب براءة الاختراع، يأتي وهو يحملها على الصينية كجوهرة ثمينة لمهراجا هندي، جوقة من الكُهَّان اللطاف مصقولي الرؤوس ينتظمون حوله في تشكيل على هيئة هرم مقلوب في رفقة طيبة إلى مكتب المدير العام/الفرعون.

   وكما هو معرف لا تكتسب القرابين وجاهتها إلا على يد ذلك الرجل كاهن معبد البوفيه الخبيث الذى استدرجني بعد أن اتخذ المعبد/البوفيه زُخْرُفَه، كنت مطروحًا على طاولة وهو يرش حولي البخور العتيق في حضرة كل الموظفين إلى أن يجيء الملك/ المدير العام ويتلقاني كقربان طيب من حامل القرابين.

   “عنخو… عنخو، لا تغدر بي هكذا”

   ………………

   حدث ذلك لأنني لم استمع لنصيحة أحد وأكف عن كلام الذى أنْعَتْ به الرجل الخبيث عامل البوفيه بأنه حامل القرابين…

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون